رمزية الزي العسكري والسلاح الرسمي في السينما المصرية
يعد رجل الشرطة في المجتمع المصري من الشخصيات المثيرة والمركبة، التي لها حضور طاغ في الحياة وفي الفن، فالضابط هو حلم الصبية الصغار، وهو فتى الأحلام بالنسبة للفتيات المراهقات. وعلى المستوى الفني لا يكاد يخلو عمل سينمائي أو درامي من دور لرجل الشرطة، بل أصبحت هي الشخصية المحورية للكثير من الأعمال الفنية الحديثة، خاصة في السنوات الأخيرة، وبصفة أخص بعد ثورة 25 يناير 2011، وبعد أن اصطدمت الشرطة بالشعب في أكثر من محك، وصار هناك أكثر من صورة لرد الفعل، ما جعل المشهد العام معقداً ومركباً.
لهذه الأسباب كثرت الكتابات النقدية التي اتخذت من رجل الشرطة موضوعاً لها، فقدم البعض تحليلاً تاريخياً سياسياً يربط بين صورة رجل الشرطة في السينما وبين حقب سياسية معينة، وبناءً عليه تم التعرض لصورة رجل الشرطة فيما كان يعرف بالقلم السياسي في الحقبة الملكية، ومراكز القوى في الحقبة الناصرية، ورجل الشرطة في حقبة الانفتاح الساداتية، ثم حقبة مبارك، وأخيراً ما بعد ثورة يناير. كما قدم البعض الآخر صورة رجل الشرطة وفقاً لأداء النجوم الذين قاموا بدور رجل شرطة مثل فريد شوقي ونور الشريف وأحمد زكي وأحمد السقا. وفي محاولة نقدية ثالثة حاول البعض التركيز على التطورات النفسية والاجتماعية التي لحقت بصورة رجل الشرطة على الشاشة الفضية في مصر.
وفي كل الأحوال يلاحظ أن إبراز القصة والمضمون البوليسي كان هو الغالب في هذه الكتابات. لذلك، فإننا نحاول هنا أن نقدم طرحاً مغايراً يعتمد على زاوية نزعم أنها مختلفة وجديدة في نفس الوقت في حقل الكتابات النقدية الفنية، وهي الزاوية السيميوطيقية أو الدلالية، والتي بمقتضاها سوف نختار بعض الرموز ذات الدلالة في حياة رجل الشرطة لتكون مدخلاً لتحليل وفهم بعض المشاهد ذات الدلالة في الأعمال التي تناولت حياة رجل الشرطة وأدواره المتنوعة التي لعبها في هذه الأعمال. وإذا بحثنا عن هذه الرموز، فلن نجد أنسب من رمزية الزي الشرطي ورمزية السلاح الميرى، لما لهما من مكانة خاصة في نفوس العامة، ولقدرتهما على تجسيد السلطة التي يمثلها الشرطي في أي مكان يحل فيه.
ولأننا لن نستطيع أن نحصر كافة الأعمال السينمائية التي قدمت صورة لرجل الشرطة، فإننا سنركز على بعض الأعمال ذات الدلالة فيما يخص موضوع مقالنا، خاصة التراجيدية منها، لأن الأفلام الكوميدية (مثل أفلام إسماعيل يس، وفيلم تامر حسني ”البدلة”) تحتاج إلى دراسة مستقلة . وهنا يمكننا أن نعود إلى تاريخ أبعد في السينما المصرية لنرصد صورة رجل الشرطة في بعض أفلام أنور وجدي.
أفلام أنور وجدي
قدم وجدي العديد من الأفلام التي قام بإخراجها والتمثيل فيها مجسداً رجل الشرطة الرومانسي الحالم على نحو ما تبدى في أفلام “أربع بنات وضابط” الذي أنتج عام 1954م عن قصة لأنور وجدي وسيناريو وحوار أبي السعود الأبياري. وفيه يظهر وجدي بالزي الشرطي دون حضور ظاهر للسلاح الميري (الميري كلمة عامية مصرية بمعنى الرسمي العسكري)، لأنه يعمل بإصلاحية بنات ويميل لمعاملتهن بالحسنى في مواجهة المديرة (نجمة إبراهيم) التي تفضل استعمال القسوة مع النزيلات.
