“ذكريات منقوشة على حجر” الماضي ينتصر على الحاضر
استطاع فيلم “ذكريات منقوشة على حجر” للمخرج العراقي الكردي شوكت أمين كوركي أن يحصل على جائزة افضل فيلم من العالم العربي ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة التي شهدتها فعاليات الدورة الثامنة لمهرجان أبو ظبي السينمائي(23 اكتوبر-1 نوفمبر) وذلك من بين خمسة أفلام عربية نافست على جوائز المسابقة الدولية والعربية على حد سواء.
وبذلك تفوق كوركي على أفلام”الوادي”اللبناني الذي حصل على جائزة احسن مخرج من العالم العربي لغسان سلهب، وعلى الموريتاني”تمبكتو” لعبد الرحمن سيساكو الذي حصل على تنويه خاص من لجنة التحكم، وعلى المغربي”حمى”للمخرج هشام عيوش، وعلى المصري”القط” لأبراهيم البطوط الذي خرج خالي الوفاض من أي جائزة عربية أو دولية.
“ذكريات منقوشة على حجر” هو ثالث التجارب الروائية لكوركي بعد “عبور التراب” 2006 وتجربته الأميز والأكثر نضجا وحرفية وقوة”ضربة البداية”2009.
هل هي ذكريات الحاضر؟
في البدء نتساءل ما هي الذكريات المنقوشة على حجر أو لماذا هي منقوشة على حجر؟
عنوان الفيلم يعني أن ثمة ذكريات لا يمكن أن تنمحي وبمتابعة الأحداث ندرك ان تلك الذكريات ما هي إلا ذكريات كل من حسين المخرج الذي عاد إلى كردستان العراق عقب سقوط نظام صدام ليصنع فيلما عن المآساة وذكريات سينور الشابة الجميلة التي عاشت الأنفال وهي طفلة في سجون صدام وتحمست للقيام ببطولة فيلم حسين رغم اعتراض اهلها وزوجها على العمل بالسينما على اعتبار أنه امر غير مشرف للعائلات الأصيلة.
الظاهر إذن أننا أمام فيلم جديد من أفلام الهولوكوست الكردي الشهير الذي تتمحور حوله العديد من إنتاجات السينما الكردية العراقية منذ سنوات طويلة، والذي لم يفلح سوى مخرجون قلائل في الخروج من اطاره الضيق الذي استنفذ الكثير من طاقاته الإنسانية والسينمائية عبر عشرات التجارب التي بدت وكأنها صورة واحدة من كل الزاويا لنفس الحدث.
اما باطنيا فالفيلم بلا شك يحاول أن يتعرض لبعض من ملامح المجتمع الكردي فيما بعد حكم صدام وهو تعرض انتقادي بالدرجة الأولى تماما مثلما شاهدنا في فيلمه المخرج السابق “ضربة البداية” الذي استعرض عبر محاولة لتنظيم مبارة كرة قدم بين طائفتين متنافستين من طوائف الأكراد كيف أن الازمة الكردية لم تكن فقط في الأنفال(الابادة الجماعية للأكراد)وحكم صدام ولكن في طبيعة الشخصية الكردية المنشقة على ذاتها والمنفصلة وجدانيا عن فكرة الكيان الواحد.
فيلم عن الفيلم
يستعين شوكت بالاطار النوعي المسمى (أفلام عن الأفلام) أي أن احداث الفيلم تدور من خلال تصوير احدى الأفلام في واحدة من البلدات الكردية عقب حرب الخليج الأخيرة سقوط صدام، ومن خلال تفاصيل صناعة الفيلم يحاول شوكت أن يطرح سؤال الحاضر الكردي، فهل تغير المجتمع الكردي عقب صدام أم لا يزال يحتاج إلى سنوات طويلة من التحضر والمدنية والثقافة لكي يصبح بالفعل مجتمع متحرر وصاحب ثقافة وشخصية حضارية وسياسية مستقلة !
