“دوام كامل” .. جحيم الطبقة العاملة
محمد كمال
يستمر المخرج الفرنسي الكندي إريك جرافل خلال فيلمه الثاني في طرح فكرة العمل كطرح أساسي له ففي فيلمه الأول عام 2017 “اختبار التصادم” تناول كيفية الحفاظ على العمل، ويأتي في فيلمه الثاني هذا العام الذي يحمل اسم “دوام كامل”أو “À plein temps” ليطرح نفس الأمر لكن بمعطيات مختلفة تماما وفي طرح مغاير يظهر خلاله بشكل أعمق وأشمل وأكثر قربا للواقع الذي تعاني منه الدول الكبرى في القارة الأوروبية الملقبة بالقارة العجوز.
حصل فيلم “دوام كامل” على جائزتين عند مشاركته في مسابقة آفاق ثاني أرفع مسابقات مهرجان فينسيا السينمائي الدولي، جائزة أفضل مخرج التي حصل عليه جرافل وجائزة أفضل ممثلة للفرنسية لور كالامي.
تتسق تجربة جرافل الجديدة مع تجارب أخرى ربطت بين معاناة دول أوروبا الغربية خلال الأزمة الاقتصادية في الأعوام الأخيرة وبين التراجع الكبير الذي تشهده الطبقة العاملة التي أصبحت أكثر كدحا وبؤسا وبالمناسبة الأمرين كلا منهما انعكاس للآخر، ففي نصف القرن الماضي ارتبطت هذه النوعية من الأفلام بدول أوروبا الشرقية أكثر أو بالدول التي غزتها التجارب الاشتراكية لكن في الأعوام العشر الأخير أصبحت تلك النوعية سمة الدول الأوروبية الكبرى بعد أن طالت الأزمة الاقتصادية التي بدأت في 2008 دول كبيرة مثل انجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا على غرار تجارب سينمائية عديدة قد يكون أخرها الفيلم الإسباني “الكوكب” للمخرجة أماليا أولمان ومن قبله العام الماضي فيلم المخرج الفرنسي ستيفان بيرزي “عالم اخر” ومن قبلهما في 2019 تجربة المخرج الإنجليزي الكبير كن لوتش والتي حملت اسم “عفوا لم نجدكم”.
وتعد تجربة الإنجليزي صاحب ال 86 عاما هي الأكثر اتساقا مع تجربة الشاب الفرنسي الجديدة وخاصة في نقطة التهميش المتعمدة من الرأسمالية للطبقة العاملة فهذا كان محور حياة ريكي ترنر بطل الفيلم الإنجليزي أما جولي بطلتنا في الفيلم الجديد فهي أيضا ابنة تلك الطبقة العاملة الكادحة التي سحقتها الرأسمالية في السابق وجاءت الأزمة الاقتصادية لتكمل عليها.
جولي إمرأة عاملة وأم مطلقة تعيل ابنين تسكن في قرية على ضواحي باريس تعمل كرئيسة خدم في أحد الفنادق ذات النجمات الخمس مضطرة بعد أن تسببت الأزمة الاقتصادية وظروف الطلاق إلى أن تفقد وظيفتها الأساسية كخبيرة اقتصاد في مجال التسويق وصعوبة العودة لها في ظل الوضع الراهن لهذا فقد قبلت بالعمل بدوام جزئي في فندق أنيق يبعد عن محل إقامتها على نحو ساعة.
يبدأ المشهد الأول باستيقاظ جولي مبكرا قبل حتى طلوع النهار وفي وقت مبكر جدا تقوم بتوصيل ابنيها إلى منزل المربية العجوز ثم تبدأ جولي رحلة المعاناة للوصل إلى باريس، وسط الإضرابات التي تشهدها وسائل المواصلات في العاصمة سواء القطارات أو الأتوبيسات لهذا فهي دائما تصل متأخرة يوميا.
ظهرت براعة المخرج في كيفية التعبير واستغلال الصورة لتسير بشكل متوازي مع حياة جولي كأنهما صورة في مرآة، جولي حياتها رغم سرعتها إلا أنها رتيبة ومملة وهذا ما عبرت عنه الكاميرا التي كانت دائما مرافقة لجولي في تحركاتها وسرعتها سواء في وسائل المواصلات أو من خلال الركض في الشوارع من خلال لقطات متوسطة وقصيرة على جولي ومونتاج لاهث سريع فلا مجال للتوقف أو للتأخير لحظة كأن جولي تدور في “ساقية” بشكل يومي.
في النصف الأول من الفيلم ارتكز المخرج على أمرين الأول طبيعة يوم جولي المتكررة التي تبدأ بالاستيقاظ مبكرا ثم التنقلات الكثيرة إلى منزل المربية ثم رحلة العمل وأخيرا الوضع المذري في العمل نفسه رغم أنه في فندق باريسي كبير إلا أن عمل جولي كرئيسة خدم مهمتها فرش الغرف وتنظيف الحمامات وإزالة رواسب الأثرياء بشرط أن تكون غير مرئية لهم، وهي إشارة مهمة ومعبرة من المخرج بالتهميش الكبير التي تعاني منه ليست جولي فقط بل والطبقة العاملة كلها فعليهم أن يكونوا غير مرئين بالنسبة للأثرياء أو بمعنى أدق هي إشارة إلى التجاهل المتعمد.
