“ستان وأوللي”: كيف أسدل الستار على عالم لوريل وهاردي
أمير العمري
يتوقع كل من يذهب لمشاهدة فيلم “ستان وأوللي”، أن يشاهد عملا كوميديا مضحكا من أفلام التسلية، لكن الحقيقة أنه سيجد نفسه أمام عمل درامي مركب يفيض بالمشاعر والأحاسيس، وإن كان لا يخلو من لحظات كثيرة ممتعة تدفع إلى الابتسام والضحك أحيانا.
يدور فيلم “ستان وأوللي Stan & Ollie” حول واحد من أشهر الثنائيات الكوميدية في تاريخ السينما المعاصرة: لوريل وهاردي، أو ستانلي لوريل وأوليفر هاردي، اللذان ارتبطا وعملا معا لمدة 23 سنة في 23 فيلما طويلا والعشرات من الأفلام القصيرة، وحققا نجاحا أسطوريا قبل أن تبدأ مرحلة الخفوت والألم والمعاناة وانحسار الضوء والخلافات الشخصية والمتاعب الصحية.
يتذكر أبناء جيلنا أن أفلام لوريل وهاردي اللذين أصبحا من أشهر الثنائيات في عالم الكوميديا السينمائية، كانت، وما زالت، تعرض عندما كنا أطفالا، وكنا نشاهدها مفتونين بالمواقف والمقالب الطريفة التي يوقع فيها النحيف “لوريل” رفيقه السمين “هاردي” العنيف الذي يفتك بصاحبه بعد أن يفقد صوابه، لكن الاثنين كانا يتصالحان دائما ليقدما معا رقصتهما الشهيرة.
وكان أكثر ما يعجبنا رشاقة هاردي رغم سمنته المفرطة، وحركته السريعة، وابتسامته الطفولية، ولم نكن نشعر أبدا بالغضب من الورطات التي يتسبب فيها لوريل بنزقه وغبائه المفتعل بالطبع!
ربما لا يشعر جمهور السينما من الشباب اليوم بما كان يقدمه لوريل وهاردي من مواقف كوميدية مضحكة في أفلامهما على نحو مماثل لما يمكن الإحساس به في أفلام شارلي شابلن مثلا، فأفلام لوريل وهاردي تخلو من الفلسفة العميقة، والنقد الاجتماعي الساخر الذي تميزت به أفلام شابلن.
كان زمانهما زمن المتعة السينمائية والاستمتاع وعصر “العرض” و“الأداء”، حينما كانت السينما ساحة للاستعراض بعد أن أصبح هذا النوع من الكوميديا امتدادا لمسرح “الفودفيل”.
ما وراء الكواليس
جاء ستانلي لوريل من ويلز في بريطانيا، ويقال إنه ذهب إلى أمريكا على نفس السفينة التي أبحر عليها شارلي شابلن عام 1912، وهناك عمل في أكثر من 50 فيلما ككاتب ومخرج وممثل قبل أن يلتقي برفيقه هاردي (القادم من الجنوب الأميركي) عام 1926، والذي كان قد ظهر في نحو 500 فيلم قصير، وفي 1927 ارتبط الاثنان معا وصنعا ذلك الثنائي الشهير في سلسلة أفلامهما التي حققت نجاحا أسطوريا.
فيلم “ستان وأوللي” ليس مجرد فيلم من أفلام السيرة الشخصية لأعلام الفن، إنه يستند إلى كتاب “لوريل وهاردي: الجولة البريطانية” الصادر عام 1993 للكاتب أ. ج. ماريوت، لكنه أكبر من مجرد سرد لسيرتهما أو إعادة إنتاج لأشهر الاسكتشات التي كان يقدمها الثنائي الشهير على المسرح، بل دراما كاملة عن الحب والألم والفن، وعن الصداقة والتضحية والفراق، ولكن من خلال الخصوصية التي ميزت العلاقة بين لوريل وهاردي وراء الكواليس، على نحو يخالف الصورة التي عرفها الجمهور من خلال العروض المسرحية والأفلام التي قدماها.
