رصاصات كثيرة طائشة في فيلم كيفن كوستنر “هورايزون: ملحمة أمريكية”

من الظواهر الجيدة عودة ظهور أفلام الويسترن ولو من خلال السلاسل التليفزيونية وأحدثها مسلسل “يلوستون” Yellowstone الذي يقع في خمسة أجزاء، وفيلم “الموتى لا يؤذون” الذي أخرجه الممثل الأمريكي فيجو مورنتنسن، وفيلم “مكان العظم” Place of Bones للمخرجة الكندية أودري كومينجز. فهذا النوع من الأفلام هو الذي ساهم في صنع مجد هوليوود القديمة، وكان دائما يلقى إقبالا كبيرا من جانب مشاهدي السينما.

أكثر الأعمال الجديدة إثارة للجدل هو “هورايزون: ملحمة أمريكية” Horizon: An American Saga الذي يعود فيه الممثل كيفن كوستنر إلى مقعد المخرج، وينفق من ماله الخاص 35 مليون دولار على إنتاج الجزء الأول منه الذي بلغت ميزانيته 100 مليون دولار. لكنه لم يحصد سوى 34 مليون دولار في عروضه التجارية، ما يعتبر فشلا ذريعا لفيلم من هذا النوع سأحاول في مقالي هذا فهم أسبابه.

لقد تخلى كوستنر عن دوره في مسلسل “يلوستون” لكي يخرج ويشترك في كتابة السيناريو ويقوم ببطولة “هورايزون”، الذي عرض الجزء الأول منه في مهرجان كان السينمائي في مايو الماضي. وفي حدث نادر، قرر مهرجان فينيسيا أن يعيد عرضه في اليوم الأخير من الدورة الـ81 قبل العرض العالمي الأول للجزء الثاني منه في السابع من سبتمبر.

يتكون المسلسل من أربعة أجزاء، توقف حاليا تصوير الجزء الثالث منه لأسباب إنتاجية.  كما لم يعرض الجزء الثاني في الشهر الجاري، أغسطس، حسبما كان مقررا، بعد ما مني به الجزء الأول من خسائر كبيرة في السوق.

كان كيفن كوستنر يتطلع إلى أن يصبح الجزء الأول، فيلما مستقلا، وأن تصبح باقي الأجزاء الأربعة، أفلاما مستقلة، وهي فكرة نظرية جيدة لكنها تقتضي براعة خاصة في الكتابة تتمتع بالتماسك والوضوح والبناء الصلب والشخصيات الواضحة المعالم، حتى يمكنها أن تجذب المشاهدين.

كان أهم ما يميز أفلام الويسترن، اعتمادها على بطل واحد يكون عادة في قلب الأحداث، مع عدد محدود من الشخصيات المكملة، في سياق حبكة بسيطة يمكن استيعابها وفهمها والاستمتاع بالتواءاتها من طرف الجمهور، مع كثير من مشاهد الإثارة والقلق والتوتر. ولكن يجب أن تكون مثل هذه الشخصيات والمشاهد مترابطة، تصب كلها في مسار الحبكة مهما تفرعت في الأماكن والأزمنة.

وقد حافظت أفلام “الويسترن الاسباجيتي” الإيطالية، على هذه العناصر مع تغييرات كثيرة في مغزى القصة وصورة “البطل” المفترض، أو في طول المشاهد وطريقة إخراج مشاهد المبارزات تحديدا، وكان سيرجيو ليوني مثلا، يعتمد على شخصيتين أو ثلاث شخصيات رئيسية فقط في أفلام ثلاثية الدولارات، وجعل مشاهد المبارزات تتخذ شكلا قريبا من الأوبرا، مع إبراز دور الموسيقى كعنصر رئيسي في توليد المشاعر والإيحاء بالأجواء الغامضة والشعور الوجودي في لحظات الخطر التي تسبق الموت.

