“رسائل من اليرموك”.. مأسوية الداخل وتعاطف الخارج
في “رسائل من اليرموك”- الذي يحمل توقيع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي – سيجد المتلقي نفسه أمام فيلمين متناقضين: أحدهما يخص نزار سعيد ذلك المصور الشاب البالغ من العمر 23 عاماً الذي وصفه مشهراوي في عناوين شريطه الوثائقي بأنه المخرج المساعد، هو الذي وثق بلقطاته للمخيم – سواء كانت فوتوغرافية أو فيديو – كارثية الحياة اللاإنسانية في ذلك المكان المحاصر على مدى أكثر من عامين، كاشفاً معاناة أهله من القصف والمرض ونقص المياه، والجوع الذي أودى بحياة عدد غير قليل منهم وجعل البعض الآخر ينقب في النفايات بحثاً عن أي شيء يُؤكل حتى لو كان فاسداً، أو جعلهم يلجأون إلى “شوربة البهارات”التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنها فقط تحميهم من تعفن المعدة وإن كانت تَضر العقل على المدى البعيد. وتتخلل ذلك حكايات عن أهل المصور وخطيبته وأخيه الذي استشهد أثناء تصوير الفيلم، وما تُمثل له السطوح من حرية واقتراب من الأفق المفتوح، وملاذ آمن في الأوقات الصعبة. أما الفيلم الثاني فيخص مشهراوي الذي جعل من نفسه الخيط الذي يربط الأطراف السابقة بعضها ببعض ليُشكل عُقداً وثائقياً، لكن العقد جاء غير متناغم، وكذلك الخيط بدا تقليديّاً شديد الهشاشة.
ثنائية
يقدم فيلم “رسائل من اليرموك»، من دون أن يقصد، ثنائية متناقضة لبطليه الرئيسيين، المخرج، والمخرج المساعد الذي تتفوق حكايته وتؤكد صوره أن رؤيته الفنية أقوى، ربما لأنه يعيش في قلب الحدث. أما المخرج فينظر للحدث من الخارج. فهو، عبر لقطات مختلفة وكثيرة على مدار الفيلم، يرسم صورة لنفسه مفادها أنه متعاطف مع قضية المخيم، مهموم بها، وأنه بهذا الفيلم يسعى إلى تحقيق شيء من أجلها، فالكلمات المنمقة الناعمة التي أداها مشهراوي بصوته ذي الأداء التمثيلي الجيد والمؤثر، والذي تخدمه الموسيقى المصاحبة تقول هذا بوضوح. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا تركنا تلك الصورة التي تم تصديرها إلينا عبر الرسم بالكلمات، ونقبنا في الجوهر الحقيقي للقطات الخاصة به، بكل ما تتضمنه من الإيماءات والعلامات ذات الدلالات المتباينة، لنقرأ النص التحتي لذلك الشريط الوثائقي، فهل يا تُرى سيصمد هذا التعاطف أمام الصدقية، ويكون على مستوى الكلمات نفسه؟
في النص التحتي للفيلم نقرأ ملامح أول أطراف هذه الثنائية المتناقضة الذي هو نزار، شاب نحيل بفعل الحصار وحالة التجويع المفروضة عليهم، ملابسه بسيطة، ولكن بماذا تهم الملابس طالما أنه شغوف بعمله، يُدخن السجائر بشراهة طوال حديثه على “سكايب”مع المخرج، المشاهد الخالية من التدخين نراها فقط عندما يلتقط صور الناس ويندمج معهم، وقتذاك لن يمسك بالسيجارة، كأن الناس ملاذه وحصنه المنيع الذي يُنسيه التوتر المكبوت في أعماقه، على رغم ثباته وهدوئه الظاهريين، فإضافة إلى أنه يعيش بعيداً من أسرته، خصوصاً أمه التي يفتقدها، فهو أيضاً لم ير خطيبته التي تربطه بها قصة حب منذ ما يزيد على عام، وهو إلى جانب هذا يغامر بحياته، ينقل الحدث تحت القصف الذي لا يرحم ولا يميز، ينقله بعيداً من الانحياز إلى طرف ضد الآخر، ومن دون توجيه أسئلة سياسية، أو النبش في ما وراء تلك الحال. فكل ما يريد هو المساعدة بفك الحصار عن أهل المخيم الذي ينتمي إليه بنقل صورة