“روما”: إتقانُ الحياةِ بعينين مُغلقتين

يُغري “روما”، آخر أعمال المُخرج المكسيكي حامل الـ”أوسكار” ألفونسو كوارون، ببداياتٍ متعددة، ويعدُ بأكثرِ من خيطٍ يقودُنا إلى سحرِ هذا الفيلم.

 “روما” الذي يُكدّس الجوائزَ، أبرزها الأسد الذهبي من مهرجان البندقية السينمائي، منذ خروجه للعالم يجعلنا نتساءل بإلحاحٍ: كيف يمكن الإمساك بالروحِ التي تسكنه منذ أول ثانية وحتى الإظلام الأخير؟

عن نفسي أجدني عالقة في مشهد بروفيسور زوفيك (المصارع لاتِن لَفر) وهو يتحدّث مع الشباب المتحمسين الذين انتهوا للتوّ من وصلة فنون قتالية في ساحةٍ ترابيةٍ يُحيط بها الفضوليّون المتابعون لما يجري بسعادةٍ برغمِ الشقاءِ وضنكِ العيش.  

“روما” الحكاية

يقول بروفيسور زوفيك أنّه سيقوم بحركة جديدة يصفها بالعصيّة إلا على القّلة من سادة الفنون القتالية والرياضيين البارعين، وأنّها تتطلب تركيزًا عقليًا وجسديًا، ولكن بعد أن يُنفّذها نكتشف أنّها لم تكن أكثر من الوقوفِ بساقٍ واحدةٍ مع رفع اليدين عاليًا وعقدهما، ممتدّتين، فوق الرأس مع إغماض العينين، تتعالى همهمات السخرية والاعتراض من الأداء الذي بدا عاديًا جدًا وفي المتناول، لكن الجميع يفشل عندما يطلب بروفيسور زوفيك القيام بتلك الحركة، باستثناء سيّدة واحدة أتقنتها بمهارة وسرعة: خادمة قلِقة من إحدى القرى البعيدة تعمل في مدينة مكسيكو، حامل من رجلٍ تنصّل منها، وقد جاءت إلى الموقع الذي يتمرّن فيه للحديث حول جنينِهما، إنّها كليو، المرأة التي يُهدي ألفونسو كوارون إلى النسخة الحقيقية منها فيلمه هذا.

“روما” العائلة

يُقدّم الفيلمُ زمنًا مُقتطعًا من حياةِ أسرةِ المخرج كوارون وخادمتهم كليو في حي روما الذي سكنته الأسرة في مكسيكو سبعينيات القرن الماضي، وليس العاصمة الإيطالية كما قد يظنّ البعض، وهي الفترة التي تكتشف فيها السيّدة صوفيا (مارينا دي تابيرا) أنّ زوجها د. أنطونيو (فرناندو غردياغا) قد هجر البيتَ تاركًا إياها مع أربعة أبناء، وقد سمح لنا كوارون أن نسترقَ النظرَ لتلك الأيام بمهارةِ حكّاء شديدِ الكرم واسعِ الحيلة.

ماذا كانت تصنع كليو آنذاك؟ ما هو مُتوقّعًا من سيّدة مكسيكية في عمرهِا وظروفِها، تدخل في علاقة جسدية مع فيرمين (خورخي أنتونيو غيرييرو) وهو ابن عم رامون (خوسيه مانويل غيرييرو مِندوزا) عشيق زميلتها في البيت الطاهية آديلا (نانسي غارسيا)، حيث يأخذها في لقائهما الأول إلى غرفة متواضعة، وبعد أن يستعرض أمامها، عاريًا، بعضًا من الحركات يحكي لها جانبًا من ماضيه البائس، ثم يغوصان في سريرِهما المُستأجَر.

تكتشف كليو أنّها حامل، وتُخبر فيرمين بذلك في قاعة السينما بين القُبل المحمومة، فيستأذنها، بكل لطافة، للذهاب إلى دورة المياه، ولا تراه بعدها إلا مرتين: الأولى في ساحة التدريب فيهددها وينفي علاقته بالطفل، والثانية مُسلّحًا مع رفاقه وهم يلاحقون الطلاب المتظاهرين الذين لجأوا إلى محل الأثاث حيث ذهبت كليو مع والدة مخدومتها السيدة تيريسا (فيرونيكا غارسيا) كي تشتري مهدًا لمولودتها التي تأتي للعالم ميّتة في نفس اليوم.

“روما” الزمان/ المكان

يقبضُ “روما” على الحدثِ الجللِ في حياة الأسرة، ويُحيطه بتفاصيل كليو، والمقصود هنا ترك الأب لعائلته من أجل امرأة أخرى.

تدعونا الكاميرا في بداية الفيلم للتحديق في أرضية فناء البيت لأكثر من 3دقائق وكليو تغسلها بمياهٍ غزيرةٍ، وينتهي الفيلم بالكاميرا مُثبّتة على سماء المدينة المُشرقة، وما بين البداية والنهاية فرق “السماء والأرض”.

