دور المخابرات المركزية الأمريكية في هوليوود
لم يتضح مدى دور أجهزة المخابرات الأمريكية ووزارة الدفاع، وما تفرضه من أشكال رقابية غير مباشرة على صناعة السينما والتليفزيون، سوى مؤخرا فقط. ففي 2013 صدر كتاب بعنوان “السي أي إيه تذهب إلى هوليوود” للباحثة الأكاديمية تريشيا جنكينز، وفي 2016 صدر كتاب “في ظلال السرية: مكتب الخدمات الاستراتيجية ووكالة المخابرات المركزية في سينما هوليوود، من 1940إلى 1979″.
وقد كشف الكتابان الكثير عن دور وكالات المخابرات في هوليوود، إلا أنهما أغفلا أو قللا من أهمية التدخل في بعض الأفلام مثل “حرب تشارلي ويلسون” و”قابل الآباء” وغيرهما.
وفي 2017 صدر كتاب “الأمن القومي السينمائي: الدليل الجديد على التدخل الحكومي في هوليوود”” National Security Cinema: The Shocking New Evidence of Government Control in Hollywood من تأليف توم سيكر وماتيو ألفورد، اللذين تمكنا من فحص آلاف الوثائق العسكرية والاستخباراتية بموجب قانون تبادل المعلومات.
وقد كشفت هذه الوثائق للمرة الأولى عن التدخل الواسع النطاق من قبل السلطات الأمريكية في هوليوود، بما في ذلك القدرة على التلاعب بنصوص السيناريوهات أو حتى منع إنتاج أفلام تنتقد البنتاغون- ناهيك عن التأثير على بعض السلاسل السينمائية الشعبية التي انتجت في السنوات الأخيرة.
يقول المؤلفان أن وكالات المخابرات العسكرية تدخلت فيما يقرب من 1800 فيلم ومسلسل تليفزيوني، الأمر الذي يطرح الكثير من التساؤلات، ليس فقط بشأن الطريقة التي تعمل بها أجهزة الرقابة على صناعة السينما والتليفزيون في الولايات المتحدة، ولكن حول دور هوليوود غير المعروف كآلة دعائية لجهاز الأمن القومي الأمريكي.
ويقول المؤلفان في مقدمة الكتاب: “عندما فحصنا لأول مرة، العلاقة بين السياسة والسينما والتلفزيون في مطلع القرن الحادي والعشرين، قبلنا الرأي التوافقي بأن مكتبًا صغيرًا في البنتاغون ساعد، حسب الطلب، في إنتاج حوالي 200 فيلم في تاريخ الإنتاج السينمائي، مع تدخل قليل للغاية في بعض نصوص السيناريوهات. ولكن.. كم كنا جاهلين. بل من الأنسب القول إننا كنا مضللين”.
لقد عثر كلاهما على أربعة آلاف وثيقة جديدة من وثائق البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية بموجب قانون تبادل المعلومات. وهي تظهر، للمرة الأولى، أن حكومة الولايات المتحدة تدخلت من وراء الكواليس في أكثر من 800 فيلم كبير وأكثر من 1000 عمل تليفزيوني. إلى جانب التدخل الهائل المباشر، يصف كتاب “سينما الأمن القومي” كيف فرض الجيش إعادة كتابة سيناريوهات بعض أكبر وأشهر الأفلام، بما في ذلك أفلام جيمس بوند، وسلسلة أفلام “المحولون” Transformers، وسلسلة أفلام مارفل Marvel وغيرها.
ويكشف مؤلفا “سينما الأمن القومي” كيف حصلت عشرات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية على دعم من وكالة المخابرات المركزية، بما في ذلك فيلم جيمس بوند الشهير “كرة الرعد Thunderball وفيلم توم كلانسي المثير “ألعاب وطنية” Patroit Games وفيلم “قابل الآباء” Meet the Parents. بل إن وكالة المخابرات المركزية ساعدت في عمل حلقة من مسلسل Top Chef تم استضافتها في مقر المخابرات المركزية في لانغلي، وظهر فيها مدير الوكالة آنذاك ليون بانيتا وهو يضحي بتناول الحلوى، لكي يذهب الى اجتماع عاجل!