وهنا يظهر وجدي كفتى أحلام جذاب ووسيم بالنسبة للنزيلة الشابة الجميلة، التي لعبت دورها “نعيمة عاكف”، قبل أن تهرب هي وثلاث من زميلاتها إثر نشوب حريق بالإصلاحية، مما يضع الضابط تحت طائلة المسائلة القانونية.
في فيلم “قلبي دليلي” الذي أنتج عام 1947 وأخرجه أنور وجدي وكتب القصة له أبو السعود الأبياري يتخلى الضابط وحيد عن الزي الشرطي تماماً طوال أحداث الفيلم، بالرغم من طابعه الرومانسي الغنائي، نظراً لأنه يلعب دور ضابط متنكر حتى يستطيع القبض على عصابة موجودة بحفل تنكرى وتتاجر بالمخدرات. ولا يظهر السلاح الميرى إلا في لقطات قصيرة، لأن وجدي أو الضابط وحيد كان يواجه أفراد العصابة عن طريق القتال بالأيدي حتى لا تنكشف شخصيته قبل الإيقاع بكامل أفراد العصابة.
وفي فيلم “ريا وسكينة” الذي أنتج عام 1953 وأخرجه صلاح أبو سيف عن قصة لنجيب محفوظ يستمر وجدي في أداء دور الضابط المتخفي، الذي لا يظهر بالزي الشرطي ولا يحمل السلاح الميرى في الظاهر حتى يستطيع التسلل إلى داخل وكر ريا وسكينة وعصابتها التي تخطف النساء، وتقوم بقتلهن بعد أن تسرق ذهبهن وأساورهن. ولا يظهر السلاح الميري إلا في اللحظات الحاسمة، كأداة للدفاع عن الأرواح من ناحية وكعلامة على حضور السلطة من ناحية أخرى.
وفي فيلم “غزل البنات” الذي أنتج عام 1949 وأخرجه أنور وجدي وكتبه بديع خيري يظهر الضابط في دور صغير، من خلال طيار شاب يرتدي الزي الرسمي والكاب المميز، ويستعين به نجيب الريحاني (حمام) من أجل إنقاذ ابنة الباشا (ليلى مراد) من براثن رجل محتال استطاع أن يوقعها في غرامه، وهنا يستعين الضابط الطيار بالزي الرسمي في مواجهة محمود المليجي الرجل المحتال، وهناك داخل واحد من الملاهي الليلية التي تضم صفوة المجتمع، يخترق عالمهم الخفي الغارق في السكر والعربدة، ليوجه له لطمة قوية بيده الخالية سوى من الثقة التي منحه إياه “حمام” مدرس اللغة العربية باعتباره رجل سلطة، والدفعة النفسية والعاطفية التي اكتسبها من وجه ليلى مراد (ابنة الباشا) البرئ الجميل. وبالرغم من إن وجدي كان طياراً مدنياً، إلا إن الزي المميز للطيارين الشبيه بالزى الشرطى يحظى بوجاهة اجتماعية لها اعتبار لدى طبقات المجتمع المختلفة، ومن ثم يلعب الدور الأكبر فى اقتحام الملهى وفض الاشتباك.
وهنا يلاحظ وجود جدلية بصرية بين الزي الرسمي لرجل الشرطة وبين السلاح الميري، فعندما يظهر الزي يختفي السلاح على اعتبار أن السلطة تجد تحققها في واحدة من العلامتين المرئيتين، والزي يلعب أدواراً نفسية واجتماعية، فهو يمنح الثقة والهيبة للضابط ويلقى الروع في نفوس المحيطين. ويمكن للسلاح الميري أن يقوم بنفس الدور، خاصة في غياب الزي، غير أن الدور الحقيقي للسلاح يتضح في علاقة الضابط بالمجرمين.
ومن المفارقات التي تستحق التوقف أن فقدان السلاح يؤدي قانوناً إلى فقدان الزي في إشارة إلى فقدان الوظيفة برمتها والتخلي عن السلطة على نحو ما شاهدنا في أكثر من عمل.
