“زنقة كونتاكت”.. شرفة تطل على الجحيم

فيلم “زنقة كونتاكت” هو الفيلم الأول للمخرج المغربي الشاب إسماعيل العراقي، فيلم أنجز بثقة في النفس وبحرفية عالية مما سهل مأمورية أن يعرض بأكثر من مهرجان سينمائي دولي. موضوعاته هي سحر الموسيقى، وضرورة الفن، والمهانة التي يمثلها البغاء، وثقل أن تكون هامشيا في مدينة، هي مدينة الدار البيضاء، مترامية الأطراف وتجمع بين المتناقضات. هو فيلم موجه في الآن نفسه للجمهور العريض ولكل الذين يستطيعون الكشف عن بعض إحالاته السينيفيلية وعن أنسابه الرمزية المتعددة بما أنه عمل فني لا يخفي هُجنته وتَحاوره مثلا مع أفلام المخرج الأمريكي كوينتين تارانتينو وأفلام الويسترن سباكيتي.  

كما أنه فيلم متوحش، يخاطب الغرائز، ويريد أن يتخلص من عبئ ما، أن يزعج ويهدد وأن يجعلك تخاف شيئا غير محدد وتشعر بقلق دفين.

                                                                                                                                                                                                     والفكرة الأولى التي تلح على المتلقي بعد المشاهدة الأولى لفيلم “زنقة كونتاكت” هي أنه ليس بالضرورة فيلما مغربيا، وأن الدار البيضاء تتوقف أحيانا عن أن تكون مدينة مغربية، وأن العنف ظاهرة كونية والإجرام والدعارة يتشابهان في كل المجتمعات.

 فالمخرج إسماعيل العراقي لا يريد، كما صرح بذلك في أكثر من سياق، أن يخبر عما يقع ببلده، بل يرغب في أن يقتسم مع الآخرين حرقة يشعر بها في دواخله. فهو قد عاش تجرية إنسانية حدية إذ كاد أن يُقتل خلال عملية إرهابية وقعت بباريس، مما جعله ينجز فيلمه الأول هذا بحس مأساوي وبلهفة من يكتب وصية أو تقريرا مموها عما حدث.  إنه من “زمرة الناجين” من هلاك أكيد مثله في ذلك مثل الشخصيتين الرئيستين في الفيلم رجاء العاهرة المتعبة ولارسن الموسيقى المحبط.

ويندرج الفيلم ضمن السينما السوداء بجرائمها وشخصياتها الغامضة وأجوائها القاتمة وإمرأتها الفاتنة المرهوبة الجانب وببعض المواقف المأساوية التي تتحول إلى مصدر للضحك والهزل، كما يمكن إدراجه بسهولة ضمن الأفلام الموسيقية بالنظر لاعتماده على موسيقى الروك وموسيقى مغربية عتيقة وأجواء تجعل من الموسيقي فاعلا مؤثرا ومصيريا.

إن شخصيات الفيلم، بما فيها الشخصيتين الرئيسيتين، تعاني من التآكل الداخلي وتعاني من سوء تفاهم حاد مع واقعها ومن انفصام عنيف يبدو جليا مثلا في أن معظمها يحمل على الأقل اسمين، فـ”برايان” يصبح أحيانا إبراهيم، وعبد الرحيم يناديه المقربون “أوباما”، ونسرين هو الاسم الحركي لرجاء، المرأة الفاتنة التي لم تحسن الحياة معاملتها، كما يحدث أن ينادي أحدهم لارسن بلحسن.

وقد اعتمد الفيلم على ممثلات وممثلين مبدعين ومحملين بشغف قوي وحملوا الفيلم  عاليا  مثل أحمد حمود الإكتشاف السعيد  وخنساء باطما التي هي فنانة  لا غربية ولا شرقية، بل  افريقية ومتوسطية  نالت عن دورها جائزة أحسن ممثلة  بدورة 2021 من مهرجان البندقية السينمائي ، والمتفرد سعيد باي الذي نشعر به دوما موصولا إلى تيار كهربائي عال، وفاطمة عاطف الفنانة ذات التقاسيم القاسية التي تشبه طلتها طلة شخصيات المآسي الإغريقية و هي  منزوية في اقاصي الصحراء تنتظر حريقا مرتقبا، قد يجر معه الدار البيضاء كذلك كما يعلن عن ذلك عنوان الفيلم في صيغته الإنجليزية.

مخرج الفيلم اسماعيل العراقي

ويركز الفيلم خصوصا على مساري ومصيري كائنين أنقذتهما الموسيقى من الفناء المبكر، وربطت بينهما قصة حب بعد أن جمعت بينهما صدفة تمثلت في حادثة سير. يتعلق الأمر بلارسن سناك مغني الروك المنسحب من عوالم الأضواء، المدمن على المخدرات القوية، المرهف والحالم والذي تحاصره الكوابيس والإستيهامات. لقد عاد لارسن سناك، أي لارسن الثعبان، من بعيد بعد غيابه عن الدار البيضاء لمدة 20 سنة مما جعل معجبا تعرف عليه يقول له: “كنت أظن أنك ميتا”.