الرقابة العسكرية في هوليوود
يقول الكتاب أنه إذا أراد كاتب سيناريو أو منتج سينمائي الحصول من البنتاغون على المساعدة، يتعين عليه إرسال نص السيناريو إلى مكتب الاتصال لفحصه. ويرجع القول الأخير في هذا الأمر، إلى فيل ستروب، مسؤول الاتصال في هوليوود مع وزارة البنتاغون. وإذا وجد ستروب أن هناك شخصيات أو مشهدا ما أو حوارا ما، لا توافق عليه وزارة الدفاع، يتعين على صانع الفيلم إجراء تعديلات على السيناريو. وإذا رفض فقد يمتنع البنتاغون عن تقديم أي مساعدة. بل ومن أجل الحصول على التعاون الكامل، يتعين على منتجي الأفلام التوقيع على عقود يصبحون بموجبها ملتزمين باستخدام النسخة المعتمدة من البنتاغون.
يؤدي هذا أحيانا، إلى وقوع بعض المشاكل، كأن يقرر الممثلون والمخرجون التحرر من هذا القيد أو الارتجال خارج السيناريو المعتمد. ويذكر الكتاب أنه في قاعدة إدواردز الجوية أثناء تصوير فيلم “الرجل الحديدي” The Iron Man، وقعت مواجهة غاضبة بين ستروب مسؤول الاتصال مع هوليوود، ومخرج الفيلم جون فافرو. فقد أراد فافرو أن يجعل شخصية ضابط يقول: “كثيرون على استعداد لقتل أنفسهم للحصول على ما أتمتع به من فرص”، لكن ستروب اعترض. وأصر فافرو على أن العبارة يجب أن تبقى في الفيلم، ووفقًا لما ذكره ستروب: “لقد غضب كثيرا وشعرت أيضا بالغضب. كان الأمر صعبًا للغاية، ثم قال: ماذا لو استبدلنا عبارة “يقتلون أنفسهم” بـ”يسيرون فوق فحم ساخن”؟ ووافقت. وفوجئ هو بأن الأمر مر بسهولة. وما حدث أن العبارة لم تذكر في الفيلم في نهاية المطاف!
ويبدو أن أي إشارة إلى فكرة انتحار رجل عسكري، مسألة لا يسمح بها مكتب الرقابة في هوليوود. فالموضوع حساس ومحرج بالنسبة لهم، بعد أن انتحر عدد من العسكريين الأمريكيين خلال “الحرب على الإرهاب” أكثر ممن لقوا حتفهم في القتال. لكن الغريب أنه ليس مسموحا أن يردد رجل يصنع لنفسه جناحين من الحديد لكي يطير بهما، نكتة من هذا النوع في فيلم خيالي كـ “الرجل الحديدي”!
يروي المؤلفان أنه كانت هناك أيضا مزحة أخرى من سطر واحد اعترضت عليها وزارة الدفاع في فيلم جيمس بوند “غدا لا يموت” Tomorrow Never Diesوذلك عندما يوشك بوند على القفز من طائرة نقل عسكرية، ويصبح من المؤكد أنه سيهبط في المياه الفيتنامية. وفي النص الأصلي للسيناريو كان رفيق بوند ضابط المخابرات المركزية يقول له: “أتعرف ماذا سيحدث. ستنشب حربً.. ربما ننتصر فيها هذه المرة”. وبناء على طلب وزارة الدفاع، حذفت هذه العبارة من الفيلم.
والغريب أن فيل ستروب ينكر وجود أي دور للبنتاغون في فيلم “غدا لا يموت” بينما يضع الباحث لورانس سويد صلة الفيلم بوزارة الدفاع تحت عنوان “تعاون غير معترف به”. أما البنتاغون نفسه فيذكر دوره بوضوح في نهاية الفيلم. وقد حصل مؤلفا الكتاب على نسخة من اتفاق تعاون بين منتجي الفيلم والبنتاغون!