حية مؤلمة وقاسية وشديدة الفنية لما يدور في ذلك المكان مثل مظاهر نقص المياه والجوع وتشابك الأيدي المتصارعة من أجل الحصول على أي حصة من المساعدات لإطعام الصغار والأطفال الرضع، كتلك المرأة وزوجها اللذين يبحثان في المخلفات عن كسرة خبز، وأحد الصبية يلحس علبة طعام فارغة، وطفل يجلس على الرصيف بوجه لطخه سواد كالفحم وملابس شــديدة الاتساخ يخبر الكاميرا في خجل بأنه لم يأكل منذ الأمس وينتظر المساعدات. أو تلك المرأة التي تتوسل لأحدهم أن يُزيد لها الكمية الضئيلة من الطعام، لكنه يرفض حتى يُتيح الفرصة للآخرين. فالجوع الذي تسبب في موت الكثيرين هناك كان موضوعاً أساسياً في كثير مما صوره نزار، راصداً برقة وحساسية كيف يتعامل الإنسان مع بقاياه، كيف يحتفي المرء بقطعة من الخبز الحاف مثلما فعلت المرأة العجوز وهي تتناولها من يد طفلة صغيرة بينما تقول بصوت احتفالي: “يا الله… وسُخنة كمان!»، أو مثل تلك اللقطة لسيدة تجلس على الأرض بجوار كرتونة فيها مواد غذائية ويدها تلتقط بقايا أعواد المعكرونة المتناثرة على الأرض.
في اللقطات السابقة، إضافة إلى لقطات أخرى كتلك التي نرى فيها الناس يتدافعون هرباً من القذائف والكاميرا تلاحقهم في لقطة واحدة طويلة أثناء عبور الشارع فوق الدماء حاملين أحد ضحايا القذف، تنتبه الكاميرا إلى منظر الدماء الكثيرة فتتراجع مرة ثانية لتركز عدستها عليها لبعض الوقت، ثم تعاود تصوير الناس المقبلين من الخلف، تلتقطهم وهم يخرجون من أحد الشوارع الفرعية على الناصية المعاكسة، ثم تنتقل إلى الناصية القريبة لترصد صراخ الأطفال واستمرار تدافع الناس الفارين من الموت. أو تلك اللقطة التي تتابع طفلين يحملان رغيفاً من الخبز يأكلان منه، ثم يعطيان المصور جزءاً منه، قبل أن يذهبا إلى المرأتين المسنتين ويعطياهما جزءاً منه. هذه اللقطات بزمنها النفسي المعبر عن الحالة الجوانية لناس المخيم في تلك اللحظات، بحركة الكاميرا المرتجلة والتلقائية تجعلنا نتساءل، ألا يمكن أن نعتبر نزار سعيد شريكاً في الإخراج، خصوصاً إذا كانت كل مواد الفيديو والفوتوغرافيا الخاصة بالمخيم جاءت من إبداعه؟ وما الذي تعنيه كلمة إخراج في هذا الشريط الوثائقي؟ وإذا نزعنا كل “المواد الفــيلمية”الخاصة بنزار ماذا سيتبقى من الفيلم؟
انفصال
أما الطرف الآخر في تلك الثنائية فيجلس مطمئناً في بيته الآمن، في مدينة رام الله، يرتدي قبعته التي تميزه، ملامح الوجه لا يعكر صفوها خوف أو ينغص عليها شيء سوى قلقه من أنه غير قادر على صناعة فيلم من كل هذه المواد التي يرسلها نزار، والذي يُعبر عنه أكثر من مرة. صحيح أن الكوادر تم اختيارها بعناية، والإضاءة المسلطة عليه مشغولة بمهارة، يعرف صاحبها كيف يفصل الهدف عن الخلفية، وكيف يحقق التباين بينهما بدرجة تُضفي عليه بهاءً، فالاهتمام بالمظهر والأناقة المتوارية أحياناً تفضحها الإضاءة بجمالياتها، خصوصاً عندما يبدو الشارع خلف مشـــهراوي شـــديد السواد، ما يُؤكد انفصال المخرج عن ذلك العالم الذي حاول صناعة فيلم عنه، وذلك على رغم مزاعمه بأنه ينتمي إلى أهله، وأنه متعاطف معهم، وبأنه زار المخيم مرات عدة قبل الحصار، إذ ها هو يقدم معلومات خطأ تماماً عن عدد سكان المخيم ونسبة الفلسطينيين المقيمين فيه، وذلك إذا صدقنا بعض نقاد السينما الفلسطينيين الذين عاشوا في سورية ويعرفون المخيم جيداً.