أما فيلم “هورايزون” فمن المؤسف أنه يفتقد إلى معظم هذه العناصر. صحيح أن هناك صورا بديعة للأماكن الطبيعية، تبرز جمال وتوحش المناطق الوعرة التي يدور فيها التصوير، وموسيقى تضيف إلى الصورة وتضفي عليها الكثير من المشاعر أو تظلل الحالة النفسية للشخصيات. ولكن بدلا من مكان محدد واضح المعالم في الغرب الأمريكي، ينتقل الفيلم من مكان إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، في عمل يعاني من تعدد الشخصيات كثيرا وهو ما لم يتمكن السيناريو من التعامل معه بحرفية بحيث يجعل الشخصيات قريبة منا، كما أصبح الفيلم يعاني من الانتقالات الحادة المزعجة بسبب المونتاج العصبي الذي يقفز من لقطة داخل مشهد ما، إلى لقطة أخرى داخل مشهد آخر، يدور في مكان آخر، وهو ما يجعل المتفرج يتساءل عن العلاقة التي تربط بين هذا وذاك، وعن مصائر الشخصيات التي تختفي فجأة أو تظهر فجأة.

يكمن العيب الرئيسي في السيناريو الذي يريد أن يخلق عملا ملحميا ينتقل بين أماكن مختلفة (ثلاث ولايات هي: مونتانا، ووايومنج، وكنساس) وشخصيات مختلفة، وأماكن متعددة، ليصنع نسيجا من الصور التي تصف لنا ما كان يحدث في الغرب الأمريكي في ستينيات القرن التاسع عشر مع بدء التوسع في استعمار الغرب وما نشأ بالضرورة عن نزاع بين المستوطنين، أي المستعمرين البيض، والسكان الأصليين الذين يطلق عليهم الهنود الحمر.

يبدأ الفيلم بامرأة تدعى “إلين”، تطلق النار على رجل متقدم في العمر، ثم تحمل طفلها الرضيع وتفر على صهوة حصان. يصاب الرجل إصابة خطيرة لكنه لا يموت. ولا نعرف سبب هذه المحاولة، وفيما بعد، في مكان آخر، أي في مدينة “هورايزون” التي هي مساحة واسعة من الأرض المفتوحة تحت الإنشاء يتم الإعلان عن بيع أراضيها من جانب شركات رأسمالية لا نعرف لها أصلا من فصل، تعود إلين للظهور، ونعرف أنها كانت عاهرة، ونستنتج أنها تعرضت للاغتصاب من جانب الرجل الذي أرادت الانتقام منه. لكن كل هذا يأتي استنتاجا، شان الكثير من التفاصيل الأخرى.

قبل ذلك سنشاهد في مشهد طويل للغاية، هجوما بشعا من جانب السكان الأصليين على منازل في “هورايزون”، حيث نستنتج مرة أخرى، مقتل الأب والإبن في أسرة أمريكية بيضاء، ثم اختباء الزوجة “فرانسيس” وابنتها “اليزابيث” تحت الأرض الخشبية، يتنفسان عبر ماسورة بندقية، إلى أن تتمكن فرقة من الجيش الأمريكي الجديد من إنقاذهما ليصبحا في رعاية قائدها، الضابط الشاب الوسيم “ترنت” الذي يصبح مفتونا بالأرملة الحسناء “فرانسيس” (تقوم بدورها سيينا ميللر)، وفي انتقال آخر، ومكان آخر، تزحف قافلة من العربات التي تنقل المستوطنين وسط الصحراء الجافة الحارة حيث يصبح الماء عملة نادرة، ويأمر قائدها بالسيطرة على مصادر المياه وتوزيع الطعام ومصادرة ما يتمتع به بعض ما حققوا الثروة والثراء وتحديدا زوج شاب وزوجته، يظهران هنا ثم يختفيان من الفيلم.

هناك أيضا عاهرة شابة حسناء تدعى “ماريجولد” (تقوم بالدور آبي لي)، تحاول اصطياد الرجال، ويكون قد مر أكثر من ساعة كاملة على تلك التفاصيل التي تمضي في بطء شديد، إلى أن يظهر كيفن كوستنر في دور تاجر خيول يخفي وراءه شيئا لا نعرفه بعد، يدعى “هايز إليسون”.

تحاول ماريجولد إغواءه ويبدو هومنجذبا إليها رغم فارق السن الكبير بينهما لدرجة أن يذهب وراءها حيث تقيم في منزل العاهرة السابق تعرفنا عليها “إلين”، التي أصبحت متزوجة الآن من رجل أعمال ساذج يريد أن يبيع قطعة أرض لزبائن غرباء، سيتضح أنهم إبنا الرجل الذي سبق أن أطلقت عليه النار في البداية وسرقت طفلها منه وهربت: الابن الأكبر يحسب الأمور بقوة وحسم، يريد أساسا استرداد الطفل الصغير، بينما الابن الأصغر، وهو أخرق، متهور، يتعجل الانتقام ويرتكب حماقات سرعان ما تودي به.