والواضح أن موضوع فيتنام من المواضيع المؤلمة عند البنتاغون، وهو ما أدى إلى إزالة ما يشير إلى الحرب الفيتنامية من سيناريو فيلم “المارد” The Hulk (2003). وبينما لا يأتي ذكر لدور البنتاغون في نهاية الفيلم، إلا أن مؤلفي الكتاب حصلا على وثيقة من وثائق مشاة البحرية الأمريكية، تكشف تفاصيل التعديلات الجوهرية التي أدخلت على سيناريو الفيلم.
من ضمن هذه التعديلات، جعل المختبر الذي يتم فيه خلق “المارد” بطريق الخطأ، في منشأة غير عسكرية، وجعل مدير المختبر عسكري سابق، وتغيير الاسم الرمزي لعملية القبض على المارد من “رانش هاند” “Ranch Hand” إلى “رجل غاضب”. لماذا؟ لأن “رانش هاند” هو اسم عملية عسكرية حقيقية قامت بها الطائرات الأمريكية الحربية حينما ألقت ملايين الغالونات من المبيدات الحشرية وغيرها من السموم في المزارع الفيتنامية، مما أدى إلى تسمم ملايين الأفدنة. وشملت التعديلات أيضا حذف الحوار الذي وردت فيه الكلمات التالية: “كل هؤلاء الأولاد، وخنازير غينيا، والموت من الإشعاع، والحرب الجرثومية”، وكلها تشير بوضوح إلى التجارب العسكرية السرية التي تجري على البشر.
وتكشف الوثائق التي اطلع عليها مؤلفا الكتاب، أن البنتاجون لديه القدرة على منع إنتاج فيلم عن طريق رفض تقديم أي دعم له. وتعتمد بعض الأفلام مثل “مدفع القمة” Top Gun و”المحولون” Transformers و”فعل البطولة” Act of Valor على التعاون مع الجيش بدليل أنه لم يكن ممكنا أن تنتج دون الخضوع لما يفرضه هذا التعاون.
من جهة أخرى، رفض البنتاغون دعم فيلم “إجراءات مضادة” Countermeasures، وبالتالي لم يتم إنتاجه أبدًا. وكان أحد أسباب الرفض أن النص يتضمن ما يشير إلى فضيحة إيران كونترا، وكان رأى ستروب أنه “لا توجد حاجة لتذكير الجمهور بموضوع إيران – كونترا”. وبالمثل، لم يتم إنتاج فيلم “حقوق النار” لأنه لم يتمكن من الحصول على الدعم العسكري، بسبب الجوانب المثيرة للجدل سياسيًا الموجودة في السيناريو.
ولكن من المستحيل معرفة مدى انتشار هذه الرقابة العسكرية على الأفلام، لأنه لايزال من المحظور الاطلاع على كثير من الملفات. وغالبية الوثائق التي حصل عليها مؤلفا الكتاب، هي تقارير أقرب إلى اليوميات كتبا المسؤولون عن مكاتب الاتصال في هوليوود، وهي نادرا ما تشير بطريقة واضحة ومباشرة، إلى التعديلات التي خضعت لها سيناريوهات الأفلام. ورغم ذلك، تكشف الوثائق أن وزارة الدفاع تتدخل في أي مشروع يطلب أصحابه الدعم، وأحيانًا يتم إجراء تعديلات بعد الانتهاء من التصوير. وتكشف الوثائق أيضًا أن الرقابة العسكرية في هوليوود تتدخل في المراحل الأولى لكتابة سيناريو الفيلم، أي في مرحلة تشكيل الشخصيات والأحداث، لتتم صياغتها وفقا لما يراه العسكريون.
