دلالات وملامح معرفية وأخلاقية في الخطاب السينمائي

السينما تحوي كثير من الابعاد الفلسفية والنفسية، أي انها تتحرك دائما في حقول الفلسفة وعلم النفس، وتتناص كثيرا مع الادب وباقي حقول العلوم الانسانية والفنون التشكيلية، فالسينما بها الكثير من المخرجين الفلاسفة مثل بيتر جريناواي وودي الن وجون لوك جودار وفيلليني، الذين ابدعوا الكثير من الافلام ذات الحس الفلسفي والنفسي وأسسوا لخطابات سينمائية محرضة علي التفكير الفلسفي بكل اوجهه، وذلك يعني ان هناك ارضا خصبة في السينما لابراز خطابات ذات نواح فلسفية، وهذه الدراسة تحاول الولوج الى محاولات تأسيسية الخطاب المعرفي والاخلاقي في السينما، وذلك عبر تناول بعض الملامح والدلالات والمعاني ذات الحس المعرفي والاخلاقي، ولسنا بصدد هيكل خطابي كبير لهذه الابعاد الكلية والشاملة والمهمة في تحليل السينما فلسفيا، وانما محاولات حثيثية في ذلك الطرح.

-1الخطاب الاخلاقي في السينما

تنبثق المعرفة كبعد اخلاقي وفلسفي وفكري وجماليات رائعة التكوين من الصورة السينمائية الحقيقية، في اطار ابعاد تخيلية غير موجودة، فالفن باستمرار غير موجود، ولكن هذه الابعاد التخيلية ترفع من مستويات الانسان الي ابعاد تخيلية جمالية ومعرفية اقرب الي الملائكية والتعالي الاخلاقي النقي.


فالاشياء الغير موجودة التخيلية هي دائما اكثر اخلاقية ورقيا وانسانية من الاشياء المادية الموجودة، لأن هذه الاشياء التخيلية هي بعيدة عن الصراع المباشر في الواقع، الذي يتميز بالسرعة، وعدم الاخلاقية والسطحية، والنفعية، واللذة المباشرة السهلة، والبعد عن اي تفكير فلسفي وعميق، وينم عن جماليات ليس بها تعقيد، والسينما كذلك كنوع من انواع الفن، تعتبر مستوي تخيليا للعالم بشكل كبير، ولذا فمساحة التأمل الاخلاقي بها كبيرة، والاخلاق في طبعها الاساسي ذات ميول عاطفية ومثالية وتتميز بالنسبية رغم استقرار بعض مبادئها التي تتحول الي قواعد اخلاقية اجتماعية عامة، وهذه المزايا تتناسب مع ملامح السينما كفن مثالي يتميز بالتأثير العاطفي الكبير علي المشاهد، والنقاط التالية تحاول اثارة عدة اشكاليات حول فلسفة الاخلاق في السينما، ومحاولات لفهم سير الدرس الاخلاقي في المشهدية.

تأملية الاخلاق

هل السينما لا تحتوي علي مضمون اخلاقي فلسفي، فهي احد الفنون، والمشاهد يريد التسلية لا يريد أن يغير من اخلاقياته التي اعتاد عليها دائما، وهذا التغير المرفوض يجعله يتأمل في أشد الامور خصوصية له ، فلسفته الاخلاقية للحياة، فقد تنقلب  منظومته القيمية رأسا علي عقب جراء افلام تدعوه للرقي الاخلاقي والتنزه علي الصراع والحياة المادية حتي لو كانت في فضيلة الخير والحياة السليمة، هذا النوع من المشاهد لا يبتغي  جهدا وكفاحا اخلاقيا من السينما، بل يريدها سينما تجعله سعيدا ليمر الوقت سريعا. 

الامر يختلف لمن يريد التأمل الاخلاقي في السينما، فلا يمكن لأخلاقيي السينما الحقيقيين والذي يتابعون سينما عظيمة تعبر عن فن وجماليات ومعرفة حقيقية، أن يقتربوا من مباشرة الواقع المادية القذرة، فتعاليهم الدائم هو مصدر اخلاقي نقي للحياة بشكل دائم، وهم الاكثر جمالا ورقيا من متابعي السينما المباشرة وسينما التسلية والسينما التجارية المادية، فالضحك والابتسامة المستمرة التي تنتج عن هذه السينما لا تعبر الا عن حسية نفعية شديدة للسينما وانعكاس ذلك علي حياة المشاهد بشكل عام، واندماج طريقة حياته المادية للصراع المباشر، واهتمامه بهذه النوعية من السينما، وهي السينما الاكثر انتشارا ورواجا بين الانوع للسينما. وحتي السينما الجادة ولكنها التي لا تهتم بالتأمل الاخلاقي واعادة ويتضمن هذا السينما الجادة ولكنها التي لا تهتم بالتأمل الاخلاقي واعادة تمظهر الوعي نحو القيمة الاخلاقية للاشياء.

