“رومانتيكا” .. تلك المسافة بين الحلم والواقع
هذه الفيلم المصري حكايته غريبة: قال مؤلفه ومخرجه أنه فيلم لم يكتمل، وقالت منتجته إنه اكتمل، ولذلك قامت بعرضه في العام 1996، ونقول نحن أنه عمل جيد جدا ومدهش بالمشاهد التي تم تصويرها، وربما كان سيصبح أفضل لو تم تصوير بقية مشاهده، فالشخصيات كثيرة، والخطوط مفتوحة، ولكننا نتحدث عما شاهدناه بالفعل.
في الذاكرة أصداء هذا الخلاف الذي عاصرناه بين مؤلف فيلم “رومانتيكا” ومخرجه زكي فطين عبد الوهاب، في عمله الروائي الطويل الأول والأخير تأليفا وإخراجا، وبين منتجة الفيلم مي مسحال: أصر زكي على تصوير مشاهد معينة، فرفضت مي بشدة، وقررت عرض الفيلم بما تم تصويره بالفعل، ولكن بعد الإستعانة ببعض المخرجين لضبط العمل في صورته النهائية.
المفارقة الأغرب أن الفيلم الذي لم يرض مخرجه عنه، عرض وقتها في مهرجان الإسكندرية، وحصد عدة جوائز هامة، فسافر مخرج الفيلم الى المدينة الساحلية، واستلم الجوائز، مع أنه لم يكن راضيا عن الصورة التي عرض بها فيلمه.
قصة صناعة الفيلم، والخلاف حوله دالة جدا عن الطريقة التي كانت تصنع بها الأفلام، كنت وقتها مندهشا أن تسود كلمة المنتج، وأن يقوم آخرون بتشطيب فيلم يعيش مخرجه بيننا، فقد تعلمنا أن المخرج هو صاحب العمل فنيا وأدبيا، رغم قيمة وأهمية من يمول العمل وينفق عليه، ووقعت في حيرة شديدة لأن مشاهدتي الأولى للعمل وقتها، وانطباعي عنه في عرضه الأول كان جيدا جدا، ولكني احتفظت أيضا بتعاطفي مع المخرج، هو الذي يعرف ما كان يجب تصويره، وهو وحده من يعرف الصورة التي كان سيصبح عليها فيلمه إذا تم تصوير هذه المشاهد.
في أول كلمات للعناوين، توجه المنتجة مي مسحال الشكر للمخرج سعيد عكاشة، كما توجه الشكر لأسماء أخرى كبيرة بسبب جهودها المخلصة لإنهاء الفيلم، وتضم القائمة المخرجين الكبار: صلاح أبو سيف ومحمد خان وأسامة فوزي ورضوان الكاشف، كما تضم القائمة الناقد الكبير سمير فريد، ولكن العناوين تحتفظ بالطبع باسم زكي فطين عبد الوهاب ككاتب للسيناريو، وكمخرج للفيلم.
زكي وحسن
يبدو لي بعد كل هذه السنوات، وقد أعدت مشاهدة الفيلم مؤخرا للكتابة عنه، أنه لا شيء يشبه فكرة الفيلم، مثل هذه القصة العجيبة التي واكبت ظهوره الى النور، بل إن أحد مشاهد الفيلم يتنبأ بحدوث مشاكل مع منتج موضوع حكاية الفيلم عن طائفة الخرتية، وهم أولئك الذين يرافقون السياح الأجانب، ويؤدون لهم كل الخدمات، مهما كانت درجة قانونيتها، وقد يصطحبونهم في رحلات السفاري.
خلاف المنتج والمخرج داخل فيلم “رومانتيكا” يذكرنا بخلاف زكي فطين ومي مسحال خارجه، رغم اختلاف موضوع الخلاف، ولكن التشابه في تلك المسافة الواسعة بين الحلم والواقع، وهي فكرة الفيلم بالأساس.
يعتقد حسن في الفيلم أن كل شيء سيكون في حالته المثالية، وأنه سيتجاوز حالته الرومانتيكية التي يعيش فيها، وسيصل الى أصحاب موضوع الخرتية الأصليين، وقد يستعين ببعضهم في تمثيل قصتهم، ولكنه يكتشف أن الواقع أكثر قسوة مما تخيل، وسينتهي حسن بفشله في إنجاز فيلمه، وبحبس بعض أصدقائه من الخرتية.