دور المخابرات المركزية
على الرغم من المساعدات الأقل حجما التي تقدمها لصناعة السينما الأمريكية وكالة المخابرات المركزية إلا أنها تتمتع بنفوذ كبير على بعض المشاريع التي تدعمها. إنها لا تتدخل بشكل رسمي مباشر في مراجعة السيناريوهات، إلا أن تشيس براندون ضابط الاتصال الذي يمثلها في مكتب هوليوود، كثيرا ما يتدخل خلال المراحل الأولى من عملية الكتابة في كثير من المنتجات التلفزيونية والأفلام.
وقد قام براندون- على سبيل المثال- بدور بارز في فيلم الجاسوسية “المجند” The Recruit ، فقد وضع شخصية عميل جديد في الفيلم، يخوض برنامج التدريب الخاص بالمخابرات المركزية، وهي وسيلة لجذب الجمهور إلى عالم المخابرات وإعطائهم لمحة عما يدور وراء الستار. وقد كتب براندون المعالجة الأصلية للقصة، والمسودات المبكرة للسيناريو، إلا أن اسمه ظهر على الشاشة كمستشار تقني للتغطية على دوره في كتابة القصة والسيناريو.
ويحتوي فيلم “المجند” على بعض عبارات الحوار حول مخاطر مرحلة ما بعد زوال الخطر الشيوعي (لتبرير زيادة ميزانية الانفاق العسكري الى 600 مليار دولار) وكذلك استبعاد فكرة أن السي آي إيه فشلت في منع هجمات 11 سبتمبر 2001، مع تكرار القول بأن “إخفاقات الوكالة معروفة، لكن نجاحاتها غير معروفة”. وقد ساهم كل هذا في تصوير الوكالة باعتبارها “فاعل خير” عقلاني وسط عالم فوضوي خطير يمتلئ بالعنف والارهاب.
مارست وكالة المخابرات المركزية أيضًا مراقبة السيناريوهات، وغيرت في المسلسلات التليفزيونية، واستبعدت كل ما لا يريدون أن يراه المشاهدون. وعلى سبيل المثال راجعت الوكالة سيناريو فيلم “ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل” Zero Dark Thirty (قتل أسامة بن لادن) وحذفت مشهدا لضابط مخابرات سكران كان يطلق النار في الهواء من فوق سطح مبنى في اسلام أباد، كما حذفت الكلاب من مشهد للتعذيب.
وحتى في الفيلم الكوميدي الرومانسي الشهير “قابل الآباء” (2000) Meet the Parents ، طلب براندون تغيير المشهد الذي يكتشف فيه “بن ستيللر” على مكتب والد زوجته (روبرت دي نيرو) وثائق تشير إلى دور المخابرات المركزية في ممارسة التعذيب، وقد غيرها براندون وجعلها صورا لروبرت دي نيرو مع شخصيات مختلفة.
يقول مؤلفا الكتاب أن قدرة المخابرات المركزية على التدخل في سيناريوهات الأفلام، ترجع إلى سنوات النشأة الأولى لذلك الجهاز الجبار في أواخر الأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. ويوضحان مثلا، كيف تمكن لسنوات طويلة، من منع أي ذكر للوكالة في الأفلام ومسلسلات التلفزيون إلى حين ظهر فيلم هيتشكوك الشهير “الشمال من الشمال الغربي”- 1959. وترتب على ذلك رفض طلبات كثيرة تقدم بها منتجو هوليوود، للمساعدة في الانتاج، وبالتالي لم يتم انتاج بعض الأفلام قط، بل وقد حظرت الإشارة لدور السي آي إيه في سيناريو فيلم بوب هوب الكوميدي”جاسوسي المفضل My Favourite Spy – عام 1951.
الرقابة على أفلام هوليوود غير مباشرة، ولا تعتبر عرفا ثابتا، لكن المثير للدهشة أن الكثير من منتجي الأفلام يقبلونها طواعية، فهم يبحثون عن دعم مباشر من المؤسستين العسكرية والاستخباراتية معهم. ولكن القاعدة هي أن “من يلعب بالنار، يحترق بها”!