  اخلاقية التسامح

رغم الرؤية السوداوية للصراع البشري، وهي تغلف كثير من الامور التي تخص العالم، فمثلا مشكلة الرأسمالية وبؤس العمال، تحول شعب واحد لحرب داخلية اهلية طاحنة، ولكن كل هذا لا يساوي شيئا زمنيا كبيرا من حياة البشر، فهناك مساحات من التسامح بين البشر تظلل حياتهم بشكل دائم، وهذا منبعه الحب والخير، لذا الحياة مستمرة فالجانب المثالي هذا هو الذي يحتل المساحة الزمنية الظاهرية الاكثر في حياة البشر، وذلك لا يعني الاصل ، فالاصل هو ان ارادة الفرد الواحد وذاتيته اذا تحققت واقعيا لن يوجد تصالح مع الاخر وتضيق المساحات، فعلاقة الفرد بالاخر هي في اصلها علاقة احتلال ونزاع. 

تأتي السينما كفن خيالي غير موجود، مثالي ذو ابعاد اخلاقية تأملية لتمنح مساحات تسامح كثيرة بين حياة الافراد، فتشجع السينما علي زيادة قدرة الانسان علي التسامح وعدم ازاحة الاخر باستمرار، وزيادة مساحة كبت الصراع وزيادة النقاء وحب الاخر، فمشاهد الابعاد الانسانية في الحروب كثيرة، حيث يركز المخرج علي لقطات تعطي معني انسانيا واخلاقيا للحدث المؤلم وهو الحرب، مثل افلام تيرنس ماليك، ومخرجين اخرون، والفيلم المهم جورجي الجنسية “اليوسفي”،  وهناك مساحات تسامح تتواجد في وعي المشاهد وخاصة في الافلام ذات الميول السوادوية مثل افلام فون ترير وبيلاتار، حيث هذه الفيلمية تزيد من نقاء وعي المشاهد وحساسيته نتيجة الكشف عن حتمية الصراع وتوحشه وبؤس الانسان فيكون هناك دعوه لترك الصراع الانساني والبعد عنه لانه مصدر الشر.

لاعقلانية الأخلاق

كيف نجد الخير والشر في السينما، وهي فن يريد للانسان ان يرتقي، هل نجدهما بشكل افضل في فيلمية بيلاتار ولارس فون تريير وبريسون وتاركوفسكي التي تعني بوعي اخلاقي لاعقلاني برئ حساس لا يملك ناصية الاخلاق القوية العقلانية، وبذلك هل هي افضل النواصي الاخلاقية المنشودة؟ هذا الدرس الاخلاقي لهذه الفيملية يثير تساؤلا فلسفيا حول ماهية الاخلاق وماهية اختيارنا للفعل الاخلاقي، فهذا الوعي يجعلنا ضعفاء امام العالم كوعي كافكا وافعال التطهير التي تتواجد بكتاباته، هل ننتقل الي درس اخلاقي اخر يحتوي وعي اخلاقي عقلاني كافلام بيرتولوتشي، وكيارستامي وكيروساوا، هذا الوعي يمثل فضيلة التعود والممارسة واللهث نحو الخيرالعام والفضيلة والتي يستلزم طبيعة قوية من الوعي والادراك، ولكن ابعاد الشر ستتواجد في هذا الدرس الاخلاقي، ايهما افضل في هذين الدرسين الأخلاقيين في السينما؟

برتولوتشي

خيارات المشاهد لفيليمة لاعقلانية الاخلاق تجعله امام سرح سينمائي هائل، فهناك  دعوه للخيال والهذيان وعالم النقاء والبراءة، يكون الواقع السينمائي اكثير خيالا ومثاليا، وهو اشد لحظات السينما اضطرابا، فمساحات الشر تتضاءل امام هذا الخيار الاخلاقي، فكسر الايهام بالشر والسعي نحو عالم جمالي ملئ بالخير هو نية النص السينمائي، وستظل اخلاقية السينما تتمثل في  جذب الوعي المشاهد نحو تجنب التماهي مع الشر، يعني التحرر من صراع وشر العالم، هي يسارية جمالية ضد صراعات الواقع القبيح. 

والخيار الثاني خيار عقلانية الاخلاقية هي سينما الاخلاق الكلاسيكية، محاولة الوصول الي حد منطقي في الفضيلة والخير، المشهد يلهث وراء الفيلمية هنا من اجل عالم اخلاقي اكثر قوة وتحديدا، يصبح هناك ترتيب ووعي بالشر وصراعات العالم، ولكنه لا يدعو الي تفعيل الشر.

