“سمير أبو النيل”: فيلم رديء عن الفضائيات الرديئة!
المضحك فى فيلم “سمير أبو النيل”، الذى افتتح الموسم السينمائى الصيفى المصرى، ليس مفارقات أحداثة ولا براعة ممثليه، ولكن فى أنه اختار انتقاد القنوات الفضائية الرديئة التى تضحك على عقول مشاهديها، بعمل فيلم ركيك ثقيل الظل يكاد يضحك هو أيضاً على عقول مشاهديه، بدت هشاشة الحرفة فى الكتابة، ومبالغات أبطال الفيلم الأدائية الصاخبة كما لو كانت أسوأ انتقاد ممكن لفضائيات تفتقد الى المهنية والبراعة والذكاء، فأصبح الطرفان، الفيلم والفضائيات التى ينتقدها، فى مأزق واحد، هو أمر غير مقصود بالطبع، ولكنه حدث.
فوضى البث الفضائى، وعشوائية القنوات التى تبيع الأوهام، ودخول كل صاحب “قرشين” الى مهنة الإعلام، كلها موضوعات يمكن أن تصنع أفلاماً كوميدية جيدة، وخصوصاً أن الإسقاط فى “سمير أبو النيل” يقترب بوضوح من نماذج معروفة، يتندر المصريون على ما تقوله فى قنوات تمتلكها، مذيعون بفلوسهم يفتون فى كل شئ، ويفهمون فى الرياضة والسياسة والأدب والفن والدين، وبعضهم يحمل شهادة الدكتوراة.
ولكن المدهش فعلاً أن الفيلم الذى كتبه “أيمن بهجت قمر”، واخرجه “عمرو عرفة”، وقام ببطولته “أحمد مكى”، ظهر باهتاً وخالياً من الابتكار ومباشراً فى مناطق كثيرة، بل إنه كان خالياً من الضحك، لدرجة أنك لو شاهدت برامج الشخصيات الأصلية التى ينتقدها الفيلم، ستضحك أكثر، أى أن الفيلم لم يستطع أن يتجاوز الواقع، ليصنع عنه فناً أكثر عمقاً وجمالاً.
يتذبذب ما يكتبه “ايمن بهجة قمر” بصورة واضحة ما بين بدائية “عندليب الدقى”، الى مزيد من الإتقان مع بعض الملاحظات كما فى “آسف على الإزعاج” و”ابن القنصل” و”إكس لارج”، وقد جاء “سمير أبو النيل” من أفلام الفئة الأولى المرتبكة التى لا تنجح فى رسم شخصياتها، ولا فى تقديم بناء متماسك، ليس أدل على ذلك من أن الحدث الرئيس الذى تنطلق منه الدراما والصراع، لا يمكن تصديقه بناء على ما قدمه الفيلم عن سلوك شخصياته، فهل من المعقول أن يلجأ رجل ثري الى ابن عمه البخيل العاطل الذى يكرهه، لكى يعطيه 550 مليوناً من الجنيهات المصرية، لمجرد أن يتستر وراء نشاطه، ويغسل أمواله القذرة؟!
كيف يمكن أصلاً أن تكون شخصية مثل “سمير ابو النيل” وسيلة لدرء الشبهة عن المليونير الثرى بينما هذا الشاب الأخرق مدعاة للشبهة والريبة بمجرد أن يظهر بشكله وهيئته وكلامه وخناقاته اليومية؟!
اللف والدوران
يظل الفيلم يلف ويدور حول فكرته الأساسية، وهى قيام رجل لا يفهم بإنشاء قناة فضائية يخدع من خلالها الناس، لم يكن الفيلم فى حاجة بالأساس الى مسألة غسيل الأموال التى تكاد تضحك على الجمهور أيضاً، كان صناع الأفلام فى الخمسينات والستينات أكثر بساطة واحترافاً،إذ يكفى أن يرث البطل فجأة أموالاً ليدخل الفيلم الى حكايته الأصلية.
