رحلة العمر بين “كواليس” الجمعيات و”كوابيس” المهرجانات
لدىّ مرضان قديمان ممتعان هما: قراءة الأفلام وقراءة الكتب. أحياناً يمتزج المرضان عند قراءة الكتب التى تتحدث عن السينما وصناعها وعشاقها وتاريخها وشهادتها على عصرها وزمنها، من المفيد أيضاً أن اذكر أننى أعتبر الكتب والأفلام كالبشر سواءً بسواء، كل كتاب له من صاحبه نصيب، وكل فيلم يكشف عن صنّاعه حتى إذا لم يقصدوا ذلك، وكلاً من الكتب والأفلام تأخذ سمات بشرية تماماً كأن تكون ظريفة أو كئيبة ، عميقة أو سطحية، مهندمة أومعبرة عن الفوضى ، ذكية أو غبية، مثيرة لليقظة أو دافعة للنعاس والشخير!
وهذا كتاب للناقد أمير العمرى يحمل عنوان “حياة فى السينما” لا تستطيع أبداً أن تتركه إذا بدأت فى القراءة حتى تنتهى منه، ومنذ اللحظة التى اشتريته فيها لم أتركه حتى أثناء ركوب المواصلات العامة والخاصة . بمعيار الكتب التى تحمل صفات البشر أنت أمام رفيق يقظ حاسم قاطع لديه تجربة طويلة يحاول أن يسردها بأسلوب سهل وعذب ولايخلو من السخرية ، والأهم من ذلك أنه يحدثك عن سنوات شديدة الثراء هى فترة السبعينات من القرن العشرين ، كما أنه يحكى عن الكواليس بشكل عام لدرجة أن الكتاب بأكمله يصحّ أن يحمل اسم ” كواليس ” . يروى العمرى عن “كواليس” الجمعيات السينمائية التى انضم إليها، و”كواليس” الجمعيات التى حاول أن يشارك فى تأسيسها، و” كواليس” المهرجانات التى قام بتغطية أنشطتها وأفلامها، و”كواليس” لجان التحكيم التى شارك فيها، والحكايات بأكملها معروضة من وجهة نظر ذاتية تماماً لاتزعم – فيما أظن – امتلاك الحقيقة المطلقة، والسينما حاضرة طوال الوقت والسياسة أيضاً، والإنتقالات فى الزمان والمكان وبين الشخصيات التى غيّبها الموت أوتلك التى مازالت تواصل العطاء، كل ذلك يجعل من الكتاب رحلة ممتعة تستحق الإبحار والإكتشاف، ربما لم يلتزم العمرى بأن يكون شاهداً كما قال فمارس دور القاضى فى أحيان كثيرة، وكانت أحكامه صريحة أويمكن اكتشافها بين السطور، ولكنه أعلن أيضاً فى المقدمة أنه لايستطيع أن يكون محايداً، ربماتنغص عليك الأخطاء المطبعية صفو القراءة أحياناً، وقد تنزعج لخطأ فى تعليقات الصور كأن يوضع اسم أحمد قاسم تحت صورة للمخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى، ولكن الكتاب يظل مع ذلك مختلفاً وباعثاً على المناقشة والجدل وتنشيط الذاكرة والتفاعل معه أو ضده.
عرفت الناقد أمير العمرى من خلال كتاباته وخاصة ً كتاب “سينما الهلاك”، كما كنت أقرأ اسمه فى مجلدات نشرة نادى السينما الشهيرة التى حصلت على بعضها من خلا ل التردد على سور الأزبكية أدامه الله لدراويش القراءة ، ولكنى عرفت العمرى شخصياً خلال الفترة القصيرة التى عاد فيها الى مصر بعد سنوات طويلة قضاها فى بريطانيا، وكان وقتها قد انتخب رئيساً لجمعية نقاد السينما المصريين، وأصدر مجلة صغيرة عن الجمعية تحمل اسم “السينما الجديدة “، وأشرف فى تلك الفترة على تنظيم أسبوع لا ينسى لروائع الأفلام التسجيلية على مرّ العصور حيث عُرضت بالمجلس الأعلى للثقافة أعمالٌ تحمل توقيع الكبار مثل ” دزيجا فيرتوف ” و” لينى ريفنشتال ” و” ميخائيل روم “، وفى الندوة التى أعقبت عرض رائعة ” لينى ريفنشتال ” (انتصار الإرادة) تحدث العمري بحدة وعنف تعليقاً على رأى قلته حول مدى دلالة الفيلم على تعاطف المخرجة مع النازية، ولكن – لدهشتى الشديدة – نشر الرأى كاملاً ضمن مقال لى فى مجلة ” السينما الجديدة ” على مساحة أربع صفحات ، بل إنه كان وراء طلب أن أكتب للمجلة، وتحمّس كثيراً لمقالاتى لدرجة أنه كان ينشر أكثر من مقال فى عدد واحد ، وللأسف توقفت المجلة بعد عشرة أعداد، وعاد العمرى الى لندن، وكان انطباعى عن تجربته القصيرة أنه يمتلك فكراً ومشروعاً وطاقة للتنفيذ، ولكنه لايمتلك صبراً يليق بوطن اخترع الزراعة والبيروقراطية و” الرحرحة ” ومواويل ” هاتولى حبيبى”!
