رحلة السيد أبو العلا البشرى: أزمة الإنسان فى زمن غير مستقر
عندما يصاب المرء بداء الضمير فلابد أن يحيا فى عالم متوازن مع متطلبات هذا الضمير من قيم وأخلاق ومكتسبات ثقافية لايمكنها التغير وفقاً لحسابات المكسب والخسارة البشرية القائمة على مبدأ المنفعة الشخصية دون الإعتبار لشئ أخر .
ويتحول الضمير الى أزمة حقيقية يحياها أصحابه خاصة إذا كان لديهم رؤية فعلية فى تغير المجتمع للأفضل ومحاربة كل ماهو دخيل عليه من سمات سلبية تعمل على هدم الإنسان .
وتأخذ تلك المواجهات صوراً متعددة فقد يكفى صاحب الضمير بالتوجية عن بعد أو بالبعد عنها بشكل شخصى ولكن المواجهة الكبرى هى تلك التى تحدث الصدام والصراع بين أصحاب الضمير والرؤى وبين دعاة الهدم والسلبية والفساد ، فذلك هو قدر أصحاب الرسالات الأخلاقية الكبرى الذين يؤثرون فى مجتمعهم والأخرين حولهم ، هؤلاء الذين تسلموا الراية من أصحاب الفكر والعلم والثقافة التى تفيد المجتمع ومن يعيشون به وليست ثقافة الإستهلاك والمظاهر الإجتماعية الخاوية .
وتعتمد تلك المواجهة على مايحمله صاحب المبدأ والضمير من ثقافة جادة رصينة قائمة على قراءات متعددة لمصادر متنوعة من الفكر والوعى والكتابات النقدية الداعمة لحرية الفكر والبحث والتساؤل والمؤكدة لضرورة وأهمية الإنسان والمفسرة لأسباب وجوده كمخلوق حر مفكر داعم للحياة ومطور لها ، مخلوق يقوم بإعمار الأرض بالحق والخير والجمال وليس بالإفساد والتدمير وفقاً لمنفعته الشخصية .
من هنا كانت ” رحلة السيد أبو العلا البشرى ” كعمل درامى صنع من أجل البقاء ويزداد وهجاً كلما تم عرضه ، فنحن أمام عمل درامى وصل الى أقصى درجات الإبداع الفنى من حيث الكتابة لمبدع الدراما التليفزيونية ” أسامة أنور عكاشة ” والإخراج الممتع من جانب ” محمد فاضل ” الذى نجح فى التعبير بالصورة عن كافة جوانب أفكار العمل الدرامية ، وكذلك النجاح فى إختيار أبطال العمل الذين أكدوا براعتهم الفنية وهم يتنافسون إبداعياً أمام مايسترو فن التمثيل القدير محمود مرسى فى دور صنع خصيصاً ليقوم به وربما ما كان يحقق كل هذا النجاح لو قام به ممثل أخر .
وتعود أهمية وجود عمل درامى مثل هذا المسلسل فى تاريخ الدراما المصرية لمدى التأثير الذى إستطاع أن يحدثه فى وجدان أجيال من المصريين ، فلقد بقيت شخصية أبو العلا البشرى رمزاً محورياً داخل كل منزل لتعبر عن الأصالة والأخلاق والقيم ، ويرجع ذلك الى قدرة المؤلف وموهبته فى طرح الخيوط الدرامية المنسوجة من الحياة والواقع المصرى والمغلفة بفكره ووعيه ليصل بمضمونه الخاص الى العام المتلقى فيحدث ذلك الأثر الحضورى للعمل الأدبى والفنى وتلك هى أسعد لحظات الكاتب عندما يرى الصدى لأفكاره وهى تؤتى ثمارها لدى المتلقى ، والنجاح هنا يكون أكبر لأننا أمام التليفزيون الذى يتنوع جمهوره نتيجة إختلاف البناء الإجتماعى والثقافى للمتلقى فى ذلك الوقت 1985 وحتى الأن ، ولكن الجميع إتفق على أهمية وجود شخصية أبو العلا البشرى داخل المجتمع ككل وداخل كل عائلة بشكل خاص، فقد حقق العمل مغزاه الدرامى بإتحاد نسبة معقولة من المشاهدين على المستوى الخاص لهم وإستعدادهم التام للكفاح مع السيد ابو العلا فى حربة ضد طواحين الهواء الفاسد داخل المجتمع .