فيلم رصيف نمره 5
ويعتبر فيلم “رصيف نمرة 5” واحداً من أبرز الأعمال الفنية التي نجحت في تجسيد هذه العلاقة من خلال سيناريو صيغ بمهارة من قبل مخرج الفيلم نيازي مصطفى والسيد بدير، وقام ببطولته فريد شوقي عام 1956. وفيه جسّد شوقي دور “الشاويش خميس” الذي يفقد زوجته في صراعه مع عصابة المخدرات، التي يتزعمها “المعلم بيومي”، الذي لعب دوره زكي رستم بكاريزما خاصة جعلته أيقونة لأدوار الشر في السينما المصرية. وفي هذا الفيلم نشهد – ربما لأول مرة – البعد الاجتماعي للضابط، فخميس شاويش بسيط يعمل في خفر السواحل، يعيش في مسكن متواضع في حي شعبي، ولديه زوجة وطفلان يسعى على تربيتهما. وبالرغم من أن شوقي – باعتباره نجماً لأفلام الحركة في ذلك الوقت – قد استخدم كل الطرق في مواجهة عصابة المخدرات، إلا إن أهم ما يميز الفيلم في سياق بحثنا في جدلية العلاقة بين السلاح الميري والزى الشرطي، وجود عدة مشاهد معبّرة ساهمت في إدارة دفة الأحداث بحيث توقف الزي عن أن يكون مظهراً للوجاهة الاجتماعية، وتوقف السلاح عن أن يكون أداة لترويع المجرمين، وإنما صارا عنصرين ماديين حقيقيين، لهما من الحيوية ما جعلهما يشتركان فعلياً في الأحداث ويسهمان في تصعيد الخط الدرامي إلى الذروة.
المشهد الأول يدور في خمارة بحري، عندما يدخل الشاويش خميس (فريد شوقي) إلى الخمارة بحثاً عن أحد المجرمين الفارين ويشرع في الجلوس على أحد الكراسي، فيقترب منه فاخر فاخر (أحد أفراد العصابة) بروح متحدية، وهو يردد العبارة الشهيرة “لامؤاخذة يا افندى.. الكرسي ده بتاعي”.
وعندما يحاول أن يجلس على كرسي آخر، يقوم محمود المليجي “المعلم عرفان” بتكرار نفس الموقف مردداً عبارة ذات دلالة “البدلة دي لها احترامها.. عايز تشرب كاس سيبها في بيتكم وإلبس لك بنش”. وبالرغم من النبرة التهكمية التي ألقى بها المليجي عبارته، إلا إنها تلخص نظرة المجتمع تجاه الزي العسكري باعتباره ذا هيبة لا ينبغي أن تدنس في أماكن اللهو. كما إنها تعني في ذات الوقت أن الزي العسكري يمثل قيداً على الضابط الذي يرتديه، بحيث لا يستطيع أن يمارس حياته بكامل حريته مثل المواطنين العاديين الذين لا ينتمون إلى السلطة.
في المشهد الثاني يتلقى “خميس” مكالمة تليفونية من مجهول يخبره فيها بوفاة طفلته الصغيرة، وهنا تتحرك غريزة الأب في نفس الشاويش فينهار نفسياً، ويجرى مندفعاً إلى مسكنه لرؤية ابنته، تاركاً سلاحه الميري على الأرض، ليلتقطه أحد رجال المعلم عرفان .. وعندما يصل “خميس” إلى بيته ويكتشف أن ابنته مازالت على قيد الحياة يتذكر فجأة سلاحه الميري الذي فقده، وهنا تتراجع مشاعر الأبوة ويطغى شعور الضابط الذي أوشك على فقدان سلطته.
في المشهد الثالث يقود المعلم عرفان وصديقه فاخر فاخر مركباً في الملاحات، ويقفان في وسط المياه، وهما يحملان سلاح الشاويش خميس اللذان استطاعا الاستيلاء عليه. وهنا يردد فاخر الحكم المتوقع صدوره في مواجهة خميس، ثم يمسك بالبندقية الميرى وينظر إليها بإعجاب، ثم يقبلها قبل أن يلقى بها في قاع المياه، وهو يقول: “والله حلوه”. وهنا تتضح العلاقة الحميمية التي بين فاخر وبين السلاح الناري، وهو المجرم الذي اعتاد استخدام السلاح الأبيض. وموقف عرفان غير العابئ بالسلاح في حد ذاته ولكن بالمصير المظلم الذي ينتظر الشاويش خميس، وهو موقف يتسق وموقف نجح فيه عرفان في قطع خط سير الحمام الزاجل، الحامل لعبوات الكوكايين، بسلاحه النارى الخاص حتى يفسد على البوليس خطته في الإيقاع بالعصابة.