الأمر اللافت في شريط “رسائل من اليرموك”هو الظهور المتكرر للمخرج كلما سنحت له الفرصة خلال محادثات “سكايب”مع نزار وخطيبته لميس، وصديقه أيهم أحمد عازف البيان ووالده عازف الكمنجة، والطفلتين الصغيرتين الشديدتي الذكاء والكبرياء، وخلال زيارته متحف محمود درويش. لكن كثرة هذا الظهور أضرت بالفيلم، على رغم أنه مبرر فنياً، لكنه الاختيار السهل والأضعف، خصوصاً أنه في بعض اللقطات كان يسرق الكاميرا من الهدف بحركة أصابعه المتوالية وهي تمسح المنضدة، أو بأن يضع نفسه في مقدم الكادر، ثم تأتي صور أهالي المخيم في الخلفية، فهو مثلاً أثناء عرض الصور المؤلمة يقدم إحداها قائلاً: “وهذه صورة شوية مؤلمة… ما بعرف ليش؟». ويسأل نزار عنها فيشرح له ولنا تفاصيل وكواليس صورته التي أسماها “الملوك الثلاثة»، والتي تجسد حالة ثلاثة أطفال حليقي الرؤوس في وضع جميل فنياً – على رغم كونها لقطة مؤلمة – فملامحهم فيبها شيء يمس القلب، بنظرة عيونهم ووجوههم الملطخة بالسواد.
هنا يحكي نزار قصة مرضهم وكيف قام الأهل بحلق شعورهم، وكيف كان من المفترض أن يتم عزلهم، لكن هذا لم يتم بسبب الحصار، ونقص الدواء. المثير للدهشة أنه أثناء حكي نزار عنهم ينتقل المخرج ليقدم لنا لقـــطة لنفسه وهو يقوم بإشعال سيجارته فيسرق الكاميرا من الحكاية الأصلية، ربما أراد المخرج أن يُنوع في اللقطات خوفاً من إحساس بالرتابة قد يتسرب إلى المتلقي، لكن المثير للتساؤل أنه إذا كان لديه صور أخرى مختلفة للملوك الثلاثة – كما ظهر في اللقطات التالية – فلماذا يهتم بوضع لقطة له وهو يشعل السيجارة أو يدخنها، وهو الأمر الذي تكرر كثيراً؟ لماذا لم يتوار مشهراوي قليلاً – أو كثيراً – خصوصاً أن هناك فيضاً من الصور يتعلق بالحديث عن الملوك الثلاثة، وعن أهل مخيم اليرموك؟
إشكاليات فنية
“رسائل من اليرموك” فيلم وثائقي، لكنه يطرح إشكالية تتعلق بمدى صدقية العمل عندما يستعين بلقطات تمثيلية ليس الغرض منها إعادة تمثيل واقعة ما لتوضيحها بسبب نقص المواد الأرشيفية، ولكنه يلجأ إلى بعض اللقطات الأدائية بهدف تحقيق التأثير العاطفي في المتلقي، مثلما حدث أثناء تقديمه خبر استشهاد أخي نزار. ففي الخلفية تأتينا موسيقى مثيرة للشجن عقب تواري صراخ الأطفال وذعر الناس بعد سقوط قذيفة كان لها ضحاياها، لكننا على الشاشة نرى مشهراوي يُشعل سيجارته مجدداً، يأخذ نفساً عميقاً، ويلوذ بالصمت الحزين، تملأ عينيه الدموع، يخلع نظارته حتى تستطيع الكاميرا أن ترى جيداً دموعه المترقرقة في حدقتيه. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، أليس هذا أسلوباً مباشراً ضعيفاً فنيا ًلأنه يستند إلى ابتزاز عاطفة المتلقي؟! أين اللقطة السابقة من وثائقية الفيلم؟ هل نعتبرها وثائقية أم تمثيلية؟ هل كان بالإمكان التخلي عنها والبحث عن بديل أكثر فنية وصدقية؟