رغم أنّ الفيلم مُهدًى إلى ليبو وهو اسم المربية/الخادمة الحقيقية في بيت كوارون، إلا أنّ الفيلم لا يحمل اسمها بل اسم المكان: روما، بكل ما يحتشد فيه من صورٍ ورؤى، حتى أنّ مشهدًا مُعتادًا،مثل الدمية نصف العارية والكُرة التالفة بجانب المياه المتسرّبة، يُصبح جديرًا بالتأمّل وبالاستدعاء من الأقاصي.

وكوارون مخرجٌ ماهرٌ في إسهابِه واقتضابِه، يُريك “رأس الحربة” وعليك أن تكتشف أنت باقي الفريق، أو يهديك العام والشامل لتصل إلى المعنى الدقيق المتواري، وكما قدّم كوارون، على سبيل المثال، المشهد البديع الذي نرى فيه الطرف الصناعي لتمثال “ديفيد” بدلًا من الذي فُقد أثناء عملية الإنقاذ في فيلمِه “أبناء الرجال”، يملأ “روما” بالعديد من اللحظات المُكثّفة، فيُقدّم لنا الأب د. أنطونيو في أوّل مشهدٍ له مُجزّأً: سجائره، سيارته، يداه، محاولاته لإدخال السيارة دون أن تُلامس المرآةُ الجانبيةُ عِضادةَ البوّابة، تلك السيارة التي تقوم السيدة صوفيا ببيعها بعد أن تتقبّل هِجران أنطونيو وشراء واحدة أكثر رشاقة فتقودها بمهارة.

 العيب، إذن، ليس في قدرات الأم القيادية بل في السيارة/الأب التي لم تكن تناسبها.

هناك أيضًا فيرمين عندما يُقابل كليو لأول مرة في المطعم، حيث ينتظر قيامها من مقعدها ليصب في جوفه ما تبقى من الـ”كوكاكولا” خاصتها دون أن تنتبه، إنّ جوعه هو ما يقوده فقط.

الرفوف التي تعلوها الساعات الكثيرة في محل الأثاث، يوم وقوع مجزرة كوربُس كريستي (يوم ولادة كليو)، إنّه احتشاد للزمن، “عدة أوقات” في وقتٍ واحد للدلالة على اللحظات التاريخية الفارقة، وكوارون لا يُصرّح بالمجزرة إذْ من السهل استنتاج ذلك.

برازُ الكلبِ “بوراس” أو “بوررراس” (بطريقة كليو الفاتنة) الذي يملأ الفناء، وتنظيفها الدائم له بكل اهتمام فيعود لامعًا كأنّ شيئًا لم يكن، بلاطات الفناء نفسها التي اكتسبت حضورًا دراميًا لا يُمكن إغفاله، ولا حاجة للقول لما/لمن يرمز البراز هنا!

النادلة التي تتلو قائمة الحلويات وكأنّها آلة بينما أحد الأطفال يبكي بحرقة بعد أن أخبرته والدته صوفيا أنّ والدهم تركهم ولن يعود، إنّ الحياة لا بدّ أن تستمر، هذه فكرة أثيرة لدى كوارون.

أمّا المشهد الأكثر حساسية وإيلامًا فهو حين تُجاري كليو أحد أطفال العائلة الذي يتصنّع موته، فتُقلده وترقد بقربِه على المَصْطبَة الحجرية في سقفِ البيت ثم تقولُ بعد صمت ثوانٍ:” أُحب كَوْني ميّتة”، كم هي مؤلمة وصادمة ومُعبرة هذه الجملة، ليس من المبالغة القول أنّها تختصر كل الفيلم، إذا كان لابدّ من اختصار!

“روما” الإنسان

لقد اجتمع في “روما” العديدُ من “موتيفات” كوارون المُقدّمة في أعماله السابقة، على سبيل المثال: الطائرة المُحلّقة في أكثر من مشهدٍ من فيلم “مع شريكك فقط” (1991) وهو أوّل أعماله الروائية الطويلة، والمظاهرات حين تُحاذي الشأنَ الشخصي في فيلم “وأمّك أيضًا” (2001)، خروج الولادة المتعسّرة من سياقِها البيولوجي إلى السياسي/الاجتماعي مثلما حدث في “أبناء الرجال” (2006).

كان الفيلم يسير على مهل، والمشاهدُ ينتظر تلك العقدة الكبير المُتوقعة في الأفلام عادةً، لكنه يندمج في بلاغةِ السرد، ومتعةِ التلصص، والتفاصيلِ التي تنمو رويدًا، وبعد انتهاء الفيلم ينتبه أنّ جزءًا من الحزن قد أصابه، وبضعة كيلوات من الحكاية الثقيلة، لينطلق في “روما” التي تخصّه.