زكي فطين عبد الوهاب اعتقد أيضا أنه سينجز فيلمه كما حلم به بالضبط، ولكن المنتجة رأت أن ذلك سيؤدي الى زيادة النفقات، لذلك قررت الإكتفاء بما تصويره، وعرضت الفيلم بعد ضبط خطوطه التي صورت.
هنا أيضا مسافة واسعة بين حلم فطين، وواقع الإنتاج في مصر، وأعتقد أن هذه المسافة هي التي جعلت فطين يبتعد تماما عن إخراج الأفلام بعد تجربة “رومانتيكا”، ويكتفي فقط بالتمثيل في أفلام سينمائية، أو في مسلسلات تليفزيونية، وكان قد بدأ مساعدا للإخراج مع يوسف شاهين، ومن أدواره المميزة في السينما دوره في “اسكندرية كمان وكمان” للمخرج يوسف شاهين، ودور البطولة في فيلم “مرسيدس” مع المخرج يسري نصر الله، ودوره الهام في الفيلم المتميز “بحب السيما” من إخراج أسامة فوزي.
الحقيقة أن شخصية المخرج حسن في فيلم “رومانتيكا” لا تترك لنا فرصة اجتهاد آخر لاستقبالها بعيدا عن شخصية زكي عبد الوهاب شخصيا، حيث يظهر حسن في الفيلم باعتباره ابنا لمخرج كبير تقول صورته على الحائط إنه المخرج فطين عبد الوهاب، كما أن حسن يظهر باعتباره ابنا للمطربة ليلى مراد.
زكي فطين منذ البداية يحكي عن نفسه وعن حياته، ويرتدي قناعا باسم مغاير هو حسن، لكي يعبر عن تجربته كإنسان وكمخرج، مع ما كل تقتضيه الدراما طبعا، و مع كل ما يقتضيه الخيال من تغييرات، ولكن جوهر الشخصية والرؤية تخصان المخرج زكي فطين ابن الأسرة المشهورة فنيا، والذي يريد أن يتحقق من خلال فيلم عن الواقع، وعن البشر الحقيقيين الذين عرفهم، إنه يريد أن ينتقل من حالته الرومانتيكية المنعزلة، والتي يحكمها ماضي عائلته العظيم، الى واقعه الحالي، الذي سيخرجه الى فضاء أوسع، وسينقذه من هذه العزلة، أي أن الفيلم في جوهره هو رحلة خروج حسن، أو زكي فطين، من حجرة فيها صور فطين عبد الوهاب وليلى مراد وسراج منير (عم زكي) ومنير مراد ( خال زكي)، الى واقع مفتوح فيه بيسو وباولو وصباح وماكس وسيد سكارفيس وأحمد .. الخ، ثم تأتي المرحلة الأصعب، بتحويل هذا الواقع الى ملخص فيلم، أي تحويل الواقع الى فن، وهي المرحلة التي لم يستطع المخرج حسن تجاوزها، يبدو أن الواقع كان أكثر قسوة مما توقع، أو أن رومانتيكيته كانت أقوى من هذا الواقع، فاستعادته من جديد الى عالمها.
حسن، الذي يعيش في الفيلم وسط أجهزة عتيقة تتسق مع صور الماضي بالأبيض والأسود، والذي يبدو في إحباطه واكتئابه معبرا عن روح رومانتيكية هشة، لم يفكر أن يصنع فيلما مثلا عن أمه المطربة العظيمة، سيدة الرومانسية والجمال، ولم يختر أن يبدأ حياته السينمائية بفيلم رومانسي بسيط، ولكنه يريد أن يقدم شيئا مختلفا، يريد أن يقدم عملا واقعيا، وعن تفاصيل مهنة ملتبسة وشائكة هي مهنة الخرتية، يريد أن يقدمها بكل تفاصيلها ونماذجها الإنسانية البائسة، بل إن الفيلم يستخدم الفعل “يخرتن” بمعنى ” ينصب” أو “يسرق”.
المشكلة أن حسن، الذي يعتمد على صديقه وقريبه خالد، والذي يعتمد أيضا على بيسو كحلقة وصل بينه وبين الخرتية، يعالج موضوعه، ويجمع تفاصيله، بروح شخص رومانتيكي حالم، ويبدو دوما حسن النية، وسريع التورط، نراه في البداية وهي يتلقى علقة ساخنة، من زوج أو صديق امرأة صدّق نظراتها وحركاتها المغوية، ثم نراه شديد الإعجاب ب صباح التي تتلقى كورسات في المعهد البريطاني، يكتب له خصيصا بعض المشاهد في الفيلم، فيحتج خالد، لأن الحكاية عن الخرتية، وليست عن حسن وصباح، ثم يكتشف حسن في النهاية أن صباح تبيع المخدرات للسياح، وأن أمها تدير شقة للدعارة، وحتى عندما يحاول في مشهد النهاية أن يعترف لها بحبه، تصدمه بعلاقة لها مع شخص يعيش في الخارج اسمه مايكل، ولعل قصتها معه واحدة من الخطوط الدرامية التي لم يتم تصوير مشاهدها.
