روائع خارج القوائم: “الإنسان يعيش مرة واحدة”!
مقدمة لابد منها
في البداية أود أن أشرح بشكل موجز الدافع وراء هذه السلسلة من المقالات، والتي راودتني فكرتها لفترة طويلة وكانت تنتظر فقط قرار البدء. المحرك الرئيسي كان قوائم الأفلام الأفضل: أحسن مائة فيلم مصري، أحسن مائة فيلم عربي، وغيرها من قوائم التصنيف والتصويت التي صارت بدعة تخرج علينا بها بعض الجهات كل فترة. وبعيدا عن مدى اتفاقي أو اختلافي مع هذه القوائم التي شاركت في بعضها، فإن ملاحظتي الأكبر كانت تكرار مجموعة من الأعمال في كل قائمة. صحيح أن معظم هذه الأعمال هي أفلام عظيمة المستوى والقيمة، ولكن التساؤل المحير كان في استمرار غياب أعمال أخرى لا تقل عنها جودة وقيمة فنية.
التفسير الذي أمكنني الخروج به بعد تفكير ومقارنة هو باختصار التواتر، فهناك أعمال تم ترسيخ وجودها في قوائم الأفضل والأحسن جيلا بعد جيلا، وتواترت الآراء التي تمدحها وتعلي شأنها من جيل النقاد الذي شاهدها وقت عرضها للأجيال التالية، فأصبح المتابع الشاب يقرأ ما كتبه من سبقوه في مدح مجموعة من الأعمال، فيشاهدها ويعجب بها ليكتب عنها وينقل الرأي لمن بعده وهكذا.
الميكانزم في حد ذاته منطقي لا توجد مشكلة فيه، بل هو الشكل الطبيعي لنقل الخبرات الفنية، لكن الأزمة الحقيقية هي أن الرأي الذي تكون في البداية لم يكن كامل الصحة أو الحيادية. لا أقصد هنا أن أقلل من شأن أي شخص من الأساتذة الكبار الذين شهدوا الأفلام وكتبوا عنها بدءا من خمسينيات القرن الماضي، ولكن أعارض منهج بعضهم في الحكم على الأفلام، والذي ربما كان مناسبا لزمنه، لكنه لم يعد بالقطع ملائما لزمننا بشهادة الأساتذة أنفسهم ممن مد الله في أعمارهم ليشهدوا الكثير من المتغيرات السياسية والاجتماعية والسينمائية.
أقصد فيما سبق بالتخصيص النقد الأيديولوجي، وهو منهج مرموق لا يزال قلة نادرة يستخدمونه في العالم حتى الآن، ولكن المشكلة الحقيقة أنه ظلّ لفترة كبيرة يكاد يكون المنهج الوحيد المستخدم من قبل النقاد المصريين، الذين انتمى غالبيتهم ـ أو غالبية المؤثرين منهم إن أردنا الدقة ـ إلى اليسار بتنويعاته، فقاموا بالحكم على الأفلام طبقا لطرحها الفكري والسياسي والاجتماعي قبل الحكم عليها من الشقين السينمائي والإنساني، حتى أن ناقدا كبيرا مثل سامي السلاموني لم يكن يتواني في الكثير من مقالاته (يمكن الرجوع للأعمال الكاملة المنشورة من قبل الهيئة العامة لقصور الثقافة)، عن الاعتراف برفضه لأي فيلم لا يحمل همّا اجتماعيا أو سياسيا، واعتباره لأي عمل يحاول خوض مساحة مختلفة: الرومانسية أو التشويق أو الرعب مثلا، عملا من الدرجة الثانية، فقط لأنه لم يلتزم بدور الفن السينمائي “كما كان الناقد يفهمه بالطبع”.
المشكلة ليست في إيمان أي ناقد بمنهج أو بمنظومة قيمية أو سياسية، فهذا كامل حقه، ولكن المشكلة أن يتم تناقل اختياراته الناتجة عن المنهج غير المحايد باعتبارها الخيارات الأفضل. ولو كان هذا التوجه خاصا بناقد واحد أو عدد محدود من النقاد، لكان الأمر عابرا يمكن تجاوزه بحساب المجموع، لكن أن يكون التيار السائد مؤمنا ـ بحكم زمنه ـ بنفس المجموعة من المبادئ، فهذا كان من الطبيعي أن يؤدي للانحراف المعياري الضخمة الذي تعاني منه كل قائمة تصدر، حتى لو كان القائمين عليها من أجيال أحدث لم يعد المنهج الأيديولوجي سائدا فيها بنفس القدر.
النتيجة صارت الذكر الدائم لأعمال جيدة، والتجاهل الدائم لأعمال قد تفوقها جودة، لكنها فقط لم تحقق وقت عرضها شرط الالتزام السياسي والاجتماعي، فتم تناولها بشكل عابر وعدم وضعها في الاعتبار لحظيا، ليتم تجاوزها لنفس الأسباب في كل محاولة لإعادة النظر للمشهد السينمائي ككل، وهو خطأ يجب بالفعل أن نبدأ في تصحيحه.
