“سوف تطاردك المدينة”.. والبيوت صدى السنين الحاكي

يمتلئ هذا الفيلم التسجيلي شجنا وحنينا، يجعل من البيوت القديمة شاهدا على زمن وذكريات فريدة، يعتبرها مثل البشر، ويرصد ويوثق اكتساح الشمس للمدينة، تمحوها شيئا فشيئا، فكأنها تمحو وتحذف سنوات من عمرها، ولولا بعض الملاحظات على ضبط البناء والسرد، وعلى تكثيف الشهادات، لكان للفيلم تماسك أكبر وأفضل، ولكنه يظل مع ذلك عملا جيدا ومؤثرا، لشباب موهوبين، نجحوا الى حد كبير في اكتشاف ذاكرة الإسكندرية الجميلة، بشرا ومكانا.

الفيلم بعنوان “سوف تطاردك المدينة” للمخرج أحمد نبيل، وموضوعه أطلال البيوت، وذكريات الناس، على خلفية زمن البلدوزر، وفكرة الهدم، والتخلص من القديم، واستغلال كل مربع، لإنشاء أعمدة الخرسانة الرمادية، وكتل الطوب الأحمر القبيحة، وإذ يبدأ الفيلم بعبارة تحذر من الشمس التي ستمحو كل شيء في المدينة، حتى المقابر، فإن الشمس تظهر في لقطات كثيرة، وهى تشهد صامتة على هدم البيوت المزينة بتماثيل ووجوه، موجة عاتية من المحو، مسلحة بفكرة الربح والتوسع، وكأنها تعبر عن زمنها الجديد، تقول الشهادات أن الموجة تعاظمت في الثمانينيات والتسعينيات، ولكنى أعتقد أنها تسبق ذلك، ربما منذ السنوات الأخيرة من السبعينيات.

أفضل ما فعله الفيلم هو أنه لم يقدم البيوت القديمة منفصلة عن الذكريات التي يتم سردها، بل إن الفيلم يبدأ بذلك الشاب الذى يعيد ترتيب حاجيات قديمة، ومنها صور مختلفة، لبشر لا يعرفهم لا الإطلاق، من هذه النقطة، ومن تجوال الشاب على الكورنيش، ناعيا رصيفها القديم، الذى مشت عليه آلاف الحكايات والذكريات، ننطلق الى شهادات مختلفة عن البيوت القديمة، صوتا وصورة، وآراء مختلفة حول ما فعلته الشمس بالمدينة، الآراء واقعية تماما، كثيرون سيبيعون ويهدمون إذا دفعوا لهم الملايين، هم أبناء زمنهم الذى لا يرحم، في حالات كثيرة يتفق معظم الورثة على البيع، فلا يملك من يرفض الفكرة سوى التسليم.

الرحلة تأخذنا الى أماكن كثيرة فريدة، البيوت وحيدة محطمة، استوقفني كثيرا ذلك البيت الذى أقام فيه الروائي الشهير لورانس داريل، صاحب رباعية الإسكندرية، يبدو المنزل مثل امرأة ذهب عنها الشباب، ولكن فيها بقايا جمال غارب، هناك، فيما يشبه البرج، كان يعيش داريل، لا أحد اليوم يعرف داريل ولا حتى سكان البيت القدامى، وطفل صغير يقول إن البيت أثرى، ولذلك يجب هدمه (!!) هنا يتجاوز الفيلم التوثيق لكى يكشف عن المعنى، ما كان يمكن أن تنتصر فكرة الهدم إلا في مجتمع لا يعرف بالضبط ما يعنيه  وجود آثار نمتلكها، ويجب أن نحافظ عليها.

في حكاية النادي اليوناني زاوية أخرى للمأساة، نشاهد احتفالا قديما في النادي، شباب يحكى ويضحك ويشرب، أحدهم يسرد مسرحية، ويؤدى أدوارها، زميل له يحكى عن عيد ميلاده في النادي، ننتقل فجأة الى لحظات إخلاء المكان، تحويل الذكريات الى كراتين تحملها سيارة نقل، لا ينفصل المبنى عن معناه، ولا ينفصل عن الناس الذين أقاموا فيه، تبدو النباتات أكثر تمسكا بالمكان من البشر، هكذا نشاهد شابا يحمل الكاميرا ليرصد كيف تنمو نباتات في مسار الترام، وفوق قضبانه، استمرارا لنموها القديم، في نفس المكان، في مسار قناة مياه تم ردمها، في الشتاء تظهر هذه النباتات، تتحدى المحو، وتواصل الحياة.