الأزمة أن قوة أي فيلم ليست فيما يطرحه من اسئلة ولكن في كيفية طرح السؤال وهنا يبرز مدى تواضع السياقات السينمائية التي استخدمها شوكت في فيلمه والتي تجلت في غلبة الحوار على الصورة الفيلمية والتي من المفترض أن تعكس زخما فكريا ووجدانيا حقيقيا مثل الصورة التي استطاع انجازها في “ضربة البداية” رغم أنه يدور في مكان واحد تقريبا وهو استاد قديم تقيم فيه العائلات الكردية الهاربة من جحيم الحرب.
هنا تبدو البيئة المكانية الأساسية للفيلم هي السجن القديم الذي كان نظام صدام يعتقل فيه الأكراد إبان حملة الأنفال، هذه المكان الذي يعكس دلالة واضحة عن طبيعة المجتمع الكردي الحالي فهو أقرب إلى سجن محلي متهدم تحتوي جدرانه على ذكريات سجناء النظام ومعتقلي الانفال وهو المكان الذي يعتبر الموقع الأساسي لتصوير فيلم حسين.
فهل يحاول شوكت أن يقول أن كردستان العراق لا تزال هي ذات السجن الكبير الذي أنشأه صدام ولكن بدون آمر السجن؟ ان اعداد الكومبارس التي نراها راغبة بالعمل في الفيلم تعكس تردي الوضع الاقتصادي للمجتمع، وهو ما يتكرر في مشهدين الأول هو محاولة صرفهم من المكان بعد أن ظلوا في انتظار ان يتم اختيارهم للعمل كمجاميع في مشاهد الحرب والتعذيب والثاني عندما تم تصوير الفيلم ونفذت الميزانية ولم تستطع شركة الأنتاج المتواضعة أن توفيهم اجورهم الباقية وكادوا أن يتفكوا بمدير الأنتاج.
وفي نفس الوقت تبدو سخرية شوكت واضحة من تقاليد المجتمع الكردي البالية التي لا تزال تعتبر السينما عملا غير شريف وذلك في الفصل الخاص بمحاولة البحث عن بطلة للفيلم ورفض كل الأباء أن تعمل بناتهن بالسينما لأنهن ذوات اصول عريقة، أما سينور الفتاة الوحيدة التي توافق فانها تضطر إلى الزواج من ابن عمها بشرط أن يتركها تمثل في الفيلم في محاولة منها للتخلص من اشباح الماضي العنيف الذي عاشته ابان الأنفال وهي صغيرة.
ويصر شوكت على أن يعود بالشريط السينمائي في فلاش باك متكرر عن الأنفال والاعتقال والسجن عبر ذاكرة حسين وسينور وهو ما يعتبر في غير صالح الفيلم لاننا نشاهد اعادة تمثيل الأنفال في فيلم حسين اكثر من مرة ولكن لكي يصبح تركيزنا الوجداني والفكري في الحاضر السيئ وليس الماضي المنتهي كان على المخرج أن يلتزم ببقائنا في اللحظة الراهنة مع حلول الماضي في الفيلم المصور ولكن الاستسلام لغواية الفلاش باك الميلودرامي عن الطفلة التي سجنت وقت الأنفال وعن ذكريات المعتقلين المدونة على جدران السجون أضر كثيرا بالسياق الذهني والدرامي وجعل الفيلم يقفز من حالة إلى حالة دون اتساق أو هارمونية بل لمجرد أن تظل الانفال حاضرة كأنما هي بطاقة تعريف الفيلم ولكن حاضر المجتمع الكردي.
سبكي كردستان
قدم شوكت نموذج الثقافة الكردية الحالية متمثلة في المطرب الشعبي التافه الذي يصبح سببا في الحصول على تمويل للفيلم لتصويره من صديقه رجل الأعمال الذي يبدو اقرب لأثرياء الحرب بشرط أن يكون المطرب التافه هو البطل رغم انعدام مواهبه في التمثيل والغناء بل وظهوره طوال الوقت كشخص احمق يجيب على التليفون اثناء التصوير ويلتقي بأصدقائه داخل الكادر دون أي اعتبار لأهمية الفيلم الذي يقدمه أو طبيعة العمل بالسينما.
