“زكريا عبد الحميد:” هاوي السينما.. مسيح يصلب من جديد
كلما تأملت حياة صديقى ومرشدى إلى عالم السينما الناقد والمخرج زكريا عبد الحميد الذى رحل عن عالمنا مؤخرا، تذكرت عنوان رواية نيقوس كازانتزاكس الرائعة المسيح يصلب من جديد.
سوف يبدو اسم زكريا غير مألوف للكثيرين حتى ممن يعملون فى مجال النقد أو الإبداع السينمائى. ولا أستطيع أن ألومهم كثيرا لأن إنجاز زكريا فى المجالين لم يكن غزيرا بالقدر الذى يحقق لإسمه التكرار والإنتشار. كما أن غيابه عن الساحتين إستمر لما يقرب من العقدين الكاملين، قضاهما فى حالة من الإعتكاف الإجبارى قبل أن أتلقى خبر وفاته الأليم منذ أيام قليلة. لا تشرد بذهنك بعيدا، فلم يكن زكريا مطاردا من أمن الدولة، فآثر الإختفاء والعزلة، ولم يكن ضحية لحروب مع منافسين حاقدين أدت إلى إحباطه وإجباره على الإعتزال.
ولكن الحقيقة التى يجب أن يعرفها الجميع والتى أرانى مسئولا مع قلة من أصدقائه عن نشرها هى أن زكريا كان فنانا حقيقيا وصادقا وموهوبا. كما كان ناقدا من طراز فريد ومميز.لكنه لم يكن من هذا النوع من البشر الأدعياء القادرين على إحاطة أنفسهم بالأضواء. وعلاوة على هذا فقد كان رجلا على أعلى قدر من الإنسانية والدماثة و الطيبة والتسامح والمحبة لكل البشر. كان زكريا نموذجا للفنان والمثقف الذى لاتنفصل كلماته و إبداعه عن روحه وشخصه المعطاء.
التقيت به فى أول إجتماع لى مع لجنة الإنتاج بجمعية الفيلم فى منتصف الثمانينات بمركز الثقافة السينمائية. كان معظمنا من الهواة الذين لم تسبق لهم أى خبرة أو تجربة فى مجال الإبداع أو النقد.
كنا مجرد أعضاء جدد فى جمعية الفيلم العريقة نأمل أن نتعلم من خلالها الكثير عن فن السينما. كان زكريا نجما بيننا، فهو الوحيد الذى سبق له أن أنجز فيلمين من إنتاجه وتأليفه وإخراجه أولهما (الذى يأتى ولا يأتى) من انتاج 1982، مقاس 16 مم ومدته 7 دقائق. وهو عن قصيدة للشاعر العراقى عبد الوهاب البياتى.. ويعتبر محاولة لتقديم رؤية سينمائية لحالة الوحدة والانتظار، لا تعتمد على ترجمة أبيات الشعر الى صورة سينمائية بقدر ما هى وسيلة للتعبير عن تأثير هذه الأبيات على صانع الفيلم، وبالتالى تعبير عن رؤيته أو فهمه الخاص لها من خلال لقطات تكاد تكون تسجيلية لبعض شوارع القاهرة مع ربطها بلقطات لشخص يجلس فى حالة انتظار.. ولقطات أخرى لنفس الشخص يقف تحت لوحة تحمل عنوان الفيلم و القصيدة الذى يأتى ولا يأتى.
أما الفيلم الثانى “يوم آخر” فهو من إنتاج 1983 مقاس 8 مم سوبر ومدته 12 دقيقة. ويدور حول يوم من حياة موظف قاهرى يعانى من الفراغ والوحدة.. ويتضمن بعض اللمحات الموجزة والدالة على حالة الفراغ .. والتناقض بين عالم وسط المدينة حيث يعمل، وبين المنطقة التى يسكن بها.. بين عالم مريح وبهيج وآخر يئن تحت وطأة التكدس والضوضاء والكآبة.