2- الخطاب المعرفي في السينما

يحاول المقال محاولة فهم واثارة اشكاليات متعددة حول دلالات المعرفة ومفاهيمها وابعاد الفلسفة في حقل السينما والصورة، فهل السينما تحتوي علي مضامين معرفيه متعددة، هل يخرج المشاهد بأسئلة معرفية علي الاقل دون اجابات شافية؟، ونجد ان العوالم التي تتضمنها السينما تحفز المشاهد علي دخول علي افق معرفي جديد ليتجه المشاهد نحو التأمل المعرفي او الفكري، او الحصول علي بعد معلوماتي، والمقصد هنا للمعرفة في السينما انها تعددية ، فاكثر شئ ظاهر لمعرفية السينما، هو البعد التاريخي والاجتماعي والديني والسياسي للمعرفة موجود في السينما، ولكن يكون امر هنا اشبه بمعلومات وسرد معرفي لا يشعل التأمل، والاهم هو المعرفة التي تحفز المشاهد علي التأمل، فهناك المعرفة الفلسفية المتعددة من فلسفة وجودية وفلسفة انسانية، وفلسفة اخلاقية وغيرها.  

التأمل المعرفي

 ومن خصائص السينما انها خطاب حسي بصري شاعري، وايضا فن تخيلي يتعالي دائما عن مباشرة الواقع، ويحتوي مضمون بصري يرشدنا نحو الحقيقة والمعرفة بالحس مباشرة، فالامر في السينما يبدأ بصريا حسيا، ثم تكون هناك مشهدية الذهن، بمعني ان يتأثر المشاهد معرفيا وفكريا، ويتجه نحو تأمل اللقطة والخروج بفكرة ما تثيره معرفياً وتتوالد الافكار في ذهنية المشاهد عبر صور المشهد التي تتوالد الي صور ومشاهد اخري.  

ويمكننا القول ان المعرفة عبر السينما معرفة شفافة اكثر اخلاقية من المعرفية التي تأتي من الفلسفة، فخطاب الفلسفة خطاب مجرد، بعيدا عن الجماليات، فالصورة السينمائية كمدخل للمعرفة، هي الاكثر خياليا وعدم يقينا فالفن غير موجود، ولكن الصورة تعبر في المنطق الخيالي عن حقيقة الامور، تخيلنا البصري يمتد الي تخيل معرفي يعبر عن ابعاد الحقيقة، فالصورة تتضمن اشياء متحركة تدرك بالعين، يتسقبلها المشاهد بصريا وحسيا ثم معرفيا.

شانتال اكريمان

موت المؤلف في السينما

مؤلف المؤلف والمبدع اشكالية ادبية اثيرت في الفكر الفلسفي ما بعد الحداثي لدي فوكو وبارت والقصد كان موت الابداع والتخييل والذاتيه المؤلفة، مع بقاء الابعاد الاجتماعية والقانونية والاجتماعية. يقول فوكو “ان وظيفة المؤلف مرتبطة بالنظام والمؤسسات التي تشمل وتحدد وتجسد عالم المعالجات والخطابات”.. كان القصد لدي فوكو هو موت الانسان بشكل عام فيما يتعلق بشعوره بوجوده واحساسه بحريته وقدرته علي التغيير والاختيار وبناء حاضره ورؤيه مستقبله بوضوح، وذلك بسبب تأثير القيم السلطوية السياسية والاجتماعية والعقابيه عليه، فالانسان فقد حريته، واصبح مكتئبا، وقد وجد نفسه بشكل جزئي بعد أم اندمج في العالم الرأسمالي السريع، وهو ما اوضحه دولوز في بعض مؤلفاته، اي ان الفرد الذي يرفض الرأسمالية والعالم التقني والسريع يصبح مجنونا وهو تأكيد لكلام فوكو.

والسينما تتضمن مبدعا، هل المؤلف والمخرج وصانع الفيلم ماتا، واصبحت السينما غير قادرة علي تجاوز العالم المسيطر، ولم يعد المشاهد يجد مخرجا جديدا لذاته في الصورة السينمائية؟ قد تكون السينما قادرة علي وصف حالة الانسان الحرجة وكيف مات، كفن انفعالي شاعري مشهدي، ولكن ليس هناك حلول لهذا المأزق الفوكوني والدولوزي، فهناك مخرجون كبار ، مثل بيلاتار وجودار، وشانتال اكيرمان، واريك رومير، وتاركوفسكي لديهم محاولات مجازية بصرية شاعرية لوصف حالة الانسان المعاصر، وقد حاول مثلا تاركوفسكي الروسي وانجلوبولوس اليوناني صنع حالة شاعرية بصرية شديدة الخصوصية لتجاوز الانسان من العالم، وقد يتجاوز هذان المخرجان اشكالية موت المؤلف والمبدع، فهناك وعي لديهم بوضع الفرد والسعي لخروجه من هذه الازمة . لذا يمكن القول ان هناك اعمالا سينمائية مدهشة حاربت نظرية موت المؤلف في الفن وكشفت عن حقيقة الانسان المعاصر، وحاولت الخروج الي عالم انساني جديد.  