المشهد الرابع هو وقوف الشاويش خميس منكسراً أمام اللجنة العسكرية التي انعقدت لمحاكمته وقيامها بخلع الشارات العسكرية من فوق الزي العسكري، ثم تجريده من الزي كاملاً في إشارة إلى نزع السلطة منه. وهو مشهد يدلل على زوال السلطة من جانب على استرداد خميس لحريته الشخصية من جانب آخر، وهو ما سيتضح في المشهد الخامس من المشاهد ذات الدلالة التي اخترناها، عندما يجلس بين أسرته وهو يردد “أديني قلعت لهم البدلة اللي كانت حايشاني عنهم.. أديني فضيت لهم” . وهي صرخة مظلوم كانت بمثابة نقطة الانطلاق التي استطاع خميس من خلالها مطاردة أفراد العصابة والإيقاع بهم واحداً واحداً دون سلاح ودون زى عسكرى.
فيلم بداية ونهاية
وفي فيلم “بداية ونهاية” الذي أخرجه صلاح أبو سيف عام 1960 عن قصة لنجيب محفوظ يعبّر الزي العسكري عن لحظة تحول حسنين (عمر الشريف) من الطبقة الكادحة إلى الطبقة العليا في مشهد بليغ نجح أبو سيف في توظيفه ببراعة من أجل إيصال الفكرة. فحسنين يدخل الحارة التي تربى فيها وشهد أيام الضنك وشظف العيش، مرتدياً الحلة العسكرية للمرة الأولى، وهو يمشي بين الناس واثقاً متعالياً. وفي هذه اللحظة، وبينما يمر من أمام سليمان البقال (صلاح منصور)، يميل هذا الأخير على آخر يجلس بجواره قائلاً: “إبن أم حسن بقى ظابط”، وهي عبارة تحمل الكثير من التهكم، خاصة أن سليمان “ابن الحتة”، ويعرف التاريخ الاجتماعي المتدني لأسرة حسنين، بل إنه كان على علاقة غير مشروعة بأخته “نفيسة” (سناء جميل).
وفي هذا الفيلم يقدم نجيب محفوظ صورة شديدة الواقعية والجرأة لضابط الحربية. فهو إبن لإحدى الأسر الفقيرة التي فقدت الأب، عائلها الوحيد، فاضطرت لبيع أثاث المنزل حتى تستطيع أن تدفع إيجار المسكن. وفى ظل هذه الظروف القاسية ضحى الجميع، بالطرق المشروعة وغير المشروعة، من أجل “حسنين” الإبن المدلل الذي صعد على أكتاف الجميع ليصير ضابطاً بالحربية، ثم بدأ في محاكمتهم واحداً واحداً باعتبار أن وجودهم في حياته عار عليه.
وفي مشهد آخر معبّر يقف أمام أخيه الأكبر حسن “فريد شوقي” مطالباً إياه بترك حياة البلطجة والمخدرات، فيقول له حسن: “لو عايزني أسيب اللي أنا فيه.. إقلع البدلة اللي أنت لابسها دي وتعالى نبدأ من جديد”، وهي عبارة شديدة الذكاء تذكر حسنين بالطرق غير المشروعة التي أوصلته إلى “البدلة” العسكرية. فكلاهما أقام حياته على باطل، غير أن تاجر المخدرات كان واضحاً وصريحاً لأنه ليس كالضابط، يملك زياً رسمياً براقاً يتخفى وراءه.
وفي مشهد تراجيدى أخير، يكتشف حسنين أن أخته “نفيسة” تعمل بالدعارة، وبعد أن يدفعها للانتحار حتى لا تدنس زيه العسكرى، يتذكر أنها ضحت من أجله، وأنها بقروشها القليلة التي حصلتها من المتاجرة بجسدها إنما كانت تساهم في ارتدائه لهذا الزى . وهنا يصعد فوق السور نفسه الذي انتحرت نفيسة من فوقه، ليلقى بنفسه في النهر، لا من أجل أن يغسل نفسه المليئة بالذنوب، لكن ليطهر الزي العسكرى من الدنس.