حياة مؤلمة
كلما دخل حسن الرومانتيكي الى عالم الخرتية، بدت المسافة واسعة بين الواقع والخيال، وتكشفت له التجربة عن حياة مؤلمة وراء البهجة والشراب والضحك والغناء: شاب سوداني يريد أن يعمل مع الخرتية، تنتهي تجربته بالترحيل الى بلده، باولو ابن الأسرة الثرية، والطبيب الناجح الذي أدمن المخدرات، يحكي قصته المؤلمة ل حسن وخالد، يحصل على أموال يدفع بها إيجار شقته، ولكنه لن يأتي أبدا لموعده مع حسن، للذهاب الى طبيب يعالجه من الإدمان، أحمد الذي يوهم الجميع أنه سافر الى أمريكا، ولكنه يعود من جديد الى عالم الخرتية، وهذا الشاب المصري، الذي أنجب من صديقته الفرنسية، فأرسلت له الطفلة، فأعطاها الى حسن لكي يرعاها.
ولكن هناك شخصيتين تمثلان هذه المسافة بين الحلم والواقع بمنتهى القوة، الأولى هي سيد أبو زيد، أو سيد سكارفيس، التي لعبها أشرف عبد الباقي ببراعة، وهو شاب انمحت لديه الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال، بين واقعه والأفلام التي شاهدها، فصار مهووسا بفكرة الحصول على تأشيرة الى أمريكا، والسفر الى هوليوود لكي يكون نجما سينمائيا، يذهب الى سفارة بريطانيا للحصول على تأشيرة تمكنه من السفر الى أمريكا، ويتورط مع رجل ألماني يستغله جسديا، فيقوم سيد بقتله، ويكون سببا للقبض على كل الخرتية، ثم يسلم نفسه في النهاية، ويثير ذهول وكيل النيابة بسبب تماسكه وخياله الخصب، سيد سكارفيس من أفضل شخصيات الفيلم، وهي تلخص تقريبا كل المأساة، وتصور المدى الذي يمكن أن يصل إليه من تأسرهم الأحلام، ويخذلهم الواقع.
الشخصية الثانية هي الشخص البدين الذي لعب دوره بخفة ظل الموهوب علاء ولي الدين، هذا الشاب يتحدث طوال الفيلم مع حبيبته أو خطيبته زينب، يريد أن يتزوجها ولكنه بلا عمل، ولا يمتلك شيئا، قصة رومانسية جميلة يدمرها الواقع، وحتى في الحجز، يتعاون الجميع على أن يكمل اتصاله التليفوني مع زينب، ولكنها تتهمه بإقامة علاقة شاذة مع مخرج الفيلم، حكاية زينب والشاب البدين هي أيضا تنويعة ساخرة على المسافة الواسعة بين الحلم والواقع، وبين الرومانسية وظروف الحياة القاسية.
رومانسية حسن ستتعرض للإهانة أخيرا عندما يتخلى عنه عزيز درويش منتج فيلمه، الرجل لا يريد أي مشاكل، ولا يريد أن يكون الخرتية (أو الخراتيت كما يسميهم) أبطالا لفيلمه، ينضم الى وكيل النيابة في نصح حسن بعمل فيلم عادي، وبألا يقوم بتشويه سمعة بلده، بعمل فيلم عن هؤلاء الضائعين البؤساء، ثم يطلق المنتج آخر رصاصة على حسن عندما يقول إنه وافق على إنتاج الفيلم مجاملة لوالدة حسن، التي طلبت تشغيل ابنها العاطل، بعد تخرجه من معهد السينما.
هذا هو الواقع الذي يكتسح الحلم، سيجده حسن في الحجز، وفي شراسة وكيل النيابة، وفي واقع صباح البشع حيث المخدرات والدعارة، لن ينجح الرومانسي في تقديم كتابة جيدة عن هذا العالم، ولن ينجح أن يكون جزءا منه، ولن يترك عالمه العتيق الغامض، سيمزق في المشهد الأخير أوراق السيناريو، سنصبح أمام فيلم عن فيلم لم يكتمل، وعن صانع أفلام حائر بين الرومانسية والواقع، وبين الحلم والخيال، بين أن يتحقق في حياته مستقلا عن تاريخ عائلته الشهيرة والعظيمة، وبين أن يتحقق من خلال أفلامه.