ولكننا سنستغرق وقتاً معتبراً فى تقديم شخصية سمير أبو النيل (أحمد مكى) الذى يتهرب منه الجميع، نعرف أنه خريج معهد الخدمة الإجتماعية، بخيل الى درجة مزعجة، يعيش من تأجير شقة ورثها عن عائلته، يتبادل حوارات تليفونية مع فتاة مصرية تعيش فى استراليا، يتطفل دوماً على أقاربه واصدقائه فى حى المنيل، له شقيق متدين هو الشيخ شكرى (علاء مرسى) يعيش فى القرية، ويزوره إذا سنحت الفرصة، ولديه صديق يعمل أميناً للشرطة يدعى أشرف (محمد لطفى)، وهناك أيضاً ابن عمه الثرى حسين (حسين الإمام) الذى سيغيّر حياته فجأة، وبدون أى توقع.
نموذج مثل سمير هذا ببخله وتطفله وثقل ظله وعلاقاته السيئة مع أهل منطقته، من المستحيل أن يكون الإختيار الأول ولا حتى الأخير لشخص انتهازى مثل حسين، الذى نراه يطلق زوجته بسهوله من أجل الحصول على مغنم مادى من ابنته الوحيدة، حتى طريقة إقناع حسين لـ “سمير” تبدو ساذجة تماماً، فحكاية المرض الذى يقضى على حياة الثرى مستهلكة وتثير السخرية، ومخاوف الثرى من افتراض سطو الآخرين على الثروة لأن ابنته أقل من 21 عاما، لاتقود بالضرورة الى أن يعطى هذه الملايين لمن يمكن أن يبددها بالفعل مثل سمير، ولكن الفيلم لا يعنيه سوى أن تصل الثروة لبطله وخلاص، وأن يقوم بإنشاء قناة فضائية وخلاص، لأن هذا هو الموضوع الأصلى.
ستظل السذاجة والفبركة هى عنوان الفيلم حتى نهايته، وهما نفس المشكلتين اللتين ينتقدهما الفيلم فى أداء الفضائيات، لم يأخذ المؤلف باله أن الثرى حسين لديه مساعدة ( نيكول سابا) يمكن أن تدير أمواله وتغسلها بمساعدة المحامى، دون أى حاجة لاستقدام سمير المكروه، ولم يتوقف أحد عند اسباب اختيار سمير أبو النيل أن يبدأ عالم البيزنس بمستحضرات تجميل فاشلة تمزق البشرة والجلود، وبدا غريباً أن يبدد شخص بخيل 50 مليونأ من الجنيهات (لا يملكها) مرة واحدة فى مشروع قناة فضائية، بينما يمكن أن يتعرض للسجن بسبب حصول الثرى منه على أوراق بما استلمه من المبلغ.
عجائب وغرائب
تتحول الفبركة الى ما يقترب من العجائب والغرائب التى لا تضحك أحداً: الملايين تنتقل فى زكائب الى حجرة فى منزل الشاب البخيل، ولحماية الأموال يدعى أنه يقوم بتربية الكلا ب فى الحجرة، ولكى يصرف أنظار أهل المنيل جميعاً يزعم أنه سيتم تنظيم حفلة للنجمة هيفاء وهبى، أما الاتفاق بين مساعدة حسين وسمير على موضوع القناة فيتم بمنتهى السهولة، ثم تبدأ اسكتشات انتقادية يقدمها سمير عبر قناته، كلها ثقيل الظل، وزادها أحمد مكى سوءاً بمبالغاته الحركية المزعجة، وبمظهره المفتعل، وشاركه فى ذلك محمد لطفى، الذى يخبرنا بشكل مباشر أنه استقال من عمله كأمين للشرطة أقرب الى البلطجى، لأنهم يقومون حالياً بتطهير الوزراة ؟!
يتذكر أيمن بهجت قمر أن الدراما تستلزم صراعاً، وأن اسكتشات سمير أبو النيل الساذجة المتتالية، حولت الفيلم بالفعل الى محطة فضائية، أو الى برنامج تلفزيونى ساخر، الصراع ستخلقه شخصية صحفية غريبة هى عبلة (دينا الشربينى)، يصر الفيلم على تقديمها فى مشهد ساذج آخر، حيث نراها متنكرة فى زى شحاذة(!!) ثم ينحصر عملها ليس فى انتقاد برامج قناة سمير وخزعبلاته، ولا فى التفتيش عن تاريخه وأصله وفصله وعلاقته المريبة بابن عمه، ولكن فى استدراج سمير، وتسجيل اعتراف له من خلال جهاز صغير، وبث الاعتراف عبر الشبكة الإليكترونية الدولية!