ويرجع دوى هذا الأثر الى العمل بشكل عام والحلقة الأخيرة بشكل خاص فقد قدم لنا الثنائى أسامة وفاضل واحدة من أكفأ الحلقات الأخيرة التى نفذت بشكل فنى مميز للغاية وغلبت الصورة على الكلمات مع الموسيقى التصويرية التى برع ” عمار الشريعى ” فى جعلها تتفق تماماً مع المضمون العام للعمل مزينة بكلمات ” عبد الرحمن الأبنودى ” شديدة الدقة فى وصف الحالة وإبرازها لنرى مدى التغير الذى أحدثه هذا الرجل فى كل من حوله من خلال رحلته التى وقف فيها أمام إنهيار المجتمع ككل والأسرة بشكل خاص من الناحية الأخلاقية ، ومفهوم الأسرة هو أحد أهم الركائز داخل المجتمع المصرى فى الثمانينات قبل إقتحام الألفية الجديدة وبداية إنهيار هذا المفهوم نتيجة التدنى الأخلاقى الراجع الى إختلال المجتمع فى التعامل مع أهله بصورة مرتبة تصاعدية بدلاً من الإسراع فى تغيرات إجتماعية وإقتصادية وسياسية ثبت أنها لم تكن فى صالح المجتمع وإنما لصالح فئة أرادت مصلحتها الشخصية ومنفعتها الخاصة على حساب الباقين .
وهذا ما جعل المسلسل يبقى ويزداد أثره كلما تم عرضه ، فمازال الفساد سارياً وإزداد المفسدون فى كل الطبقات وتهاوت أركان القيم الإجتماعية والأخلاقية للمجتمع خاصة فى مدنه الكبرى أما اطرافه الداخلية فإزداد التغييب سيطرة على عقول البشر ، ولم ينج من تلك الأزمة الكارثية إلا من قرر فى داخله إتخاذ نفس طريق الرحلة مع السيد أبو العلا البشرى لليقين التام بأنه الطريق الصحيح فى رحلة الإنسان مع الحياة .
ويتأكد تميز العمل خاصة فى الحلقة الأخيرة بوضع المؤلف مشهدين غاية فى العبقرية فهو يقدم لنا الأثر المباشر لرحلة هذا الرجل وسط هذه النماذج البشرية التى قام معظمها برفضه فى بداية الرحلة ، فهو يوضح لنا سببها المباشر ولماذا إنتهت بتلك الكيفية ، ففى المشهد الأول نعرف كيف أصبح السيد ابو العلا على هذه الشاكلة فى تعامله مع الأمور ومن أين تأتى خلفيته ليصارع الجميع هكذا دون هوادة ، فيأخذنا أسامة فى ذلك المشهد الممتد مكانياً الى غرفة مكتبة أبو العلا فى منزله ويبدأ المشهد فى حوار بينه وبين صديق عمره تهامى فنرى
( أبو العلا وتهامى فى غرفة المكتبة بمنزل أبو العلا )
أبوالعلا : انا ما بنامش يا تهامى .. مابنامش مخى عامل زى خلية النحل وعقلى فيه ألف بركان
عاوزين ينفجروا ويطلعوا حمم .. حتى كتبى دى مابلاقيش فيها الإجابة عن الأسئلة
اللى بتهاجمنى بالليل أول ما أختلى بنفسى
تهامى : كتب ؟؟؟ انت لسه ماحرمتش يابوالعلا
ابوالعلا : ( فى إنفعال تدريجى ) أحرم ؟؟؟ أحرم ليه يا تهامى .. ليه .. الكتب دى كلها غلط ؟؟
( يذهب الى المكتبة ويمسك بالكتب فى توالى المشهد ثم يلقيها على الأرض)
مقدمة ابن خلدون كلامه عن العمران البشرى وأطوار المجتمعات غلط ؟ ..