المنهج الذي اخترته لمحاولتي المتواضعة هو عدم التطرق إطلاقا للأفلام “الملتزمة” الشهيرة، فقد قتلها الكتاب والنقاد بحثا، وبالرغم من أن بعضها يقل في المستوى كثيرا عما أصبح مفروضا حوله من مهابة وقيمة بحكم التواتر، إلا أن الكتابة عنها ومحاولة إبراز أوجه قصورها لن يولد إلا جدلا عقيما يدافع فيه البعض عن اختياراتهم التي صارت مع الوقت قناعات راسخة. ما سأحاول فعله هو الكتابة تباعا عن أعمال أقل شهرة وتواجدا في القوائم، أفلام تنتصر للسينما والإنسانية على حسابات السياسة والهم الاجتماعي، وهي ميزة ظلت كثيرا تُعامل كعيب!
الفيلم في مشوار مخرجه وكاتبه
الفيلم الأول الذي سنمر عليه اليوم هو “الإنسان يعيش مرة واحدة”، للمخرج سيمون صالح والمؤلف وحيد حامد، وبطولة عادل إمام ويسرا وعلي الشريف وزين العشماوي، إنتاج عام 1981. الفيلم هو أشهر الأفلام الأربعة التي قدمها مخرجه قبل هجرته، ولكن ترتيبه في الشهرة يتراجع كثيرا في قائمة أعمال مؤلفه العديدة، ولا يكاد يذكر في قوائم الأحسن والأفضل، بالرغم من كونه في رأيي واحدا من أفضل السيناريوهات التي كتبها وحيد حامد في مشواره، ولكنه بالطبع ظُلم مقارنة بالأعمال ذات الحس السياسي التي يتدوالها الجميع باعتبارها أفضل أعمال المؤلف.
في الفيلم يقدم وحيد حامد إنجازه السينمائي الأول ـ بعد فيلمين وعدد من المسلسلات الإذاعية ـ على صعيد رسم الشخصيات الدرامية، وهي مهارة وحرفة لا تعتمد فقط على إيجاد الطزاجة والطرافة والإحكام في شخصيات العمل، ولكن تحتاج وبنفس القدر إلى الهارمونية بين الشخصيات المرسومة، وصبها في قالب درامي واحد يتحرك دوما للأمام ويكرس تدريجيا للقيمة الإنسانية المحمولة على القالب الفني، وهي في حالتنا هذه واضحة من عنوان الفيلم: العمر أقصر من أن نضيعه.
ثلاث شخصيات وهمّ واحد
البطل هاني (عادل إمام) مدرس تاريخ مقامر، يتمتع بأخلاق المقامرين الأخيار: الاندفاع والمغامرة وعدم الانضباط والعزلة النفسية حتى عمّن يشاركونه الطاولة الخضراء. “التاريخ فيه زعماء وقادة وأنبياء وفلاسفة، وطنيين وخونة، إنما خمرجية وحشاشين وقمارتجية زيكم كده مفيش”، يقولها هاني في أول مشاهده لرفاق الورق ليؤكد أنه ليس منهم، بنفس قدر عدم كونه من الآخرين. هاني لا منتمي كليا، لا تربطه جذور حقيقية بأي شخص وأي شيء، ورفضه المبدئي لنقله العقابي إلى المنفى في السلوم، ليس خوفا على ما سيتركه في القاهرة، ولكنه مجرد موقف عبثي آخر في سياق حياة مرشحة بقوة للانتهاء دون أن يدرك صاحبها قيمتها، وعندما ينقل سيمون صالح الملل الذي يعيشه هاني في منفاه، متنقلا من سرير إلى سرير في استراحته بالمنفى، فهو ينقل معه حالة روحه التي تتوق للعثور على مرفأ.
الطبيبة أمل (يسرا) في المقابل كان لديها هذا المرفأ، وكانت مستعدة كما قالت أن “تشفي كل مرضى الدنيا”، ولكن العالم لم يكن بنفس الحنان معها، فعرضها لمحنة الفقد الممزوج بالشعور بالذنب، لتسيطر عليها سوداوية يائسة، تشعرها بأن عمرها قد انتهي ليلة وفاة حبيبها، وأن ما تبقى مجرد تحصيل حاصل، لا يفرق كثيرا أن تقضيه في العاصمة أو على الحدود. مثلث الشخصيات البديعة يكتمل بالغفير الصعيدي بكري (علي الشريف)، الذي تتناقض صورته الخارجية الفظة والمخيفة مع حقيقة كونه روحا هشة، اضطرها الخوف إلى الهرب عمرا كاملا بعيدا عن الأرض والأهل، بعيدا عن السعادة والارتواء.
في أقصى الحدود الغربية لمصر، ووسط مدينة مملة لا يحدث فيها شيء، تجتمع مصائر الشخصيات الثلاث الذي يمتلك كل منهم سببا مختلفا لإضاعة عمره بعيدا في المنفى: اللا-انتماء والذنب والخوف. وبروح إخراجية هادئة ورصينة، ينقل المخرج إحساس المدينة ذات الحضور الواضح في الدراما، فهي منفى جميل، لكنه يرفض الغرباء ويتوجس منهم، لا سيما وإن كانا شاب وفتاة غير متزوجين كبطلي الفيلم، التوجس الذي يزيد من أثره التدخل السافر من الطبيب طارق (زين العشماوي) في حياة زميلته الجديدة التي يراها صيدا جنسيا سهلا.