وإذا كان الزي العسكرى قد لعب دوراً محورياً في فيلمي “رصيف نمرة خمسة” و”بداية ونهاية”، فإن السلاح الميري لعب نفس الدور في فيلم “المشبوه” الذي أخرجه سمير سيف عام 1981، عن قصة لإبراهيم الموجي، وقام ببطولته عادل إمام وسعاد حسني وفاروق الفيشاوي، الذي قدم أفضل أدواره، وكان بمثابة جواز المرور بالنسبة له للدخول إلى عالم النجومية.
فيلم المشبوه
في هذا الفيلم يقدم الفيشاوي صورة معاصرة لضابط الشرطة في الثمانينيات، من حيث الشكل والخلفية الاجتماعية، فخلافاً لحسنين في “بداية ونهاية” والشاويش خميس في “رصيف نمرة خمسة” يحمل الضابط “طارق” وجهاً سينمائياً، وينتمي إلى عائلة استقراطية، أبوه لواء متقاعد وأمه سيدة مجتمع، والصراع بين الضابط طارق واللص ماهر (عادل إمام) هو في حقيقته صراع طبقي، جعل طارق يشعر بالإهانة من مجرد فكرة أن لصاً استطاع أن يستولى على سلاحه الميري ويؤخر ترقيته، من جراء معركة شوارع تمت بالأيدي وانتصر فيها اللص.
نجح الفيشاوي في هذا الدور حتى صارت ملامحه الأرستقراطية أيقونة لرجال الشرطة الذين يجوبون شوارع القاهرة في الثمانينيات والتسعينيات، مثلما صارت ملامح أمير كرارة أيقونة لضابط الشرطة في الألفية الثالثة، خاصة بعد ثورة 25 يناير.
ومن خلال مجموعة من المشاهد ذات الدلالة استطاع سمير سيف أن يرسم صورة إنسانية جديدة ومبتكرة لرجل الشرطة الذي يتخلى عن رغبته في الانتقام الشخصي والثأر لكرامته، في سبيل الحفاظ على أسرة اللص (ماهر)، والعمل على إنقاذ حياة طفله الصغير من بين أيادي العصابة التي اختطفته، بهدف مساومته للحصول على المال والانتقام منه من جراء خيانته لها . وهنا ينجح سيف في تقديم رؤية بصرية جذابة لمعركة الحسم النهائية، التي تدور في الصباح الباكر، في ميناء هادئ، ووسط أجواء شتائية باردة إلا من سخونة البارود وأصوات طلقات الرصاص القاتلة.
وعندما تنفد ذخيرة الضابط “طارق” في لحظة مصيرية يكاد يفقد فيها حياته وحياة الطفل يظهر اللص “ماهر” في الكادر في لقطة معبّرة وهو يخرج من جيبه السلاح الميرى، الذي سبق وأن استولى عليه من الضابط في بداية الفيلم، وهو يقول: “ده شغال يا بيه” . وهنا يكتشف طارق أنه أمام اللص الذي أهانه وظل يبحث عنه لسنوات طويلة دون جدوى، إلا إنه يحسم موقفه ويغلٍّب الواجب الإنساني على المصلحة الشخصية في الانتقام، وفي ثوان معدودة يلتقط المسدس ويقتل رجل العصابة وينقذ الطفل، ويعفو عن اللص “الأب” ويعده بأن يكون شاهد ملك . وينتهي الفيلم نهاية كلاسيكية سعيدة بإجتماع شمل أسرة اللص التائب (الأب والأم والطفل).
وبالرغم من أن سمير سيف كان حريصاً، حتى اللحظات الأخيرة، على الحفاظ على صورة الضابط الإنسانية من ناحية، والملتزمة بمبادئ القانون من ناحية أخرى، إلا إن الإشارة الموحية التي صدرت عن الضابط طارق، وهو يشير بيده التى تحمل السلاح لقوات الشرطة، التي وصلت متأخرة كعادتها في الأفلام العربية، بأن هناك واحد فوق وواحد تحت من الجناة، دون الإشارة إلى “ماهر” اللص الشريك في جرائم العصابة، إنما يشي ببداية عهد شرطى جديد سيكون فيه الضابط هو الحكم في تحديد من يكون الجاني ومن يكون الضحية، بفضل ما يتمتع به من سلطة ومن قوة، وهو ما أثبتته الأيام بعد سنوات من عرض الفيلم.