“سبارتاكوس” والمعاني الإنسانية الكبرى
في نهاية الخمسينات كان أحد مُؤلفي السيناريو الأمريكيين مُلاحقًا ومُتهمًا بتُهم الانتماء للشيوعيَّة، وظلَّ يُعاني طويلاً هذا الاتهام في عيون الآخرين، وهذه المعاملة التي تجعل الإنسان منبوذًا وتفقده شعوره بإنسانيَّته. فقرَّر أن يكتب فيلمًا يُعبِّر عن آلام البشر المُضطهَدين.
ولأنَّ أقسى درجات الاضطهاد هو الاستعباد رأى فيه اختياره الأفضل ليبثَّ كل شكواه من خلاله. كان الفيلم ثوريًّا على كل سلوك يعامل الإنسان بامتهان لإنسانيته. مما جعل أحد مُمثلي العصر يعجب به، ويبحث له عن مُخرج مناسب. حدثت في طريقهم تحالفات وخلافات وأنفقوا مبلغًا ضخمًا حينها (12 مليون دولار). وفي النهاية أخرج لنا المؤلف دالتون ترامبو، والممثل كيرك دوجلاس، والمخرج ستانلي كوبريك أحد أهمّ الأفلام التاريخيَّة، وأحد علامات السينما العالميَّة اللامعة وهو فيلم “سبارتاكوس” عام 1960.
تدور احداث الفيلم في “روما” القديمة، وعلى التحديد في القرن الأول قبل ميلاد السيد المسيح حينما أصبحت روما أحد أعظم الحواضر، وأسستْ حضارة أوربيَّة وإمبراطوريَّة ضخمة تُعرف بـ”الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة”. وفي ظلّ نمو الامبراطورية زادت حاجتُها إلى العبيد الذين يخدمون طبقة النبلاء. وصارت مكانًا لأضخم تجمُّعات الرقيق. وعندما زاد الرقيق هذه الزيادة الملحوظة بدأ الأمر يدخل حيِّز الخطورة. خاصةً في ظل معاملة قاسية تُمارس عليهم. فقد كانوا يستغلون العبيد لترفيه أسيادهم بكل الطرق؛ بما فيها مصارعة بعضهم حتى الموت، أو منازلة حيوانات ضاريَّة مثل الأسود. لذلك قامت عدة ثورات من العبيد ضدّ الدولة؛ كان من أشهرها ثورة العبيد الثالثة التي خرج فيها أحد العبيد واسمه “سبارتاكوس” ليشعل مع مجموعة من رفاقه نيران الثورة مُكتسحًا أراضي روما.
يعتبر الفيلم صيحة من صيحات الإنسانيَّة التي تعزز قِيَمها أمام قيم غير إنسانيَّة؛ أهمُّها رغبة الإنسان في التحكم في أخيه إلى حدّ الموت والحياة. وقد أفعم هذه المعاني في الفيلم تجربةُ المؤلف الحقيقيَّة في مواجهته لتُهم الماكارثيَّة. وهنا نجد المؤلف يصبُّ جزءًا كبيرًا من اهتمامه على مجلس الشيوخ المُوازي في روما القديمة، ويتعرَّض لكل المشاعر والأفكار التي تُذكي التحكُّم في الغير وتزيد في النفس السلطويَّة. في مقابل الحبّ والرقة والعذوبة في أمثال شخصيات سبارتاكوس، فيرينا، والعبد المُغنِّي.
الفيلم اهتمَّ بمعانِ كثيرة قد يكون من أهمّها التحكُّم في الغير، والتهالُك نحو السلطويَّة، لكنَّ أرقى معانيه تمثَّلت في استخدامه لأسلوب المقابلة أو الموازنة بين أحلام السلطة وأحلام البُسطاء، بين آمال الطامع في المزيد من النفوذ وآلام الطامح في القليل من حقوقه، بين روح القيادة الحرَّة النزيهة وبين غدر السياسة وآلاعيبها. وهناك عدة مشاهد نُفِّذت عن طريق تقنية تُسمَّى بـ “المونتاج المُوازي” توضح أنَّ هذه المقابلة أحد أهم ما يطمح الفيلم في زرعه في نفوس مُشاهديه.
وفي الفيلم حوار لطيف جدًّا بين سبارتاكوس ومبعوث تُجَّار البندقيَّة عن المحاولة الإنسانيَّة في ظلّ الصعوبات التي قد تواجهها هذه المحاولة. والتي قد تجعل محاولة الإنسان ضربًا من المُحال من الجميل أن نتأمَّلها.
واستمرارًا لأسلوب المقابلة في المعاني نجد الفيلم يستغلّ شخصيتَيْن في مجلس الشيوخ هما كراسوس وجراكوس ليعرض لنا نموذجَيْن مُتقابليْن من السياسة ما بين اعتبارات الشرف والمجد والتقاليد والحزم وبين اعتبارات العمليَّة والبرجماتيَّة النفعيَّة. وما زال هذا الحوار يدور في جنبات السياسة وعلومها حتى الآن، وسيظلُّ دومًا.