أما صاحبنا “هايز إليسون” المترهل صاحب الشارب الكث، الذي لا يتكلم كثيرا، فهو يجرجر نفسه في ثقة شديدة وراء العاهرة الشابة، يستسلم لها على الفراش لتفعل ما يمكن أن يوقظ فيه بعض ما كان في الماضي، وفي اللحظة المناسبة يقتل الإبن المتهور ثم يرحل ومعه ماريجولد التي تريد أن تبدأ حياة جديدة بعيدا عن ذلك المكان.

تتوزع الوحشية في الفيلم بين الهنود الحمر من ناحية، الذين يمارسون القتل وحرق المنازل لا يستثنون حتى الأطفال، ولكنهم في داخلهم منقسمون على أنفسهم فشيخهم الكبير يرى أن المستقبل في تلك الأراضي ليس في صالحهم، بينما يريد زعيمهم الشاب مواصلة القتال حتى النهاية الدموية. ومن الناحية الأخرى هناك جماعة من البيض الذين يسعون وراء السكان الأصليين فقط من أجل سلخ جلود رءوسهم وبيع فرواتها.

لا شيء يربط بين الكثير من المشاهد المتفرقة، ويساهم الإيقاع المترهل الهابط في دفع الفيلم نحو السقوط في دائرة اللامبالاة من جانبنا، فنحن لا نعرف ما الحكمة في كل تلك الانتقالات، ولا في ظهور كل تلك الشخصيات التي يصبح وجود الكثير منها عبئا على الفيلم، رغم المناظر البديعة للطبيعة في الصحراء و”وادي مونومنت” الذي اشتهر في أفلام جون فورد.

يلعب كيفن كوستنر دورا مماثلا لأدوار أبطال أفلام الويسترن القديمة، فمن الواضح أنه نموذج أخلاقي مضاد وسط عالم من الأشرار، وهو يتميز بهدوء شبيه ببرودة أعصاب كلينت إيستوود في “ثلاثية الدولارات” لسيرجيو ليوني، لكنه يفتقد للحرارة والحيوية والتألق الذي كان يميز إيستوود، كما أن الفيلم نفسه يسقط في الرتابة والتخبط، ويبدو كما لو كان قد تم انتزاع الكثير من المشاهد واللقطات التي كان من الممكن أن تلقي الضوء على خلفية بعض الشخصيات، أو من وجود مشاهد كان يمكن الاستغناء عنها ببساطة لربما يستعيد الفيلم بعض الحيوية، مثل ذلك المشهد الذي يدور في الحانة، بين مجموعة الأشقياء من البيض، ومقاتل شاب من السكان الأصليين، والمبارزة التي لا تقع بينه وبين الصبي الذي رأيناه في بداية الفيلم يهرب من المذبحة التي ارتكبها السكان الأصليون بقيادة هذا الشاب نفسه، وكان نتيجتها القضاء على أفراد أسرته جميعا.

الشخصيات في معظمها لا تثير الاهتمام، فمنها شخصيات نمطية مبالغ فيها، ومنها أيضا شخصيات باهتة، ولكن كوستنر يريد أن ينقل لنا رسالة مؤداها أن الصراع بين الجميع كان هو أساس العيش في تلك الفترة، لكنه يتجاهل تحديد طبيعة الصراع فمعظمها صراعات شخصية متدنية، لا صراعا على الأرض، الملكية، السيطرة، وهو الهاجس العملي الشرس الذي أنشأ الغرب الأمريكي.

وكان من الغريب أن ينتهي الفيلم فجأة على لقطات سريعة في مونتاج متداخل، تلخص لنا ما سنراه في الجزء الثاني من تلك الرباعية، ولكن من دون أي تحديد أو توضيح، فهي تتعاقب دون وجود فاصل واضح بينها وبين ما توقف عنده الفيلم!

والشعور الأخير هو أن الرصاصات الكثيرة التي انطلقت في هذا الفيلم، انحرفت كلها عن أهدافها، لتصيب الجمهور نفسه، وتقضي على فرصة الفيلم في العثور على مكان له وسط أفلام الويسترن المرموقة.

Visited 28 times, 1 visit(s) today