والشخصية المحورية الثانية هي رجاء المرأة القوية والهشة التي وجدت أن رأسمالها الوحيد هي أنها مثيرة وجذابة، فاضطرت لتعرض “لحمها الطري” على من يستطيع تأدية الثمن، متحملة في ذلك العنف اللفظي والجسدي والإهانة تلو الإهانة في مغرب القاع، رجاء التي اغتصبت من طرف أقراد عصابة وسط ساحة شهيرة بوسط الدار البيضاء، فتحولت، دون سابق ترتيب، إلى مومس عنيدة. لها صوت رائع وإحساس رهيب بالحاجة إلى شخص يرعاها، وهي تبدع أشعارا ساذجة ولكنها جارحة، وترفض أن يعتبرها الآخرون ضحية. وتثور على الوسيط الذي يستغلها ويشغلها ويسلمها للزبائن دون أن ترمش عينيه. وبسرعة، شأت بين لارسن ورجاء علاقة تواطؤ وانجداب لانهما عرفا بسرعة أنهما يتشابهان   وأنهما قريبان من بعضهما البعض، مما سيمكنهما في الأخير من أن يجعلا عالم الموسيقى والفن يحتضنهما بعد أن سأل لارسن رجاء ذات لقاء: ” لماذا لا تغنين؟” وكان سؤاله بمثابة المدخل والحافز لكي تستعيد رجاء ثقتها في نفسها وفي قدراتها، وتنجح في أن تعتلي خشبة مسرح لتغني أمام جمهور متطلب ولتصبح الموسيقى خلاصها وملاذها.

وحضور رجاء الطاغي جعل موضوعة المرأة موضوعة مؤسسة في هذا العمل الفني الذي يذكر ضمنيا بمقولة رائجة تعتبر أن مدى تطور المجتمعات يمكن قياسه بمدى الإحترام الذي تحظى به النساء. وفي الفيلم حالة ثانية تسلط الضوء على القهر الذي تعيشه النساء هي أم لارسن التي تعرضت للتعنيف والقتل من طرف زوجها فظل طيفها يطارد الإبن ويلاحقه.

وفي   هذا الفيلم   نجدة عنفا في العلاقات وتشويقا وشجارات دائمة   وملاحقات كتلك التي قد نشهدها في أفلام الويسترن، وننصت لحوارات بذيئة وتعابير لاذعة تتكرر إلى حد التخمة. وننزعج حينما أنفسنا مضطرين إلى أن نقر بأن العنف الفائق والمجاني يمكن أن يكون مغربيا كذلك، وأحيانا   نشعر أننا   إزاء فيلم أمريكي مدبلج إلى الدارجة المغربية، أو إزاء منتوج فني اختار   مزج صوره ببهارات قوية وحريفة قد تصطدم من ليس متعودا على تذوقها علما  أن الحوار مكون يكاد يكون جوهريا  في التحكم في إيقاع هذا  الفيلم.

إن هذا الفيلم يجعلك تشعر بما يشبه الإختناق وأنت تشاهده، لكن بعد خروجك من القاعة المعتمة، تحس بأنك ترغب في أن تتصالح مع عوالمه وأجوائه هذا الفيلم، وتبحث له عن أعذار تبرر بعض كبواته كما قد تفعل مع مراهق عزيز عليك، وتحاول أن تتفهم لماذا تصادفنا المخدرات القوية وكؤوس الويسكي    في العديد من المشاهد، ولماذا تحرص الشخصيات على ارتياد كاباريهات وحانات سيئة السمعة ومضاءة بشكل خافت وكأنها تريد أن تحفظ أسرار روادها. وهذه الشخصيات المرتبكة التي نادرا ما تشعر بالإطمئنان لا تتردد في انتقاد المتشددين والمتعصبين وتجعل ممارستها للموسيقى وشغفها بالغناء سلاحا في مواجهة والتعنت والتطرف.

 غير أننا لم نستطع في الأخير أن نؤجل طرح هذا التساؤل الذي قد يحسبه البعض نشازا: ما هي القيم التي يدافع عليها هذا الفيلم؟ وما هي الرسالة التي يريد أن يوصلها إلينا رغم أنه ليس بالضرورة ساعيا للبريد؟  وتبقى الخلاصة الأساس التي ترافقنا بعد مشاهدة هذا الفيلم هي أن   المدن العملاقة في عمقها مدن ظالمة، تضهد الأفراد وتعنف النساء وتجعلنا نتوجس من المستقبل لنلوذ بالفن رغم هشاشته أيا كانت تعبيراته وتلويناته.

  • ناقد من المغرب

Visited 30 times, 1 visit(s) today