تم تصوير الفيلم بعينين متعطشتين للاختزان، لقطات طويلة ومُستغرقة وتشعر أحيانا أنّها بعيني ألفونسو الصغير، كمشهدِ الرقصة الجماعية في احتفال أعياد الميلاد قُبيل احتراق الغابة، فـ”الكاميرا والتصوير السينمائي لم يكونا هناك للتجسيد، بل كانا الفيلم نفسه” حسب وصف المصوّر، ثُلاثيّ الـ”أوسكار”، إيمانويل لوبِزكي لـ “روما” الذي لم يشارك فيه رغم عمله مع كوارون في 6أفلام أخرى.

كليو(ياليتسا أباريسيو في أول أدوارها) لم تكن شخصية صاخبة بصوتٍ عالٍ ولا مقاتلة كلاسيكية، كانت تستقبل كل التعقيدات بوجهٍ هادئٍ وبعينين تعلقهما على ما حولها بسحرٍ لا يُحتمل، تتلقى ما يحدث لها بـ “اللاشيء”، لا اعتراض، ولا تساؤل، ولا غضب، فقط قوّة هائلة لمواصلة الأيام، وهذا أمر كما تنص العبارة المُستهلكة: سهلٌ ممتنعٌ، إذ من اليسير تصويرُ دورِ امرأة غضبى أو حانقة أو تخطط للانتقام، لكن من الصعبِ تصوير امرأة تواجه أحزانها بالصمت، وبالقوة، وبـ”اللاشيء”، كيف يُمكن أن تصل معاني “اللاشيء” كاملة غير منقوصة!

إنّ كوارون يُصوّر ما هو أعتى من الغضب والانتقام، يصوّر المضي قدُمًا في حياة يعرف البطل أنها لن تتغير، وأنّها لن تمنحه شيئًا مهما كان ودودًا، كليو، مثلًا، تدخل إلى البحر الثائر لإنقاذ طِفليْ العائلة، وهي لا تجيد السباحة، وبعد أن تنقذهما تبكي والعائلة متحلقة حولها، وكل ما تتفوّه به أنّها لم تُرد لابنتها أن تأتي إلى الدنيا، ثم تُكمل حياتها.

في المشهد الأخير نرى كليو، من زاوية مُنخفِضة، بعد العودة من الشاطئ تصعد لسقف البيت:هادئة، قوية، بشعرها الليليّ المُنسدِل لآخر الظهر، سقف البيت الذي يجاور الشمس، بالضبط، الشمس: الحياة، والأمل، والاستمرار القسريّ، رُبّما. وقبل أن تنطفئ الشاشة تمامًا يُكتب عليها: “سلام سلام سلام”، وهي ذات العبارة بنفس الأحرف الإنكليزية لكلمة سلام بالهندية التي يختم بها الشاعر الأمريكي تي.إس. إليُت (1888– 1965) قصيدته الشهيرة “الأرضُ اليبابُ”.

روما” كوارون

لقد اعترض البعضُ على “روما” بالقول إنّه فيلمٌ بسيطٌ وبلا عقدة درامية “حقيقية” وعلى قدرٍ من الإملال، وربّما أقل من التوقعاتِ خاصةً أنّه جاء بعد فيلم “جاذبية”(2013)، الذي استحوذ على عددٍ من “الأوسكارات” في 2014.

وأعتقدُ بأنّ الرد الأنسب لذلك هو ما جاء على لسانِ بروفيسور زوفيك بعد أن سَخِر الحاضرون من حركته التي اعتقدوا أنّها ستكون أكثر صعوبة واحترافية: “ماذا؟ هل أصابكم الإحباط؟ ماذا توقعتهم؟ أن أحلق في الهواء أو أن أرفع طائرة؟ أنتم تشهدون عملًا فذًا مذهلًا، إن لم تصدقوني، جرّبوه إذن، لكن بعينين مُغلقتين”.

هناك حكايتان في “روما”، حكاية كليو/ليبو التي عاشت في سبعينيات المكسيك، وكيف استطاعت أن تدعم الأسرة المتذبذبة، وهناك القصة الثانية الخلفية، الأهم والأكثر إلهامًا: حكاية الفتى المكسيكي الصغير، الذي نشأ بعيدًا عن والده، وأصبح مخرجًا موهوبًا يحمل جوائزًا رفيعةً، ويتصدّر قوائم أفضل المُخرجين على مستوى العالم، ليُهدي مربيتَه بعد أكثر من 45عامًا فيلمَه الجميل!

إنّ “روما” عن العابرين الذين لم يحظوا بالتفاتةٍ كانوا الأجدر بها، عن القوة الحقيقية التي لا تُرادف الإيجابية بالضرورة، عن الحياة بكل سحرِها وعظمتِها وقسوتِها.

وإن لم نصدّق علينا أن نتخيل كيف يُمكننا أن نُقلّد البطلة كليو، وأن نتقن الحياةَ، كما فَعلتْ، بعينين مُغلقتين.

Visited 29 times, 1 visit(s) today