عالم الخرتية
“رومانتيكا” أيضا امتلك جرأة الدخول الى عالم الخرتية، الذين طالما لفتوا نظري في شوارع وسط البلد، رأيتهم كثيرا مع السياح في مقهى الحرية بباب اللوق، الذي صورت في داخله مشاهد كثيرة من الفيلم، قدرة زكي فطين عبد الوهاب على تقديم هذا العالم في أماكنه ممتازة، شوارع وسط البلد حاضرة بقوة، وتمثال مصطفى كامل يبدو في أحد المشاهد كما لو أنه يشير بإصبعه الى سيد سكارفيس، والنماذج التي اختارها زكي من عالم الخرتية جيدة ومؤثرة.
تعامل المخرج ببراعة مع عدد كبير من رواد المقهي، فقدمهم في تكوينات جيدة، تكررت بذكاء حركة الكاميرا الدائرية حولهم، فبدوا جزءا من دوامة لا تتوقف، كل التفاصيل تخلق أجواء تلك المشاهد: هذا المغني الحزين الذين يغني “أحاسيسي” ترجمة لأغنية فرانك سيناتر الشهيرة، زجاجات البيرة، دخان السجائر، حتى صاحب المقهى البدين أسند زكي دوره لبائع جرائد شهير يعرفه كل عابري وسط البلد، عالم كامل تم تقديمه بتعاطف وبصدق، الفيلم جريء فعلا في دخول هذا العالم، وجريء في الكشف عما وراء الإبتسامات والضحك مع السياح، مأساة تتقاطع مع حكاية مخرج مأزوم، حكاية حياة الخرتية المبتورة والمعلقة في الفراغ، تتقاطع مع حكاية مخرج حائر في حياته ومستقبله، ومعلق أيضا في الفراغ، من الطبيعي ألا ينجح الخرتية، وألا يكتمل فيلم المخرج حسن.
اختار زكي فطين عبد الوهاب ممثليه بشكل جيد: ممدوح عبد العليم في دور حسن بتشوشه وحيرته، وعدميته واكتئابه في بعض الأحيان، لاحظتُ أنه قلد حركة زكي فطين عبد الوهاب في مشهد أو مشهدين، شريف منير في دور خالد بحيويته وخفة ظله، لوسي في دور صباح بوجهيها، وبحياتها المزدوجة، وعلاء ولي الدين ابتسامة الفيلم، دوره هام ومؤثر كما شرحت من قبل، شخصية مؤلمة في جوهرها، ولكنها قدمت بشكل كوميدي لتخفف من قسوة الفيلم وشخصياته، تكفي شخصية باولو المدمن التي قدمها ببراعة مصطفى شعبان، مخلص البحيري كان أيضا متميزا في دور المنتج، وفي مشهد واحد فقط، وكذلك كان تميم عبده في دور وكيل النيابة.
لكن أشرف عبد الباقي في دور سيد سكارفيس هو بالتأكيد أفضل ممثلي فيلم “رومانتيكا”، شخصية خارج الواقع رغم أنه تعيش فيه، نظرة شاردة، وثقة مصنوعة، وحياة ضائعة تماما، إنه أيضا أحد أفضل أدوار أشرف في الأفلام السينمائية المصرية.
عناصر تقنية كثيرة ممتازة مثل تصوير سمير بهزان، وموسيقى أحمد الناصر وعمرو أبو ذكري، ومونتاج أحمد داوود، بداية الفيلم بالقطع بين السائرين في وسط البلد، وبين وجوه الخرتية كان استهلالا موفقا للغاية، هذه هو عالم المدينة الصاخب، وهؤلاء نماذج من الذين يعيشون على هامشها، وإن كان من الأفضل تقليل زمن هذه المشاهد.
“رومانتيكا” رغم الضجة التي صاحبت عرضه من أفضل أفلام التسعينيات في السينما المصرية، وكان ينبيء بمخرج هام ومتميز، ولكن زكي فطين عبد الوهاب، مثل بطله حسن، لم يتحمل واقع صناعة الأفلام، فاكتفي بأن يكون جزءا من أطياف تظهر على الشاشة، ولا تحب أن تكتب أو تخرج أفلاما.
خسرنا مؤلفا ومخرجا مهما، مثلما خسر حسن فيلمه وتجربته مع وعن عالم الخرتية.