سمير طبعا لن يسكت، فالصراع يتطلب أن يرسل بلطجيات من النساء تضربن عبلة، يزيد تورط البطل الفاشل فى النصب على المشاهدين، ويصبح السؤال هو: كيف يمكن حل هذه الفوضى الدرامية؟ الإجابة :بمزيد من الفوضى العشوائية، بنفس لا منطق الفضائيات التى تضحك على جمهورها، تظهر فجأة فتاة التليفون الأسترالية (تلعب دورها منّة شلبى)، تؤنبه على انحرافه، فيستيقظ ضميره فوراً، ويعتزل البث الإعلامى أمام المشاهدين، ثم يسحب حسين فلوسه، أو يستعيدها بعد أن تم غسيلها من سمير، وتوافق فتاة استراليا على الزواج من حبيبها الذى عاد عاطلا بخيلا، وهناك مشهد إضافى لمزيد من العمق : الشيخ شكرى، شقيق سمير، يصبح مقدماً لبرنامج يستغل الدين، ومعه أشرف أمين الشرطة مساعداً، هكذا تسير الأمور، تلفيق فى الفضائيات، وتلفيق فى الأفلام أيضاً!
لم تنجح أبداً معالجة الفكرة، فأصبحت هناك حبكة إضافية، هى قصة غسيل الأموال، التى قامت بالتشويش على الحبكة الأصلية (النصب باستخدام الفضائيات)، بدلاً من أن تخدمها، وتصب فيها، لم تكن هناك أدنى علاقة بين شخصية سمير البخيلة المكروهة التى يسهل كشفها من المحيطين بها، وبين شخصية سمير المحتال الذى جعل الرأى العام يحبه، لايمكن أن تصدق أن الشخص الذى فشل فى أن يخدع صاحب الكُشك أو بائع الفول فى بداية الفيلم، هو نفسه الذى سيبتكر وسائل خداع الناس عبر شاشة الفضائيات.
كان من دلائل الفشل، اللجوء الى الخطاب المباشر للمتفرج تحت شعار: لا تنخدعوا ، الفضائيات بها سم قاتل، وأنتم تساعدون النصابين ببساطتكم (لم يقولوا بجهلكم)، انتهى الفيلم الى اسلوب الخطاب المباشر العبيط الذى يستخدمه أحد أصحاب القنوات الفضائية فى الواقع، بينما استهدف الفيلم السخرية من هذا الخطاب الذى يضحك المصريين فى منازلهم، وبدون أن ينزلوا لمشاهدة الأفلام.
يبدو لى فى النهاية أن الصورة المتواضعة التى ظهر عليها فيلم “سمير أبو النيل” ليست إلا انعكاس للصعود والهبوط فى مسيرة الثلاثى: أيمن بهجت قمر كاتباً، وعمرو عرفة مخرجاً (من تماسُك جعلتنى مجرماً والسفارة فى العمارة النسبى الى فوضى زهايمر)، وأحمد مكى بطلاً كنا نعلق عليه أمالاً كبيرة بسبب موهبته التى تألقت فى فيلم “لاتراجع ولااستسلام”، ثم سرعان ما تراجعت مع فيلم “سينما على بابا”، ليكون فيلم “سمير أبو النيل” خطوة تراجع إضافية جديدة، يحتاج مكى أن يراجع نفسه، كان أسوأ ما فعله هنا المبالغة الحركية التى جعلت للشخصية مظهراً كارتونياً مزعجاً، بينما نحن أمام نموذج واقعى بسيط يمكن أن تراه وتقابله، وساهم الشكل المفتعل وضعف بناء كثير من المواقف فى دفع الجمهور الى حالة الصمت المطبق التى سيطرت على صالة السينما، هذا بالتأكيد أقل الأفلام التى شاهدت فيها جمهور مكى متفاعلاً معه، حتى الأغنية الوحيدة بدت مباشرة حيث تجسد حواراً بين سمير وضميره (مكى ايضاً) على طريقة أفلام الأربعينات، ولكن باستخدام أغانى الراب!
تفتقر الفضائيات العشوائية الى الابداع والابتكار، ويفتقر فيلمنا أيضاً الى نفس الشئ، ومهما كانت أهمية الفكرة التى تتناولها، فإن سؤال الفن المحورى هو كيف ستعالجها، وأعتقد أن صناع “سمير ابو النيل”، الفيلم الطويل المترهل، قد فشلوا تماماً فى الإجابة عن هذا السؤال.