وهكذا يظل الفيلم يتأرجح ما بين السخرية الاجتماعية وبين الجدية الميلودرامية التي تمثلها شخصية حسين مخرج الفيلم الذي نراه دوما حزينا مهموما يحمل اثقال من الذكريات والأسى على رأسه دون سبب واضح ويريد أن يصنع فيلما عن الانفال كي تظل في الذاكرة – على اعتبار انها غابت عن ذاكرة الأكراد مثلا- ولا يوجد مبرر فعلي لهذا الكم من الميلودرامية والجدية الخانقة التي تتسم بها شخصية حسين بل أنه يبدو أكثر كآبة من كونه مخرج مقدم بحماس على تحقيق حلمه السينمائي.
ذكريات الحاضر
لم يتمكن كوركي من الوصول بالدراما والصورة إلى ما يمكن أن نطلق عليه “ذكريات الحاضر”، أي أن تتحول الازمة الحقيقية إلى أزمة الحاضر الذي يجب أن يتغير لا الماضي الذي حدث وانتهى، صحيح أن الحاضر هو ابن الماضي بشكل أو بأخر وصحيح أن زوج سينور يطلق الرصاص على حسين في النهاية انتقاما منه لانه اغوى سينور بالعمل في السينما وجعلها ترفض حب ابن عمها في دلالة على أن الحاضر لا يزال يحل مشكلاته بالقتل والتصفية كما كان الماضي يحلها ايضا، وصحيح أن جهة التمويل تطلب أن يستكمل المطرب الشعبي التافة إخراج الفيلم في دلالة على أنه حتى ذكريات الماضي اصبحت في يد الحمقى الذين لا يدركون عن التاريخ والثقافة والفن شيئا، إلا أن كل هذه العناصر تظل تتحرك ما بين قوسي الهزل والميلودراما دون أن يكون لسياقات الصورة أو الأيقاع المتوازن او التمثيل الجاذب دور حقيقي في التجربة كما كان في سابقاتها بل أن الفيلم يفتقد تلك الشخصية اللونية المميزة التي قدم من خلالها شوكت فيلمه السابق حيث تبدو لقطات الفيلم اقرب للمشهد التليفزيوني التقليدي في تكوينه وتباين الوانه واحجامه وزواياه، ولم يقدم لنا عملية التحول من نصاعة الديجتال إلى قدم ال35 مم عند تصوير مشاهد من فيلم حسن أي عنصر بصريا فيما بين الماضي والحاضر أو الواقع والذكريات.
حتى المشهد الأخير الذي تمطر فيه السماء على المجموعة التي تجلس لتشاهد الفيلم في عرض اول فيغادر الجمهورنتيجة المطر ولا يبقى سوى صناع الفيلم ليشاهدوه بمفردهم وكأن لا أحد يريد أن يتذكر الأنفال أو أن احدا من الجمهور أصبح يعنيه الماضي، حتى هذا المشهد الذي تنزل عليه تيترات النهاية لا يحدث في نفس المتلقي الأثر المتصور لأنه يظل عالقا في المنطقة الرمادية ما بين الطرافة والميلودرامية.
وقد ضج الجمهور في صالة العرض المهرجانية بالضحك عندما بدأت الأمطار في الهطول داخل المشهد ظنا منهم أن هذا جزء من سلسلة سوء الحظ التي واكبت تصوير فيلم حسين المنحوس الذي قام ببطولته مطرب فاشل في التمثيل وتوقف الإنتاج بسبب الميزانية الضحلة وأطلق الرصاص على المخرج وفي النهاية حضر العرض على كرسي متحرك بعد أن تنازل عن حقه الجنائي والمدني في مقابل الحصول على الدية من ابن عم سينور كي لا يسجن.
ان حصول “ذكريات على حجر” على جائزة أفضل فيلم عربي هو بلا شك منطق لجنة التحكيم بمفردها والذي قد لا يشاركها فيه الكثيرون ممن شاهدوا الفيلم أو تجارب شوكت السابقة التي يعتبر هذا الفيلم اقلها نضجا وفنية، فلا هو تجربة تتسم بالطزاجة البصرية ولا بالأصالة الدرامية ولا بالتمثيل الجاد المؤثر أو بالكوميديا السوداء التي تولد الأفكار والمشاعر من قلب الطرافة والهزل.