أبرعَ ما في السيناريو تفادي السذاجة في تناوله لرجال عالم السياسة؛ فلمْ يُقدِّم نموذجًا للخير المطلق ونموذجًا للشرّ المُطلق، بل قدَّم دوافع حقيقيَّة لكل اتجاه، وقال بأنَّ لكل اتجاه شيئًا من الصواب يستند عليه. وهذا ما يضع أمام المشاهد نماذج حقيقيَّة أبعد عن النماذج الكرتونيَّة التي تقدم دائمًا. من ناحية أخرى تجريد شخصية سبارتاكوس، التي قدَّمها المؤلف بصورة أقرب للمعنى المُجرِّد منها للإنسان، وكأنَّها معاني مُشخَّصة -أيْ في صورة شخص- معاني البحث عن الإنسانيَّة، والرغبة في العيش الكريم، والتفاعل مع الحياة بطبيعيَّة وبحُريَّة، والتمتع بحبّ هادئ مع زوجته ومع الآخرين.
قبل ستين عامًا لمْ يكن هناك خدع رقميَّة ومنظومات كاملة من (VFX) التي تبهر عيوننا الآن فاستغلَّ ستانلي كوبريك اللوحات الورقيَّة المَرسومة، وكذلك التكوينات الكرتونيَّة (الماكيت)، ومواقع التصوير المُحاكي (الاستوديو الداخليّ) في إكمال ما لا يستطيع التصوير الحقيقيّ أن ينجزه أصلاً. وهذه وحدها يجب أن تُحترم. كما أعطانا وليمة من زوايا التصوير، وحركات الكاميرا. كل هذا صنع حقًّا فيلمًا يُحترم على صعيد الإخراج. كما لا بُدَّ في هذه النوعيَّة من الأفلام أن نُراعي فكرة التعامل مع المجاميع (وهم هؤلاء الأفاضل الذين يمثلون دور الجنود في الجيوش وغيرها) وقد أحسن التعامل معها. وكذلك التعامل مع الأداء التمثيليّ الذي امتاز هو الآخر وهذا من لمسات المخرج.
الممثلون جميعهم أجادوا أدوارهم وكثير منهم ترشَّح لجوائز كبيرة وقد فاز الممثل بيتر أوستينوف الذي قام بدور مدير مدرسة العبيد بجائزة أفضل تمثيل مساعد في الأوسكار. والحقيقة أن اثنين من الممثلين سيخطفان عينَيك هما لورانس أوليفيه الذي قام بدور (كراسوس) الذي سيجبرك على احترامه وتصديق أدائه المتفرِّد، والآخر هو تشارلز لوتون الذي قام بدور (جراكوس) هذا الممثل استطاع بحنكة واقتدار أن يفرِّق بين ما يقوله وهو أمام مجلس الشيوخ ثم هو يصارع الأوَّل بصورة مثيرة للإعجاب. وهنا لا يجب أن ننسى مِرآة الفيلم كلِّه وهو كيرك دوجلاس الذي قام بدور (سبارتاكوس) نفسه والذي ما كان للفيلم أن يصنع تأثيرًا لدى المشاهد إلا بإقناعه إياه بكل تفاصيل دوره، وأحقيَّة وجوده على الشاشة.
الأفلام التاريخيَّة لديها خصوصيَّة في التنفيذ وهي دخولها في حيِّز خاص بعيدًا عن عالمنا الذي يعيشه المُشاهِد لذلك عليها عبء ليس على بقيَّة الأفلام؛ وهو أن تجعلك تصدِّقها وتقتنع بها. هذا العبء يُلقى على جزئيَّات كثيرة مظلومة دائمًا في تقييم الأعمال السينمائيَّة ولا يذكرها الكثيرون ممن يكتبون عن الأفلام مثل الأزياء، التزيين وتصفيف الشعر، تصميم الإنتاج، الموسيقى. كل هذه العناصر كانت بالغة الجودة في فيلمنا البديع هذا. وقد حصلت عناصر الأزياء وتصميم الإنتاج على جائزتَيْ أوسكار. لكنَّ الموسيقى هي أظهر ما قد يقابلك أو يسحر حسَّك بالأساس.
اعتمد التأليف الموسيقيّ في الفيلم على مقطوعتَيْنِ اثنتين واحدة منهما للمشاهد القتاليَّة ومشاهد الخطر، والأخرى لمشاهد الرومانسيَّة أو العاطفة المحضة. وقد تمَّ استخدام المقطوعتين كثيرًا في الفيلم -وهذا يكون قرار مخرج الفيلم لا المُؤلِّف الموسيقيّ-. لكنَّ الاستخدام كان يخفّ في مشاهد الحوار، ويتركَّز على مشاهد الصورة وحدها. ولا داعي لتكرار وصف التأليف الموسيقيّ بالإجادة فسماع بعض ما في الفيلم كافٍ لتقرير الأمر. وهناك مقطوعات أخرى غير الاثنتين لكنَّها كانت جانبيَّة أو مقطوعات مُساندة.