رؤية نقدية لفيلمين قصيرين من مصر والعراق
تنصب كلمة النقد في المفهوم العام لدي الكثيرين دائما، علي أنها عملية تخريج للعيوب، “فأنا أنقد شيئا أي أري فيه عيباً”، لكن المسألة بالطبع لا تخضع لهذه النظرة المنغلقة، بل تتعين ماهية العملية النقدية في فحص الأشياء كي نقف ونحدد عوامل القوة والضعف فيها.
هنا تتجسد وظيفة النقد من خلال شقين أساسيين هما: تفسير الأعمال الفنية وتأويلها بما يزيل الغموض والإبهام عند المتلقي، والحكم علي هذه الأعمال من حيث الجودة والرداءة، وهنا يقوم الناقد، الذي لابد له من أن يمتلك أدوات نقدية محكمة، بتفكيك العمل الفني من جديد ليعيد سياقه من خلال الزاوية والمنهج الذي يختاره ليحلل به العمل.
فإذا اعتبرنا أن الأعمال الفنية بمثابة أشكال هندسية فراغية، إذن يمكننا رؤيتها من زوايا مختلفة ، فلكل ناقد عين بصيرة ومنهج علمي للتحليل والتفكيك.
ولهذا توجد أنواع كثيرة من النقد الفني لا أتوقف عندها في هذا المقال، ويكفيني هنا أن أذكر أهمية الذائقة الجمالية في العملية النقدية التي تعتبر عنصرا مسيطرا في كثير من الأحيان، فكل إنسان ذوقة الذي يجسد كينونته الخاصة، ولكن تلك الذائقة ليست هي الخط المستقيم في الحكم علي العمل، وإلا لأصبحنا جميعا نقاداً.
يتمثل النقد التقليدي في النظر إلي الشكل والمضون ومدي الارتباط بينهما، وهو نقد ما قبل الحداثة، ويعتبر مفتاح نقد العمل الفني هو الرد علي هذه الأسئلة: “ماذا كان؟” – أي ما وضعه العمل بين أيدينا من صناعة، و”لماذا كان علي هذه الشاكلة؟” أي تفسير العمل، و”ما ينبغي أن يكون؟ “أي ما كان يجب أن يكون عليه بعد تعيين نقاط القوة والضعف.
سأحلل في هذا المقال فيلمين هما الفيلم المصري ” أوني” للمخرجة سالي أبو باشا، والفيلم العراقي” كانوا يوما هنا ” للمخرج وارث كويش.
أولاً فيلم أوني
يعتبر هذا الفيلم أولي خطوات المخرجة الشابة سالي أبو باشا نحو الوقوف علي أليات الإخراج السينمائي، كان لها ثلاث أعمال بدائية تجريبية أخري سابقة، هي “طريقها” و”الحياه بيديها” و”فرق” .
نظرة المخرجة دائما في جميع ما قدمته تتمثل في تقديم “حكاية شخصية” تلقي الضوء علي نموذج من الشخصيات المصرية التي تنتمي أغلبها للطبقات الكادحة، كتسليط الضوء علي المرأة التي تعول أسرتها من خلال مركب صغير في فيلم “الحياة بيديها”، كذلك فيلم “أوني” الذي جسدت فيه حكاية شاب منغولي في التاسعة والعشرين من عمره، يعيش حياه شبه هادئة مع والدته ، كل ما يشغله هو رغبته في إيجاد شريكة الحياة، وولعه الشديد بالممثلة ليلي علوي.
قصة الفيلم مأخوذة من مقالة للصحفي أحمد خالد الذي جعل من شخصية أوني، ملك منطقة الدرب الأحمر وهو أحد الأحياء الشعبية في اقاهرة.
إذا أمعنا النظر في كل أعمال المخرجة من حيث المضمون، نجد أنها في ثبات تام، متجسد في شخصية تلقي عليها الضوء، بدون معالجة منها، ففي هذا الفيلم قدمت شبه تمثيل ليوم من حياه أوني، منذ استيقاظه من فراشه، إلي عودته مرة أخري إليه في نهاية اليوم، لتعرض كيف يعيش كإنسان عادي يعمل، و لديه أصدقاء، يشعر بالحب والرغبة في الزواج، ويهتم بمظهره، يستطيع التجول بين جنبات الحارة، لذلك لم تشعر تماما خلال الفيلم أنك أمام إنسان ينقصه الاكتمال العقلي، بل هو يعيش روتينا يوميا، وفي الأغلب هذا ما جعل الصحفي خالد يطلق عليه لفي مقالته عنه “ملك المنطقة”، فليست هناك معاناه حقيقية يمكن التماسها، بل علي العكس لم نشعر أيضا أننا أمام تحدي عظيم لعقبة المرض.