الفيلم الذي أخرجه الاسكتلندي جون س بيرد، نموذج مثالي لأهمية السيناريو وأهمية أن يكون متوازنا، يعكس لحظات القوة ولحظات الضعف، الغيرة والحب، الصداقة والغضب، غريزة التعبير الفني، والمعاناة الخافتة من شظف العيش وقلة المال، ثم الشعور بالإحباط مع التقدم في العمر وانصراف الجمهور بعد ظهور “أبطال” كوميديين جدد في عصر جديد، ومع ذلك، الإصرار على المضي قدما رغم المشاق الكثيرة.
إنه نموذج مثالي على دقة التنفيذ، وكيف يمكن إحاطة الصورة بالعناصر الأساسية التي توفر قوة الإقناع والصدق، وهي دقة تتعلق بالفترة التي تدور خلالها الأحداث وجميع عناصرها: الأزياء وطرز السيارات وتصميم الديكورات وتصفيفات الشعر، وكذلك النغمات اللونية للصورة، وإيقاع الحركة والحديث وطريقة نطق الكلمات مع طرافة التعبير باللغة.
هنا يصبح التمثيل عنصرا أساسيا لا ينفصل عن باقي العناصر بل يعلو بها ويرفعها إلى أعلى مستوى، ومن دون تلك الكيمياء المذهلة والأداء الذي يبلغ قمة المحاكاة والتماثل مع الشخصية من جانب كل من ستيف كوغان وجون س ريلي، لم يكن لهذا الفيلم أن يوجد.
اللقطة- المشهد
يبدأ الفيلم بكتابة على الشاشة تخبرنا أنه “بحلول صيف 1937 كان لوريل وهاردي قد أصبحا أكبر نجمين للكوميديا في هوليوود، دُبلجت أفلامهما إلى لغات عديدة، وأقبل عليها الجمهور في شتى أنحاء العالم، كانا قد بلغا القمة”. ثم تبدأ اللقطة الأولى مع حركة الكاميرا التي تتراجع إلى الخلف لنرى الثنائي داخل غرفة الماكياج. هاردي يجلس على يمين الكادر، ولوريل على اليسار.. نراهما من الخلف لكننا نتبيّن وجهيهما كما ينعكسان على مرآتين على الجانبين.
يروي هاردي للوريل كيف أن زوجته السابقة مادلين التي لم يرها منذ 15 سنة ظهرت الآن تطالبه بعشرين ألف دولار كتعويض عن الطلاق، الواضح أنها تريد نصيبها من النجاح. لكن ما سنعرفه بعد قليل داخل نفس اللقطة التي ستتحول إلى مشهد كامل أكثر من 5 دقائق، أنّ كليهما يعاني من الغبن الشديد ماديا، لوريل مثلا يشكو أنهما لا يحصلان على عُشر ما يحصل عليه شابلن وبستر كيتون وهارولد لويد.
ينهض الاثنان، تتراجع الكاميرا، يتجهان إلى ممر جانبي، تتبعهما الكاميرا من الخلف وهما يواصلان الحديث ويسيران.. يخرجان إلى ساحة الأستوديو حيث يحمل بعض العمال الديكورات ويسير بعض الممثلين الثانويين وهم يرتدون أزياء رومانية تاريخية، يلقي هاردي التحية على هذا، يتوقف الاثنان ليداعبا بعض الفتيات (الكومبارس).. يظهر شخص يخبرهما أنهما مطلوبان في البلاتوه.. ويستمران في السير، وتستمر الكاميرا في السير معهما، وتتعاقب مناظر مصنع الأحلام في هوليوود.
إنه زمن الصعود والتألق والشهرة والقدرة على إبهار الآخرين.. هنا تلعب الإضاءة الساطعة والألوان القوية دورا مباشرا في التعبير عن هذه الفكرة، كما أن إحساس المتفرج بحركة الكاميرا يكسر الإيهام ويمنح الإحساس بأننا نمر عبر مشهد “سينمائي”، إنه مشهد مصوّر في لقطة واحدة درس مدير التصوير العبقري لوري روز جميع تفاصيله بدقة مع المخرج.