كان زكريا من أكثر المهمومين بالشارع القاهرى وما يحمله من تناقضات وما يعكسه من أفكار. وتواصل إخلاصه لهذا الموضوع مع فيلمه الثالث “خناقة شوارع ” وهو المشروع الذى تقدم للجنة الإنتاج بجمعية الفيلم لإنتاجه. وهو عمل تجريبى يتناول شارعين يرمز احدهما الى الحاضر والآخر الى الماضى. ومن خلال الحوار أو الصراع بين القديم والجديد .. الاصالة والمعاصرة يكمن المعنى .. يتحدث الشارعان عبر الأداء الصوتى ويدافع كل منهما عن وجهة نظره. ويتداخل معهما راوى محايد حيث تتوازى الأصوات مع الصورة المعبرة.
وهكذا كانت خبرات زكريا تسبقنا بكثير كما كانت ثقافته السينمائية العميقة تبهرنا إلى أقصى الحدود. وعلى الرغم من هذا كان يتعامل معنا بمنتهى التواضع بل إنني لم ألتق فى حياتى بإنسان قدم لى كل معلوماته بمنتهى السهولة وأجابنى عن أسئلتى وإستفساراتى المملة بكل الوضوح والإجتهاد لتوصيل المعلومة دون كلل ولا ملل من قدرتى الضعيفة على إستيعاب أمور كنت أجهلها تماما.
لم يضيق زكريا حين علم أن سيناريو فيلمى (بدون تعليق) هو الذى وقع عليه الإختيار ليكون باكورة إنتاج اللجنة وسوف يسبق مشروعه شبه الجاهز للتنفيذ. بل كان شديد الحماس لى ولفيلمى ولم يتوقف عن إبداء الملاحظات والإقتراحات وإسداء النصائح لتطوير السيناريو بمنتهى الإخلاص والأمانة. وكان يوجهنى ويصحح لى مفاهيمى فى الأمور الفنية والتقنية بأسلوب رقيق ودون أن يمارس دور الأستاذ أو الموجه، بل بطريقة عرض الأفكار، باعتبارها قد تكون مفيدة أو نافعة لو إقتنعت بها وحققتها بطريقتى.
كانت مناقشاتنا أيضا بعد مشاهدة الأفلام فى نادى السينما وجمعية الفيلم تكشف لى عن حسه السينمائى الراقى وقدرته على النفاذ الى الأفلام من زوايا جديدة ومضيئة وكاشفة. لم ألتق فى حياتى بشخص تعامل بكل هذه الروح المتعاونة. كانت تجربتى المريرة وأنا فى طريقى للتحقق تؤكد لى أن الكل يغلق مخزون ثقافاته وخبراته الفنية، وكأنها أسرار عسكرية لا يخرج منها إلا بالقطارة، وكثيرا ما يكون هذا بعد الإفصاح عن مطلب مباشر مادى أو معنوى.
كانت مقالات زكريا القليلة أيضا هى العين النافذة والصديق الصدوق الذى يطلعك على أسرار الفيلم ويلقى لك بمفاتيح فهمه و إستيعابه و تأمله من أقرب منظور للرؤية السليمة.
سوف يظل مقاله عن الحسية فى فيلم (الطوق و الإسورة) من أهم و أمتع ما قرأه أبناء جيلى عن هذا الفيلم، بل و فى مجال النقد السينمائى عموما. فهو لا يقدم تغطية نقدية كاملة للفيلم كالمعتاد، وإنما يركز على ما يراه الجانب المميز له أو مفتاح الدخول الأوسع لعالمه والأقدر على الإحاطه بمعظم جوانبه.
إنه الجانب الحسى العالى الراقى الذى يحتل مساحة مناسبة فى هذا الفيلم الذى يرصد ملامحه سريعا فى أفلام سابقة لخيرى بشارة تسجيلية أو روائية.
إنه يطلعك بعينه الثاقبة المدربة على هذا الملمح الذى يطبع سلوكيات وتصرفات وتحركات وأداء أغلب شخصيات وأحداث الفيلم بطابعه الذى يشع بطزاجة وحيوية الممارسات الحياتية اليومية المتكررة لاهل القرية التى يعانى اهلها كغيرهم من ثالوث الجهل والفقر والمرض، دون اغفال للواقع الخاص بهذه القرية.