العقلانية في السينما

مدي امكانيه تواجد الخطاب العقلاني والغير العقلاني في السينما سؤال مهم يثار، بهدف الحفر في عقلانية السينما، وهل الصورة تخاطب العقل بالاساس، هل تصل الي العقل، وهل اعظم الافلام كانت تسند إلى منطق عقلاني في بناء الفكرة والمضمون الفيلمي، الصورة في الاساس تخاطب اشياء غير عقلانية مثل العواطف والاحاسيس والمشاعر والضمير، هي تنفعل لكي ينفعل المشاهد، فهي مبنية علي الانفعال الداخلي، ولكن هذه الانفعالات، تحفز المشاهد لكي يتأمل فكريا، وليس شرطا ان يكون التأمل عقلانيا ومنطقيا.

فديكارت ابو العقلانية واسبينوزا ولابينتز وكانط، عمالقة الفلسفة العقلانية في الغرب يظهرون في السينما على استحياء، قد لا يكون من المبالغة القول ان هناك انسحابا تاما، ولكن هناك اكثر من ظهور لهذا الفكرالعقلاني في المدارس الواقعية في السينما ولكن فيما يتعلق بجوانب معينة منها شمولية الفكرة والمضمون في الفيلم، يعني ان العقلانية تعني البعد عن العاطفة والخيال والتمسك بالعقل، والواقعية السينمائية تعني رصد الواقع كما هو دون تدخل من المخرج سواء عاطفته، والواقع في صورته الكلية يمثل عقلانية، فاذا فهمه الانسان كما هو يعتبر اكبر تجسد للعقلانية، واذا تأثر بأحد اجزائه يحيد عن العقلانية، والواقع يمثل اشياء عقلانية وغير عقلانية، ولكن ادارك الانسان له كما هو يكفي لعقلانية مؤكدة، ولكن بالأساس تصل الصورة في هذا السياق عن طريق الانفعالات، ولكن المقصد الفكري والسرد في الصورة يكون واقعيا ذا بعد عقلاني.

ونجد ان البعد الغير عقلاني متوفر في السينما فالصورة  والمشهدية هي فن غير موجود لاعقلاني مثلما قال الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، فالفن شئ خيالي حتي ماركس كان عقلانيا في النظرية، وفي النواحي العملية مثل البيان الشيوعي اصبح سينمائيا كبيرا.  

البؤرة المعرفية

تتيح السينما مساحات لتجريد بعض الاشياء والمعاني، بخلاف بقية الفنون، وهو ما يسمي بالبؤرةالمعرفية في الصورة، فتسعي المشهدية الي الوصول الي ذروة المعني، الي اقصاه، وهناك امثلة كثيرة، منها معني الحزن والكآبه في العالم في فيلم مانخولايا للمخرج لارس فون تريير، الذي استطاع الوصول الي بؤرة الكآبه في العالم وعدم جدواه، وانه سينتهي لا محالة، فكثف هذا المعني بشكل واضح، وهذا التوتر المشهدي ساعد علي الوصول الي معرفة حقيقية لمعني الكأبة الي اراد لارس فون ان يوصله. فخارج هذا المعني توجد الكآبه بدرجات بين الافراد، تذهب وتأتي، وهو ما تكرر في فيلمه “ضد المسيح”، فكانت كآبه الانثي متجسده فوصل الي بؤرة هذه الكآبه حتي بحضور خطاب فرويد لتحليل هذه الكآبه دون أن ينجح.

وهناك البؤرة الأقل وطأة من لارس فون تريير فيما يتعلق بمعرفية وحقيقة الكأبة والحزن وكابوسية العالم، وهي للمخرجة الفرنسية شانتال اكيرمان وكانت في افلامها حول وضع الانثي البائس، ففي فيلم “أنا انت هو هي”، عبرت عن عزلة فتاة عن العالم وخروجها منه، الحالة النفسية هستيرية كئيبة ولكنها بشكل خفيف، كانت فتاه تعيش بخفه، فهناك حالة تبسيطية لانفعال الشخصية، هي اقرب للحالة الشاعرية للصورة، قصائد شعر حالمه، فخفت المشهدية من حالة البؤس بشكل أقل.

Visited 35 times, 1 visit(s) today