بين الدراما النفسية والمادية
“الإنسان يعيش مرة واحدة” هو بالأساس دراما نفسية تحدثنا عن موضوعها، وعن كيفية تعبير كل شخصية من الثلاث الرئيسية عن أحد أبعاده، ولكنه يبقى في النهاية موضوع شديد التجرد بصورة تفقده لو ترك على حالته الأولية حس الإمتاع والجماهيرية، وهو ما تغلب عليه وحيد حامد بإضافة صراعين ماديين للحكاية: الطبيب الراغب في البطلة، والخصم الباحث عن بكري من أجل الثأر. الخطين الدرامين كان لهما مفعول السحر في السيناريو، فقاما بجمع الشخصيات الثلاثة في علاقات ومسافات واضحة قابلة للمتابعة من قبل أي مشاهد، ومكنا الكاتب والمخرج من رسم عدد أكبر من مشاهد التعبير عن ذوات الشخصيات وأبعاد أزماتها الداخلية، وجعلا الحكاية تتحرك للأمام في صراع مستمر ومتصاعد، لم يكن الطرح النفسي وحده ليحققه بشكل منفرد.
هاني يبدأ في الوقوع في الحب، وهو ما يجعله يبدأ في اكتشاف فكرة الانتماء بشكل عام، أن يكون هناك شخصا أو شيئا يستحق بالفعل أن نحيا من أجله (وهو اكتشاف نفسي)، ولكن يواجهه في سبيل الاستمتاع بهذا الاكتشاف وجود الطبيب طارق ومحاولته للتقرب من أمل والإيقاع بها (عائق مادي)، وهو نفس العائق الذي يمنع أمل من التخلص بسهولة من همها النفسي وشعورها بالذنب، لتتحول مشاهد لقاء الحبيبين أمام البحر إلى مشاهد شاعرية نفسية، موضوعة ومصاغة بعناية داخل البناء المعتمد على الصراع المادي، كي تضع خطا تحت كل مرحلة من مراحل تطور شخصيتي البطلين، سواء بعناصر شكلية كلون ملابس البطلة والعلاقات الجسدية بينها وبين هاني من وقفة صديقين إلى تقارب مشوب بالحذر إلى قبلة ساخنة تتحدى قواعد العالم المحافظ المحيط بهما، وتؤكد على بلوغهما نقطة النضج النفسي التي تمكنهما من إدراك حقيقة أن “الإنسان يعيش مرة واحدة”.
نفس الحالة النفسية والبصرية تتكرر مع الغفير بكري، الذي نراه دائما في عالم مغلق: داخل غرفته، في الليل، وحتى في النهار ملازمه البصري هو سور المدرسة، فهو رجل ببساطة دفعه خوفه لقضاء عمره خلف سور يعتقد أنه يمنع عنه الموت لكنه في الحقيقة يمنع عنه الحياة. ومع بدء دخول هاني لعالم بكري وإلقاء لحجر في وعيه الراكد ليبدأ في رؤية العالم من زاوية جديدة، تبدأ التطور المادي لحكايته بخروجه واكتشاف مكانه. وبينما يبدأ بكري في اكتشاف قيمة كل لحظة باقية من عمره، يظهر ابنه (حمدي الوزير) ليزوره في منفاه، ليرسخ مشهد لقاءهما البديع قناعة ستلازم بكري حتى النهاية: ليلة مع ابني تساوي عمرا من الهرب.
زينة الكعكة
أضف إلى كل ما سبق من جماليات سردية وبصرية عنصر الأداء التمثيلي المتميز من أبطال العمل، ولا سيما علي الشريف الذي يقدم هنا واحدا من أروع وأصدق أدواره على الإطلاق ـ على الرغم من أن المؤلف الكبير أخبرني أنه يفضل أداء العملاق صلاح منصور للشخصية في المسلسل الإذاعي الذي أخذ عنه الفيلم ـ، وهذا المستوى من التمثيل لابد وأن يدلنا على مخرج كان يعلم جيدا كيفية منح المساحة لممثليه ليظهروا أفضل ما عندهم داخل سياق شخصياتهم على الشاشة، إنه سيمون صالح الرجل الرقيق الذي لم يتحمل ضغوط السوق فهاجر وترك البلاد.
النتيجة النهائية لاجتماع هذه العناصر هي عمل شديد العذوبة، تجتمع فيه مهارة الكتابة مع الوعي الإخراجي مع التمثيل المتميز، لتقدم طرحا إنسانيا ونفسيا يستحق التوقف كثيرا عنده، عبر حكاية مشوقة ولها حس إمتاعي واضح حتى لمشاهد غير متمرس. أي أن الفيلم باختصار واحد من الروائع، التي يحبها الجمهور يغفل عنها النقاد، فقط لأنها لا تناقض قضية سياسية ولا تهاجم الحكومة ولا تتبنى موقفا أيديولوجيا.