كل ما تم عرضه وتجسيده ليس بجديد، لأسباب عديدة منها انتشار هذه الحالات في المجتمع، ومعرفة التعامل معها وتقبلها، فهي لم تعد ظاهرة غريبة، ولكن اختيار مثل هذه الشخصية الحقيقية علي وجه الخصوص أغلق الفيلم علي مضمون مستهلك لأن تلك الشخصيات لا تستطع أن تخرج منها بما يساعدك علي ثقل مضمون فيلمك كحدوث صراع ينتج عنه انفعالات تبرز الشخصية وتوضح سماتها وملامحها الداخلية بشكل أوضح يجعلها في صورة متجددة لدي المشاهد، تعتبر هذه الشخصيات ثابته إلي حد بعيد، ومتقولبة في اطار توضع فيه من قبل الأسرة.
كذلك هذا المرض له درجات، والمخرجة اختارت شخصية لا تعتبر درجة المرض عندها عالية، فبطلنا هذا يكمنه القيام بأشياء كثيرة علي سبيل المثال مثل الذهاب إلي الحضرة بمفرده.
أين هنا القضية المطروحة، إذا وجهنا سؤالا للمخرجة وقلنا لما أخرجت هذا العمل؟ علي سبيل التخيل ربما تقول أن الفكرة اعجبتها فجسدتها، ثم ماذا؟ هذا السؤال لم أجد اجابة عليه في جميع أعمالها، كل ما رأيته أنها تعجبها فكرة وتجسدها فقط.
وللإجابة علي سؤال ” ثم ماذا” يقتضي منا الحديث عن القيمة المضافة وأنا اعتبرها صلب جودة العمل الفني من ناحية المضمون. وهي ببساطة انعكاس ضوء الواقع علي المبدع، ثم ارتداد هذا الضوء بقيمة مضافة في العمل الفني، انها رؤية المبدع البصرية والفكرية لهذا الواق، .فالواقع لا يوجد في العمل كما هو، بل يجسد من خلال مرآة عاكسة له.
وهنا أقول إن المخرجة لا تمتلك قيمة مضافة تتجسد في خصوصية وجهة نظرها في رؤية هذا الواقع، وهنا هي تنقل الواقع أو تأخذ منه صورة فاترة، وإن شئنا نقول ناقصة، وهذه هي المعالجة الفنية ، ولهذا أنا لم أشعر بشخصيتها علي الاطلاق داخل أعمالها.
فإذا نظرنا إلي أعمالها التجريبية الأولي “كطريقه، /والحياة بيديها” نلاحظ أننا أمام فيديو تسجيلي في برنامج توك شو، نشاهده كي نكمل الحديث عنه بعد الفاصل.
على الرغم من ذلك فالمخرجة الشابة تمتلك قدرة عالية علي تقديم مشاهد متماسكة ، وهي تعتمد علي اللقطات الطويلة حيث النظرة التأملية للشخصيات وللمكان، كما تعتمد على الكلاسيكية في التصوير، وعلى الحوار القليل والمشاهدة الطويلة التي تتبعها موسيقي كلاسيكية، وهنا كان من الممكن تحقيق نوع من الابداع إذا كان العمل يقدم طرحاً قوياً.
أستطيع أن أقول إن العمل جيد نتيجة التحكم في آلية الإخراج، كما أن المزج بين الإسلوب الروائي والتسجيلي، ولد طاقة لدي المتلقي يخرجه من ملل انتظار أن هناك حدثا سيحدث فيما بعد.
ولكن لابد أن تقفز المخرجة قفزة أكثر جرأة تخرجها من تكرار موضوعاتها حتي تستطيع استغلال قدراتها الإخراجية.
فيلم كانوا يوما هنا
هذا الفيلم يدور حول مظاهرات التغيير والثورة من أجل إقامة حلم الشعور بوجود وطن يملكنا ونملكه في وحدة جماعية لشعب ولد من رحم أرض عربية. فكرة التغيير والثورة تشمل العالم العربي الآن، فلا توجد دولة عربية لا تحلم ولا تتمزق من داخلها لتنعم بوطن تشعر فيه بكيانها وأحقيتها في ممارسة حب هذا الوطن وليس مجرد العيش فيه فقط، فالإحتواء هو من يقصنا جميعاً “نحن وطني، ووطني نحن”!