لو كان غلط قولى أنا هحرقه .. يوتوبيا توماس مور حلمه بأرض الفضيلة والكمال
غلط ؟ .. قولى وانا أحرقه راخر .. النظرات والعبرات .. وحى القلم .. فيض الخاطر
كل دول غلط ؟ .. الجمهورية .. السياسة .. الدفاع عن سقراط .. الأخلاق .. المنطق
ودا ودا كل المفكرين دول .. كل دول غلط .. غلط ؟ غلط يا تهامى ؟ غلط ؟ ..
افلاطون وأرسطو غلط ؟ .. العقاد وطه حسين وشوبنهاور وفولتير وروسو كل دول
غلط ؟ كل دول ؟ .. اذا كانوا غلط قولى .. قولى يا تهامى قولى وانا أحرقهم
( منهاراً وسط الكتب )
تهامى : لا يابوالعلا الكتب مش غلط ولا الفكر غلط دول الصح المؤكد .. بس إمتى ؟ .. لما
يبقوا عصارة تجربة الإنسان .. يعنى التجربة الأول وبعدين يبقوا يكتبوا الكتب عنها
وينظروها ويحولوها لقانون .. إحنا اللى غلطانين يابوالعلا غلطانين علشان بناخد
قوانين جاهزة ونحاول نفصل تجربتنا عليها .. يبقى بنحبس عقولنا جوا قوالب عملوها
ناس غيرنا ظروفهم غير ظروفنا وزمانهم غير زمنا .. دا اللى أقدر اقولهولك على قد مابفهم .
ها قد عرفنا تكوين ابو العلا البشرى الفكرى والثقافى الذى جعله رمزاً باقياً فى حياتنا الدرامية حتى الأن ، فلماذا إنتهت الرحلة بالفشل على مستوى المجتمع ككل على الرغم من نجاحها مع الأفراد الذين رفضوها فى البداية .
مازلنا فى المشهد فى نفس المكان مكتبة ابو العلا وهو جالس منهار بين كتبه أو حياته على المستوى الرمزى ليفاجأنا أسامة بدخول شخصية الخيال أو الطيف الذى الذى كان يظهر لأبو العلا فى أحرج لحظات رحلته وظهوره هنا فى تلك اللحظة الحاسمة يحسب للمؤلف لأن هذه الشخصية
ترمز الى البدايات والتكوين والأمل فأستاذ التاريخ الذى أعطى أبو العلا أول كتاب يقرأه فى بدايات حياته هو واضع أول حجر أساس لتلك الرحلة لذلك فهو الوحيد الذى سيجيب عن السؤال الذى ينتظره الجميع وأولهم أبو العلا نفسه لماذا فشلت الرحلة ؟ .
