“سحابة أطلس”: 6 قصص وثلاثة مخرجين
في فيلم “سحابة الأطلس” Cloud Atlas (2012) هناك بعض ما هو غير مألوف حقا في تشكيل وبناء الفيلم، منها مشاركة ثلاثة مخرجين في اخراج الفيلم، كما أن الفيلم يتكون من 6 قصص رغم ان بعض الافلام تناولت 6 و5 و4 و3 قصص.
قصص هذا الفيلم ليست فرعية ولكنها مهمة ومتداخلة باشتباك يصعب حله، ذلك لأنها متوزعة على 3 عوالم زمنية مختلفة وممتدة في 5 قرون أي في الفترة من 1849 الى 2346.
أما مناطق أحداث الفيلم فهي في دول عديدة متباعدة بعبور القارات. فهناك قصة هي رحلة عبر المحيط الهادئ ١٨٤٩ والبحث عن علاج لمرض خطير واخرى تقع في اسكتلندا ١٩٣٦ ومواهب الشاب الموسيقي، وثالثة في سان فرانسيسكو ١٩٧٥ والصحافة تتحدث عن مخاطر ضد مفاعل ذري، ورابعة في لندن ٢٠١٢ وهزيمة صحفي الى دار العجزة، واخرى في كوريا ٢١٤٤ والمرأة الآلية ومستقبل القرن القادم، والقصة الأخرى في جزر هاواي ٢٣٤٦ والرجل البدائي بعد نهاية العالم.
ومن غرائب هذا الفيلم ايضا، ان اغلب ممثليه يتناوب أدوارا عدة وبشكل متكرر بحيث يصعب عليك أن تفرز الأشكال والألوان والملابس والطرز والأماكن والأزمنة بفعل الانتقالات، ويسجل هذا الفيلم علامة فارقة في وضع راكورات وتصاميم أماكن وأزياء وفضاءات وحركات لشخصيات بسلوكيات وأداءات تعبيرية ولهجات وثقافات متغيرة ومتلونة من حقبة الى حقبة وبفعل المتغير السردي الذي أفضى يقظا بمعزل عن التقليد والتوقع والاستنتاج.
فيلم “سحابة الاطلس” الذي اكتسب اسمه من اسم السيمفونية التي ألفها الشاب الموسيقي روبرت فوربيشر، يحملك انت كمتلقي (مهمة) ان تعرف ما هي أوجه العلاقة بين امرء عبد يبحث عن الحرية في قرن ما مع نزلاء عجزة يبحثون عن الهرب او مع متوحشين مصاصي الدماء بعد 3 قرون
او شخصيات الية مستنسخة وغيرها، او نزعة موسيقي موهوب ورسائل العشق المحظور، او قصة الصحفية لويزا راي(هالي بيري) التي تلاحق قضية البيئة ضد مدير الطاقة والمفاعل١ وشخصية العجوز الكوميدي جيم برود بينت.
ولكن رغم أن نسيج القصص وأماكنها وحقبها التاريخية مختلفة، إلا أنك تجدها منساقة في خط واحد كانه رابط وثيق لما تحمل من متن قصصي مختلف، وهنا اقدم المخرجون الثلاث على اشتباك مرئي، خلقوا فيه التشتت والغموض والاستفهام الذي يقصدوه بحرفية فنية وباشتغال بصري مدروس وملزم بصناعة تكوينات بصرية فائقة التشكيل وبانتقالات فرضها التصميم المحكم للسيناريو مع تبدلات مدهشة ومتغيرة في الشكل واللون والحركة بفعل دفق الصراع ونمط الحكايات الست الدائرة في الفيلم، وهو ان الحياة وهي في مجرى زمني مختلف ولكنها مشبعة بالفرق بين الحرية والعبودية وبين الأقوياء والضعفاء رغم المتغيرات الحضارية والتقنية الحديثة، ذلك ما يرتبط اصلا بقضية هامة وغاية في الأهمية وهي الأخلاق.
فهناك الطبيب الذي وضع السم لمريضه المحامي بمكر. وهناك الموسيقي الكبير الذي انتحل اسم معزوفة لاسمه بعد ان تنكر لصاحبها، فضلا عن جشع المدن وجحود الابناء في زج آباءهم في (سجون) المسنين.
بالمقابل لن يكتفي السرد متفرجا على ما لحقت به الشخصيات الضحايا من تعسف، فقد أيقظ العبد ـوتوا لإنقاذ المسموم من سمه وكذلك مشهد الإنقاذ من الغرق ومخاطر الهلاك في الحرب وبعده إنقاذ الفتاة من الموت وبمعنى ان الحياة في تقاطع واشتباك متداخل رغم المسافات الزمنية بين الاشخاص والأماكن والحوادث.