حديث لوريل يتركز حول ضرورة تحسين شروط تعاقدهما مع هال روش منتج أفلامهما الذي سنراه بعد ذلك داخل منصة التصوير (البلاتوه) حيث سيدور حوار يكشف طبيعة الشخصيتين: لوريل رجل المتاعب، الثائر الذي يريد إعادة التفاوض ويرفض الظلم والعمل مقابل مبالغ زهيدة، وهاردي الذي يميل إلى المساومة والحلول الوسط والبعد عن الصدام، كما أن لوريل هو العقل المدبر وهو الذي يكتب الأفلام والاسكتشات بجانب التمثيل.
سيدرك المتفرج أنه رغم كل مظاهر النجومية والشهرة، يعاني الثنائي من قلة المال، ربما أيضا بسبب ما اضطرا لدفعه مقابل الطلاق المتكرر، ومع ذلك فهما يمتثلان للمنتج والمخرج المتردد أمامهما ويؤديان رقصتهما الشهيرة أمام الكاميرا في آخر أفلامهما مع روش.
سيذهب لوريل في ما بعد للعمل مع شركة “فوكس”، بينما يبقى هاردي مع هال روش. الآن سينتقل الفيلم من التألق إلى الغروب: إلى نيوكاسل في بريطانيا حيث يصل الاثنان في شتاء 1953 للقيام بجولة مسرحية، أي للظهور العام بشحمهما ولحمهما أمام الجمهور في مدن بريطانية عدة بموجب عقد اتفاق مع المنتج ديلفونت الذي يميل لاستغلالهما.
كان لوريل وهاردي في الواقع قد قدما آخر فيلم لهما معا عام 1950، والآن انصرف الجمهور عنهما مع ظهور مضحكين جدد أمثال نورمان ويزدم الذي ينتج ويروج له ديلفونت نفسه، وطغى عليهما أيضا الثنائي الجديد “أبوت وكوستيللو”. لكن الهدف من قبولهما القيام بهذه الجولة إلى جانب الحصول على بعض المال بعد أن أصبحا يعانيان شظف العيش، أساسا، الترويج والاستعداد لفيلمهما الجديد الذي يفترض أن ينتجه المنتج البريطاني مستر ميفين.
المواجهة والفراق المؤقت
عروض المسرح تتم في مسارح شبه خالية من الجمهور.. ولكن تدريجيا ومع المزيد من الدعاية، وقبيل بلوغهما لندن سيصبح أكبر مسارحها “ليثيوم” مكتظا بألفي متفرج للفرجة على الثنائي الشهير. وبدلا من الفندق المتواضع الذي نزلا فيه في نيوكاسل، ستصبح إقامتهما في “سافوي” أفخم فنادق العاصمة، ثم تصل الزوجتان من أميركا: “إيدا” زوجة ستان الروسية الأصل كما نستطيع أن نتبيّن من لهجتها، كما أنها مغرورة، متعالية ومزيفة لا يعجبها العجب، تسوق لنفسها لا باعتبارها زوجة رجل مشهور بل تزعم أنها “ممثلة” وتخبر كل من تقابله أنها عملت أمام هارولد لويد في أفلام المخرج بريستون سترجيس، لكنها -كما نعرف وكما تكشفها زوجة هاردي- ليست ممثلة بل راقصة “تتحمل الألم”!
أما “لوسيل” زوجة هاردي، فهي نموذج أقرب إلى نماذج أفلام الكارتون، بجسدها النحيل القصير، وصوتها الرقيق الطفولي الحاد، وهي تبدو شديدة التناقض مع الحجم الكبير لهاردي، ويستخدم الفيلم هذا التناقض بين الزوجتين كمقابل للتناقض بين البطلين.
وتقع مفارقات كثيرة بين الزوجتين، وبينهما والآخرين من جمهور الحفلات التي يحضرها الأربعة، هنا قد يتداخل الواقع مع السينما، والحقيقة مع التمثيل، بحيث يصعب كثيرا التفرقة بينهما لدرجة أن الحاضرين يعتقدون أن الأمر محض تمثيل عندما ينفجر الصدام بين لوريل وهاردي بسبب ما وقع قبل 14 عاما عندما تخلى هاردي عن رفيقه وعمل في فيلم من دونه، وهو ما اعتبره لوريل خيانة له.