ذكريات من الماضي

لكن شهادة العجوز أحمد سليمان هي قلب الرحلة وعنوانها الأبرز، الرجل يتذكر الإسكندرية القديمة، منذ سنوات العقد الثاني من القرن العشرين، صور الأبيض والأسود فيكل مكان، يحكى عن أصدقائه اليونانيين والأرمن، وعن صديقته الشابة اليهودية، عن حفلات الرقص والتانجو، وعن عائلته التى لم نرها، ولم يسأله عنها صناع الفيلم (!!) نراه وهو يستمع الى لطفي بوشناق  مغنيا الأدوار القديمة، يصطحب فريق الفيلم الرجل العجوز الى منزله القديم الذى ولد فيه، نرى مدرسته العتيقة، ونسعد لأنها ما زالت موجودة، لم تمحوها الشمس بعد، نعرف قرب نهاية الفيلم أن الرجل قد مات في العام 2013، ولكن الفيلم يعيده من جديد وهو يتكلم.

استعادة الرجل بعد ذكر خبر موته من أذكى تصرفات الفيلم، وكأن الرجل يقاوم الموت بالذكرى، وبتلك الأغنية البديعة لعبد الوهاب، ” يا جارة الوادي” ليست أغنية والسلام، ولكنها في صميم  موضوع الفيلم ، إنها أغنية كتبها أحمد شوقي عن مدينة أخرى هي زحلة اللبنانية، واستدعى من خلالها ذكريات حب لا ينسى، الفكرة هنا أن المدن والأماكن ليست أبنية صماء، ولكنها ذكريات حية وراسخة، وعندما يغنى عبد الوهاب بصوته الذهبي: “والذكريات صدى السنين الحاكي”، فإنك تستطيع أن تقول ببساطة: و”البيوت أيضا صدى السنين الحاكي”، والبيوت كذلك ذاكرة المدينة، وكم كان رائعا أن تتسلل الأغنية لتختم الفيلم، مرة على صور بيوت قديمة، ومرة على مشاهد هدم لا ترحم بالمعاول، ثم تستمر الأغنية على عناوين النهاية، وهى في جدل صوتي لا ينتهى مع أصوات طرقات المعاول.

هذه نهاية عظيمة حقا تكشف عن مواهب حقيقية، يمكنها من خلال الخبرة أن تقدم أعمالا أكثر تكاملا، وأن تتلافى مشكلات واضحة يجب ذكرها: أزعجني مثلا عدم ضبط التركيز البؤري في بعض اللقطات، فظهرت ضبابية الصورة للحظات قبل وضوحها، وكان يمكن من خلال المونتاج التخلص من هذه اللقطات، وأتعبتني بعض الثرثرة في الشهادات، كان الأمر يحتاج الى ” فلترة” لكي يأخذ الفيلم ما يحتاجه فقط من كلام الشخصيات.

وكان الأمر يتطلب عموما إعادة ضبط البناء، بحيث ننتقل بسلاسة من شهادة الى أخرى، بل كان يمكن أن تتداخل هذه الشهادات بسهولة، وهناك لقطات بدت غامضة ومقحمة مثل حديث الأب عن شعر صلاح عبد الصبور، ربما كان المقصود فكرة الحديث عن المدينة من خلال الشعر، ولكن ما سمعناه من الأب كان مبتورا، ولم نعرف مصير اقتراح الأب بزيارة صديقه صاحب المحل، الذي ينتظر الموت بين لحظة وأخرى.

كانت هناك قفزات في السرد: كأن يظهر أحدهم فيحكى من نقطة تالية، كأننا نعرفه، الشهادات عموما لم يتم تكثيفها بشكل جيد، وكان يمكن استخدام العناوين المكتوبة على صورة كل متحدث، أو على لقطات البيوت، لملء كثير من الثغرات، وللإجابة على بعض علامات الاستفهام والتعجب، هناك مثلا لقطات لبيوت تُهدم، من المهم جدا أن نعرف ما هي هذه البيوت؟ أين موقعها؟ ما أهميتها؟ ومتى كان الهدم؟، الكاميرا اهتزت في يد المصور، فهل كانت لقطات مختلسة؟ وهل كان الهدم سرا أو في حراسة مشددة؟

بالمقابل هناك مشاهد يمكن حذفها، مثل اختيار موال طويل لبوشناق لكي يسمعه أحمد سليمان، الرجل لم يختر الموال، الذي لا علاقة له بشيء سوى أن شخصا من الفيلم يحبه، شعرت بالرجل العجوز محرجا، بينما كان سعيدا وحرا وهو يختار ما يريد من أدوار لطفي بوشناق.

هذه الملاحظات لا تقلل من جهد صناع الفيلم، ولا تخصم من موهبتهم، ويمكن تلافيها مع رصيد خبرة صنع مزيد من الأفلام، أسعدني أكثر أن الفيلم من إنتاج شركة سكندرية سينمائية، سبق أن قدمت مواهب شابة، وتجارب روائية طويلة، هكذا ترد المدينة، التي شهدت أول عرض سينمائي، وأول أفلام يتم تصويرها وإنتاجها في مصر، على من يهدمها، وتفضح قبح الخرسانة الخرساء، والطوب الأحمر البليد، تنقش الحكاية فوق شريط، فيصبح شبح الذكريات، صرخة احتجاج، وثورة رفض، ضد الشمس التي اكتسحت بوقاحة مؤلمة كل شيء، حتى شواهد القبور.

Visited 62 times, 1 visit(s) today