شاهدنا في القصص معاني الحب الذي ساد الكثير من العلاقات بين بعض الشخصيات وكذلك المقاومة والوفاء والرذيلة والسمو، مع الرمزية المضمرة في جعل المرء يتغذى على الاخر بدس البروتينات في الطعام.
أما في مرحلة ما بعد نهاية الحياة فقد تفاقم الاستياء لدرجة اصبح الضعفاء مادة يتغذى عليها الأقوياء وان الشيطان لا يمكن تجاوزه، وان هناك ثمة محاولات للخلاص من اكثر من مأزق بعد انهيار الحضارة.
الفيلم تبنى اُسلوبا مونتاجيا حركيا، اذ جعل مسار الأحداث متوازيا احيانا ومتداخلا احيانا أخرى، وبانتقالات متعمدة، وتقطيع متوثب، كسر فيه روح الرتابة التي تبثها مدة الفيلم الطويلة (ثلاث ساعات) مع افراط فائق لمشاهد العنف والقتل بالسكاكين ومشاهد الدماء المخيفة التي لا تخلو من السأم.
بالمقابل هناك تكوينات بصرية جذابة لفضاءات اكثر استرخاءا، تحمل تفاصيل غنية بمكوناتها ومحتوياتها من معان ودلالات وعلامات عن تاريخية وحضارة وتراث الحقبة الزمنية لها.
ومما يلفت الانتباه ان توزيع الأدوار على الممثلين في 6 قصص مختلفة بات مختلفا ايضا، فمثلا البطل توم هانكس الذي يظهر في احدى القصص طبيبا سيئا ومرة موظفا بسيطا في فندق، وعالما نوويا مرتبكا في السبعينات او فردا في عصابة او كاتبا إيرلنديا، ومرة اخرى قرويا مبشرا بنهاية الحياة وموتها في جزيرة هاواي.
كذلك احدى الفتيات الكوريات التي ضحت بنفسها لإنقاذ البشرية بعد ان تعرضت للإعدام أكثر من مرة ومرة، وهذا ما كان متميزا حقا في الشكل الذي تم فيه سرد الأحداث المختلفة نوعا وزمانا ومكانا ودفقاً، والذي ظهر جليا بفعل الاداء المتقن الواعي للممثلين رغم التبدلات التي وصلت الى حالة تغيير الجنس والتي تحصل بطبيعة الدور ومكانه وحدثه وانفعالاته وملابسه ومكياجه والجو التركيبي المرئي للمشهد وحيوية دوره التعبيري.
وبموجب ما عرضه المخرجون الثلاث من هذا المركب البصري المتداخل سينمائيا عبر قصصه المختلفة، يراودنا الاستنتاج ان ثمة اشياء مرتبطة بأشياء اخرى وان بعدت المسافات والأماكن والأزمنة ذلك ما ينعكس على السلوك البشري الذي يشكل كتلة من الافعال المتكررة والمتباينة والمتشابهة وبتأثير لا يخلو من انعكاس حاد أو الى حد ما على ألانا والآخر.
إنه فيلم ذهب به الخيال بعيدا وحرك منظومة التأويل باشتغالات مرئية وبعث تساؤلات عدة في حياة الانسان وذاته ووجوده وإرادته التي من الصعب عليه الاحتفاظ بها دون أدنى انتهاك وسوء مبين. وما طرحه الفيلم والرواية من شخصيات ما هي الا صور لا تخلو من التداخل والتشابه والاختلاف سلبا ام إيجابا.
ومهما يكن من امر فالمرء لن يحيا بمعزل عن الاخرين وأن افكاره لن تموت بل تنتقل الى انسان اخر رغم التباين والاختلاف بين البشر، ومنهم المكافحون والأخيار والأشرار والمنقذون والضحايا وغيرهم.
فيلم “سحابة الأطلس” بحاجة الى ـن نراه أكثر من مرة كي نعرف أكثر عمقا بما دار ويدور في لعبته السردية المتداخلة بتعدد الثيمات والنسق المتغير في التنوع والتقلب وسحر الحوار والابهار البصري.
قصة: ديفيد ميتشل 2004
سيناريو واخراج:
ثلاث مخرجين:
لانا واتشوسكي
اندي واتشوسكي
توم ويكفر
بطولة:
توم هانكس، هالي بيري، هيو جرانت، جيم برودبينت، سوزان ساراتدون، هيو ويفنج.
- * مخرج من العراق