هذه المواجهة تكشف عن طبيعة الشخصيتين وتناقضهما، ولكن أيضا عن المشاعر التي تجمع بينهما رغم كل شيء، ليس بغرض الاستمرار في العمل فقط، بل بدافع الحب والصداقة والرفقة الإنسانية، فالفيلم احتفال كبير بالصداقة والتكامل النفسي بين اثنين من الشخصيات الكوميدية من الخارج والتراجيدية من الداخل.
أما الفيلم الذي كان الاثنان يتطلعان للقيام ببطولته ليستعيدا أمجادهما الزائلة في السينما (وهو عبارة عن محاكاة ساخرة لقصة روبن هود نشاهد بعض المواقف “المتخيلة” منه بفرض أنها من بروفات التصوير)، هذا الفيلم لن يتحقق بعد أن تخلى المنتج عنه.
علم لوريل بذلك مبكرا، لكنه حرص على عدم إبلاغ هاردي خشية أن يسبب له الإحباط، وعندما يخبره يفاجئه هاردي بأنه كان يعلم، فيجيبه لوريل بأنه كان يعلم أنه يعلم.. وكيف علمت أنني أعلم أنك تعلم؟ ويستمر الاثنان في هذا الحوار العبثي الفكاهي بشكل تلقائي يحوّل الواقع إلى تمثيل مرتجل في واحد من هذه الاسكتشات التي اشتهرا بها.. وهو سر عبقرية الثنائي المدهش.
سحر الفن
عندما يصاب هاردي بنوبة قلبية تحت وطأة جسده السمين، ينصحه الطبيب الاعتزال، وعندما يعلم أن لوريل تراجع عن العمل مع ممثل بديل، وقرر العودة إلى أميركا، ينهض هاردي مجددا ويواصل الرحلة مع رفيقه إلى أيرلندا متغلبا على آلامه، ويختتم الفيلم بمشهد مليء بالأمل والتألق والسحر: سحر الفن وجمال التفاعل الحي المباشر بين الفنان والجمهور.
ينجح سيناريو جيف بوب الذي سبق أن كتب سيناريو فيلم “فيلومينا” (الذي قام ببطولته ستيف كوغان نفسه وأخرجه ستيفن فريرز) في تجسيد العلاقة العجيبة بين لوريل وهاردي، سواء في المسرح والسينما أو في الحياة، وكيف أمكن أن يواصل الاثنان العمل معا رغم تناقضاتهما الكثيرة، بل وربما بسبب اختلافهما في المضمون (لا في الشكل فقط الذي ساهم في نجاحهما دون شك) استمر تعاونهما.
وينجح المخرج جون س بيرد في تطعيم الفيلم بالكثير من المواقف والاسكتشات والرقصات الشهيرة للثنائي من أفلامهما وتقديمها أثناء التصوير أو عند استدعائها في ذهن هذه الشخصية أو تلك، أو من خارج التداعي لتكثف الحالة الدرامية عبر أجزاء الفيلم وعند نقاط محسوبة بدقة ومن دون إقحام، لكنه لا يستخدم أي مواد حقيقية من أرشيف لوريل وهاردي إلاّ بعد المشهد الأخير من الفيلم مع نزول العناوين النهائية.
ويخبرنا الفيلم من خلال الكلمات التي تظهر على الشاشة في النهاية أن أوليفر هاردي توفي عام 1957، وأن ستانلي لوريل لم يعمل أبدا مع أي ممثل آخر من بعده إلى حين وفاته عام 1965.
يبقى أفضل عناصر الفيلم جميعها عنصر التمثيل: يجب أن نرفع القبعة لجون ريلي وستيف كوغان فقد فهما الشخصيتين الأسطوريتين، ووقعا في غرامهما وعاشا داخل جلديهما، ولولا ذلك الحب والإيمان بتاريخهما وموهبتهما، لما جاء الفيلم على هذا النحو من الجمال. إنه متعة للعين وللقلب.