ولكن ليس كل منا يستطيع أن يقرر أنه سيحشد الهمم للنزول في مواجهه الطغيان لتحقيق التغيير، والوقوف أمام الحكم الفاشي، فعنصر الخوف المتولد من صمت سنوات وتقبل الديكتاتوريات، ليس من السهل تحطيمه بين عشية وضحاها، أن تقتحم سداً منيعاً أسهل بكثير من تحطيم قيود النفس البشرية.
ما بين لبيك يا عراق، والخوف الكامن، يأتي فيلم “كانوا يوما هنا ” لماذا لم تأتي اليوم.. لأني أخاف”.
يسير الفيلم في خطين متوازيين ما بين الفئة المتظاهرة، و بين الشخصيات التي تقف علي مسافات مختلفة من مكان التظاهر، هذه الشخصيات هم أبطال الفيلم الحقيقيون، فهم من يجسدون فعلين متناقضين: القوة والخوف، ونقدم هنا القوة لأنه علي الرغم من خوف تلك النفوس للمشاركة في التظاهر، إلا انها تقف علي مسافة وتعلن عن خوفها وان كانت تعلن رغبتها في التغيير. أن تعرف نفسك وتتقبلها، فأنت تملك نفساً قوية حتماً، حتي وإن لم تستطع فعل ما تريد الآن، أن تناقش نفسك بصراحة وصدق الآن.. إذن ما سيأتي سيكون أكثر قوة وصدقا.
هذه المناقشات تمت من خلال تقنية المونولوج الداخلي”حديث النفس” وهو إحدي تقنيات مدرسة تيار الوعي، وهي تقنية حديثة، يشملها توقف زمني، حيث تقف الشخصية لتحدث نفسها في مناجاة داخلية، أي أن هناك وقفة زمنية .
استخدام المونولوج الداخلي هنا كان في قمة الإبداع، فالمناجاة الداخلية علي الأغلب لا تكون بتحريك الفم للتحدث، بل تأتي مثل نفس تناجي ذاتها في صمت خارجي، ومع الخوف أيضا يكون الصوت مكتوما داخليا، لا تستطيع النفس أن تجريه علي لسانها وهذا ما جسده الفيلم حيث الإختلاف بين صمت وثبات هؤلاء في الظاهر أي موت جزئي، وبين المتظاهرين الذين تتحرك أرواحهم وأجسادهم بكل طمعاً في التغيير وهي حركة لا ارادية عفوية تملئ المكان بالحيوية لا يعتريها في الأغلب نظام، لأن التغيير الذي يعتمد علي قلب الأوضاع يحدث حركة بديهية فوضوية غير مرتبة ولكنها تكون فوضي خلاقة الأثر، كذلك الأكثر في التظاهر ليس الصمت بل صوت يرج جميع أنحاء المنطقة، صوت يجتمع في مئات الاشخاص فيحدث دوياً شديداً ينتج أثراً.
حالة من الإبداع ظهرت في الفيلم من تفاعل الشكل والمضمون، ولد حس فني، وما أثرى هذا الحس الفني هي القيمة المضافة عند مخرج العمل، فلكل شخصية حوار داخلي يجسد رؤية مختلفة ونقدية لحقيقة التظاهرات في المجتمع العراقي، اجتمعت فكونت معالجة لفكرة الخوف داخل أي مواطن، يمكن اسقاطها علي أي وطن عربي آخر.
وهناك لافتة أخري شديدة الإبداع .. عندما تشاهد الفيلم لا تري وجوه المتظاهرين لأنهم وجه واحد أي أن هناك تماهيا للكل معا، أما الشخصيات الأخري فالمتلقي يري وجوهها جيدا أولا لأنها قلة متفرقة، وثانيا لأنهم في مواجهه مع النفس، والمواجهه تقتضي البيان والوضوح.
صور الفيلم بكاميرا أي فون، اهتزازات كثيرة في الصورة ولكنها لم تقلل من قيمة العمل، ولكن ما لم أستطع تفسيره هو العنوان ” كانوا يوما هنا” هل هم المتظاهرون؟ أم أهل الدار التي كانت في الإفتتاحية؟!