الأمر الثاني كان الخاص بتنفيذ المشاهد الخاصة بالإضرابات التي تسيطر على باريس والتي حولتها إلى جحيم وجعلت من عاصمة الجمال مجرد مدينة قبيحة مكدسة بالتزاحم والإضرابات والمسيرات التي تتباين في مطالبها الفئوية، وكانت جولي تتنقل يوميا بين كل هذا في مرة تجد الإضراب في القطارات تتجه للحافلات ثم يحدث العكس، ثم يشمل الإضراب الاثنين لا تجد أمامها سوى السيارات المشتركة وفي تارة تستأجر سيارة للعودة ومرة أخرى تضطر للمبيت في أحد الفنادق المتواضعة لأنها لم تجد أي وسيلة تعود بها إلى منزلها.
وسط كل هذه التنقلات السريعة نجد أن كاميرا جرافيل تسير بنفس السرعة بل وأحيانا يلجأ المخرج إلى استخدام الكاميرا بشكل مهزوز حتى ينقل لنا حالة الارتباك التي تتواجد بالتوازي عند جولي مع سرعة حياتها مما يجعلها دائما تدخل من مأزق إلى آخر ما بين نفقات المنزل واستحقاقات البطاقات الإئتمانية ومطاردات المصارف وأزمتها الأساسية مع المربية العجوز سواء في مسألة الحضور يوميا متأخرة لاستسلام طفليها أو مطالبة المربية بالتوقف عن استضافة الابنين بناء على رغبة ابنتها، كلها أمور تزيد الارتباك لدى جولي وتجعلها دائما على وشك الانفجار.
خلال كل هذا تتقدم جولي للحصول على وظيفة أخرى في مجال تخصصها وتنتظر رد الشركة مما يجعلها تترك العمل دون علم مديرتها لحضور مقابلة العمل الأخيرة للحصول على الوظيفة الجديدة مما يجعلها تقع في مأزق ما بين تهديد عملها الحالي بتسريحها وبين تأخير الشركة الجديدة في الرد وهذا ما جعل جولي تشعر بأنها على المحك فإذا فشلت في الحفاظ على وظيفتها الحالية ولم تحصل على الجديدة كيف يمكن أن تعيل أسرتها في الوقت الذي يتجاهل طليقها مكالمتها للحصول على نفقة ومصاريف الابنين.
في النصف الثاني من الفيلم ارتكز المخرج على أمر واحد فقط وهو التعبير أكثر عن أزمة جولي الداخلية ليس فقط فكرة التهميش أو القبول ببعمل غير مناسب أو أزمة الانتقالات وسط الإضرابات لكن جولي أيضا إمرأة لم تعيش حياتها بشكل طبيعي لديها أزمات اقتصادية وفق للوضع المادي، وعائلية لأن بعد مسافة العمل أفقدها التواصل الجيد مع ابنيها، وإنسانية فهي بلا أصدقاء أو حياة بها جانب من الترفيه، وأيضا مشاكل عاطفية فهي مطلقة وليس لديها متنفس سواء للحب أو حتى لعلاقة جنسية عابرة.
يحسب للمخرج والذي في نفس الوقت المؤلف أنه لم يفقد الخيط الرفيع بين وضع الطبقة العاملة وبين التأثير المباشر للإضرابات المتتالية على تلك الطبقة برغم أن تلك الإضرابات زادت بؤس وصعبت الحياة أكثر لكنه حافظ على هذا الأمر دون أن يقدم إدانة لتلك الإضرابات وأظهر الجميع في صورة الضحايا سواء للأزمة الإقتصادية أو حتى للتهميش المتعمد من الرأسمالية الساحقة ليقدم صورة من نظام اجتماعي هش بالكامل آيل للسقوط.
قدمت الممثلة لور كالامي أداء جيد جدا فالفيلم بالكامل مرتكز عليها والكاميرا مصاحبة لها من كل الزوايا من خلال نقل تعبيرات وجهها المتباينة في جميع انفعالاتها بين الغضب والحزن والتوتر وأيضا سرعة حركتها ونجحت لور في نقل تلك الصورة القاتمة الحزينة لحياة جولي البائسة التي تحاول خطف لحظات سعادة بسيطة من الحياة قد تبدو مرضية لكنها ليست كافية في ظل الأوضاع الحالية.
رغم كل هذا أعطى جرافل في النهاية بارقة أمل وجعلها نهاية تبدو مفتوحة بأن الشركة الجديدة اتصلت بجولي وأنها ستنضم للعمل بدوام كامل في تخصصها الأساسي المتعلق بالتسويق ورغم انها تضحك للمرة الأولى لكنه ضحك ممزوج بالبكاء وهي تنظر لأبنائها وكأنها في حالة أقرب للترقب من تساؤلات حول المستقبل، هل حصولها على وظيفة بدوام كامل سيحقق لها ولأسرتها الأمان؟ هل ستحقق النجاح رغم أن العمل الجديد في باريس أيضا أي أن نفس المعوقات المتعلقة بالإضرابات والإحتجاجات موجودة؟ .. والأهم هل ستنعم بحياة طبيعية؟