كتاب “حياة فى السينما “، وهو نفس عنوان مدوّنة يحررها العمرى، فسّر لى أنه تقريباً استنفد الصبر فى سنوات السبعينيات الثرية والعاصفة معاً، أقول ثرية لأنها شهدت العصر الذهبى لنوادى السينما وللمراكزالثقافية الأجنبية، كما أنها سمحت لطالب الطب أمير العمرى أن يؤسس ويدير نادياً للسينما فى كلية الطب جامعة عين شمس عام 1971، وأن يفتتح عروضه برائعة فيسكونتى “الموت فى فينسيا”، ولو عُرض هذا الفيلم فى قلب الأوبرا هذه الأيام لما توقف الجدل ، ولاتهم عارضوه بكل الموبقات.
شهدت تلك السنوات تأسيس جمعية نقاد السينما المصريين فى يونيو 1972 بمبادرة وجهود سمير فريد الناقد الكبير، ولكن بداية هذه السنوات شهدت أيضا الإستقطاب السياسى الحاد، والتحول من اليسار الى اليمين ، وانعكس ذلك بالضرورة على الحياة الثقافية والسينمائية ، ويصف أمير العمرى فى كتابه وزير الثقافة الأسبق يوسف السباعى بأنه ضابط الأمن الثقافى للنظام الجديد، وفى الجزء الأول من الكتاب يحكى مؤلفه عن بداية اهتمامه الجاد بالسينما ومشاهدة الأفلام بعد مشاهدته لفيلم “الترتيب” بطولة كيرك دوجلاس وفاى دونا واى وإخراج ايليا كازان فى سينما راديو، ويتحدث عن الخلافات بين النقاد فى جمعية النقاد وخروج الناقد الكبير سامى السلامونى منها، كما يتحدث عن دعم وزارة الثقافة لجمعية جديدة منافسة تحمل اسم (جمعية كتاب ونقاد السينما) التى نظمت مهرجان القاهرة السينمائى، ويقدم ملحقا فى الكتاب يناقش فيه النقاد سلبيات الدورة الأولى التى أقيمت برعاية فندق شيراتون (!!) ويشير إلى كتاب أسود عن هذه الدورة كان من المقرر صدوره، ويتحدث عن تجربة إصدار صحيفة سينمائية أسبوعية تحمل اسم(السينما والفنون) قام بدعمها وزير الثقافة عبد المنعم الصاوى، وصدر العدد الأول منها فى يناير 1977، ورأس تحريرها صاحب الفكرة الناقد سمير فريد، واشترك فى تحريرها أعضاء جمعية النقاد ، ولكنها توقفت بعد ثلاثة وثلاثين عدداً.
يحكى العمرى بحنين واضح عن أحلامه التى لم تتحقق فيما يسمى “السينما الثالثة” استلهاما ًلتجربة مماثلة فى أمريكا اللاتينية ، كما يسرد فشل محاولته العمل مع شباب آخرين ضمن جماعة “سينما الغد ” التى أسسها الناقد الكبير مصطفى درويش . كل هذه التفصيلات- وإن قدمت وجهة نظر ذاتية تماما – تسهم فى رسم ملامح سنوات السبعينات الثرية والعاصفة معا.
ولكن الكتاب حافل أيضا بالحديث عن شخصيات بعينها، عن رضوان الكاشف وشلة المنيل، عن يوسف شاهين والراحل عبد الفتاح الجمل، عن المخرج التونسى نورى بوزيد، عن المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى وعن المخرج السورى محمد ملص الذى أقام لفترة ليست قصيرة بالقاهرة ، وفى الجزء الثالث من الكتاب يحكى العمرى تجاربه فى لجان تحكيم مهرجانات مثل مهرجان أوبر هاوزن عام 1991 ، ومهرجان طهران عام 2002 ، وينقل يوميات نابضة بالحياة لمهرجان تطوان عام 2005 ، ومهرجان فينيسيا عام 2008 ، ومهرجان قرطاج عام 2008، ومن خلال سرد مركز ومشوق تعيش كواليس هذه التظاهرات السينمائية التى لاتخلو من الشد والجذب، ولعل أهم ما تستنتجه من هذا الجزء أن الإشتراك فى لجنة تحكيم تضم أشتاتا غير متوافقين يمكن أن يحول التجربة الى كابوس، ولعل أهم ما يصل إليك من الكتاب كله أن الحياة الثقافية والسينمائية دفعت ثمنا غاليا بسبب الإستقطاب السياسى الحاد فى سنوات السبعينات، كما أن العلاقات بين المثقفين لم تكن دوماً على ما يرام لأسباب أيدلوجية أوسياسية أو بسبب اختلاف الطبائع البشرية، كما يظهر بوضوح رفض صاحب الكتاب لكل المؤسسات البيروقراطية المصرية.
يمكن أن تختلف مع رؤية أمير العمرى الخاصة لتلك الأحداث أو الشخصيات، بل إن أهمية هذا الكتاب تكمن فى ضرورة أن يستفز فكرة الجدل والإختلاف والشهادة المعاكسة. مازالت تلك الفترة – سنوات السبعينات – لم تُكتب بعد على كل الأصعدة رغم أهميتها وتأثيرها فى حياتنا حتى اليوم ، وآمل أن نستكمل الصورة عن تلك السنوات بشهادات لأسماء كبيرة عن المناخ الثقافى والسينمائى، من هذه الأسماء مثلا: سمير فريد ومصطفى درويش ود. كامل القليوبى وهاشم النحاس، ومهما كانت زاوية الرؤية ومنهج التناول فالفائدة مُحققة.
هذا حق الأجيال التالية قبل أن يكون حق كل هؤلاء فى اجترار “نوستالجيا” أو حنين الى الماضى الذى صنع المستقبل!