فيأتى المشهد واضحاً شارحاً لأسباب نكسة تلك الرحلة على المستوى العام للمجتمع فنرى
( أبو العلا جالساً على الأرض وسط الكتب يدخل عليه الطيف الذى لايراه أحد غيره )
( ينظر اليه ابو العلا مندهشاً )
ابوالعلا : انت ؟ .. مش ممكن
الطيف : ( ضاحكاً ) .. ليه .. بقى ما وحشتكش ؟
ابوالعلا : لا بالعكس انا ماكنش ناقصنى حد غيرك .. ( الرجل الطيف يضحك ) .. اضحك اضحك
اضحك كمان .. ماحدش هيسمعك غيرى .. على كل حال الحكاية خلصت خلاص
الطيف : لأ ماخلصتش
ابوالعلا : لا خلصت
الطيف : الكتاب بيقول ماخلصتش
ابوالعلا : كتاب ايه دا ؟
الطيف : دون كيشوت .. قريته ؟
ابوالعلا : من زمان قوى
الطيف : وفهمته ؟
ابوالعلا : انت عاوز منى ايه ؟
الطيف : انا عاوز أفوقك
ابوالعلا : ياسيدى انا فوقت خلاص وعرفت غلطتى ومش ناقص حد يفكرنى بيها
الطيف : بس انت لسه ماغلطتش .. انت هتغلط
ابوالعلا : قصدك ايه ؟
الطيف : ندمك غلط واحساسك بالذنب كمان غلط .. انت فاكر أخر مرة شوفتنى فيها
ابوالعلا : أه فى السجن فى عز النكبة
الطيف : يوميها مش قولتلك إنك صح
ابوالعلا : رغم كل اللى انا إتسببت فيه
الطيف : تمن بسيط لمحاولة نبيلة .. كل اللى حصل لك وحصل بسببك دا قدر أصحاب الرسالات
وانت كنت صاحب رسالة .. رفضت النوم والكسل والراحة وقومت علشان تواجه الشر
وتنادى بالعودة للفضيلة والأخلاق الحميدة
ابوالعلا : انت .. انت بتتكلم جد ولا بتتريق ؟
الطيف : انا باتكلم جد .. وجاى النهاردة علشان أمنعك ان انت تيأس وترمى سلاحك .. واطلب
منك انك تواصل طريقك وتكمل رسالتك .. ابوالعلا اوعى تفكر للحظة ان انت فشلت ..
بالعكس انت نجحت وغيرت كل اللى حواليك
ابوالعلا : ووقعت جنبهم عشرات تانيين
الطيف : مش غلطتك .. دى قوة الشر اللى لسه متمكن فى نفوس الناس .. الشر اللى حاول
يهزمك ويبعدك عن طريقك .. وقدر يدخل لك من نقطة ضعف وحيدة انت ماخدتش
بالك منها أبداً
ابوالعلا : هى ايه ؟ .. هى ايه ؟
الطيف : غفلتك عن حقيقة مهمة .. الزمن دا يابوالعلا مش زمن الفارس الوحيد اللى يقدر
بسيفه ورمحه يهزم الأشرار وينقذ ست الحسن .. لازم كل فرسان الخير يبقوا مع بعض
جماعة يابوالعلا .. هو دا المفتاح .. كلمة السر .. الشعار القديم اللى قال عليه الكسندر
ديماس فى رواية الفرسان الثلاثة وخلاه قانونهم وشعارهم .. الكل للواحد والواحد للكل
فاكروا يابو العلا ؟ .
الأن قد عرفنا الإجابة فلابد أن يتحد كل فرسان الخير حتى يتم القضاء على الشر فى كل صوره هذه كلمة السر من المؤلف الى المتلقى فللأسف الشديد يوجد الكثير من فرسان الخير ولكنهم فى إنفصال زمانى ومكانى عندما يتحدوا يحققون غايتهم ويصحوا المجتمع ويدرك الجميع مافاتهم من الحياة نتيجة تغليب الفساد على القيم فى كل العلاقات بين البشر .
وهكذا تستمر رحلة السيد أبو العلا البشرى مرتكزة فى خطواتها على وجدان متابعيها ووصولهم لتلك اللحظة الفاصلة التى يتذكر فيها المرء أن لديه ضمير وأن قيم الحق والخير والجمال أسمى وأنفع للإنسان بدلاً من الفهلوة والغش والخداع ، ولكن هل يمكن أن يصغى المرء بسهولة لتلك اللحظة ؟ .. وهو مايؤكد لنا أن الرحلة لاتزال مستمرة .