وهو يتمكن كناقد بارع من أن يربط بين هذا الملمح الشكلى والرؤية العامة للفيلم عبر فهم عميق للفيلم و النص الأدبى المأخوذ عنه فى قراءة نقدية مقارنة متمكنة ونادرة.
كان زكريا ناقما على هؤلاء الذين يطلبون منك أن تدين لهم بالطاعة والولاء بل والتبعية إذا لجأت إليهم فى طلب أو سؤال. فقد تمكن بأسلوبه العصامى منذ بداية شبابه من أن يثقف نفسه وأن يعبر عن موهبته بقروشه القليلة وإمكانياته المحدودة. لم يسع مطلقا لإستثمار علاقاته أو أصدقائه أو تلاميذه، بل إنه كان يتجنب بحساسية شديدة مجرد مقابلة صديق بمجرد أن يعلم أنه تبوأ منصبا أو حقق نجاحا أو أصبح تحت دائرة ضوء تجذب إليه المنتفعين و المنافقين.
على مقهى بوسط المدينة أمكننى أن ألتقى به بعد بحث شاق بعد أن توليت رئاسة قصر السينما. كنت أعلم أنه يمر بضائقة مالية رهيبة ألزمته البيت بعد أن سوى معاشه فى سن مبكر جدا، على إثر قرار أرعن بأن يتفرغ للكتابة والإبداع. حاولت أن أقنعه أن يشارك فى أنشطة القصر وكنت اعلم أنه أحق بحكم موهبته وثقافته بالمكافآت الهزيلة التى يمنحها القصر مقابل إدارة الندوات أو إلقاء المحاضرات. كانت هذه المبالغ المتواضعة كفيلة بأن تنعشه فى حياته الجافة و ظروفه و أحواله الخانقة ولكنه رفض بإباء و شمم . واعتقد أن إشتراكه فى نشاط القصر بإسمه المغمور كفيل بأن يضعنى فى حرج وتهمة مجاملة صديق.
كان يحدثنى عن خطته لعبور خط الفقر المميت بالصبر والاحتمال ثلاث سنوات أخرى حتى يتحسن معاشه ويرتفع دخله قليلا ليتيح له شراء الجرائد و الكتب وامتلاك حق تذكرة أوتوبيس يومية تتيح له التواجد فى وسط المدينة ومتابعة الحياة الثقافية عن كثب. عذرا ، لا أشعر بإساءة فى الحديث عن ظروف زكريا الصعبة فكلنا فقراء أولاد فقراء لم نخجل أبدا من ظروفنا و لم نتاجر بها.
زكريا هو أحد المواهب التى اختفت إثر صدور قرار غبى فى منتصف الثمانينات بمنع استيراد الافلام الثمانية مللى سوبر بإعتبارها سلعة ترفيهية، فتوقفت حركة إنتاج أفلام الهواة لسنوات.. وهو أيضا ينتمى مثلى إلى تلك الكائنات السينمائية المنقرضة التى رفضت أن تتعامل مع كاميرات الفيديو فى إنحياز لزمن السلولويد بمختلف مقاساته.. ولكن حقيقة الأمر أنه لم يكن بالإمكان أن يصبح زكريا نجما فى أى زمن من الأزمنه، فشخصيته وطبيعته ضد النجومية. تضافرت طباع زكريا والظروف الإجتماعية والاقتصادية لتصنع منه هذا المسيح .
لو تواجد زكريا فى أى زمان أو مكان لما تحقق بالصورة التى يستحقها ولكن ظهور موهبته فى أحط أزمنة الثقافة والإبداع فى مصر كان قاتلا لموهبته فى مهدها ومضيعا لحياته ومقلصا لدوره الذى كان بإمكانه فى ظل أى ظروف أخرى أن يتسع على الأقل فى حدود دوائر المثقفين والمتخصصين والهواة الذين هم فى أشد الحاجة لأستاذ ولنموذج مثالى فى الموهبة و الشرف والإخلاص لقيم الفن والأخلاق مثله.