دعوة للحياة فى آخر أفلام الممثل الراحل روبين ويليامز!
لعل من المفارقات اللافتة، أن يكون أحد أفلام روبين ويليامز الأخيرة الذى عرض موخرا فى الصالات المصرية وعنوانه The Angriest Man in Brooklyn ، بمثابة دعوة لحب الحياة، ويليامز الذى غادرنا مكتئبا يبدو فى فيلمه وكأنه يعانى حملا خفيا يتعبه، هكذا أحسست، بل إننى شعرت بذلك وأنا أشاهده لأول مرة منذ سنوات طويلة فى فيلم “جمعية الشعراء الموتى”، وجهه مثل القناع المسرحى الشهير، نصف يضحك ونصف يبكى، دمعت عينى وأنا أتفرج على فيلم ” أكثر الرجل غضبا فى بروكلين” ، دمعت من الضحك ومن الحزن معا، يا إلهى .. أى فنان عظيم فقدناه برحيل وليامز، هنا، رغم مشكلات السيناريوالواضحة للغاية، يبدو روبين فى ملعبة تماما، كوميديا سوداء عن الموت ولكنهامفعمة بالحياة، مشاهد ساخرة وأخرى تسمح للنجم الكبير بالفضفضة، ثم إن الفيلم يكرر أيقونات هوليوود الشهيرة بالدفاع عن العائلة، وبالإحساس بالواجب الذى تمثله طبيبة شابة، وبتثمين الحياة كنعمة فى حد ذاتها، يجب استغلالها حتى الرمق الأخير.
فكرة الفيلم جيدة رغم أنها ليست جديدة: ماذا تفعل لو قيل لك إن أمامك 90 دقيقة فقط فى الحياة؟، إنها تعد بإمكانيات كبيرة فى المزج بين الكوميديا والتراجيديا، ولكن السيناريو الذى بدأ بشكل جيد، سرعان ما ارتبكت خيوطه، مع أن مجرد الدفع فى اتجاه طباع الشخصيات، والإبتعاد عن المصادفات المفتعلة، كانا يمكن أن يصنعا فيلما معقولا، عموما فقد أنقذ أداء ويليامز العمل الى حد ما، يكفى أن تراه وهو يلون أداءه فى المشهد الواحد، يكفى هذا الإحساس بالشجن الذى يغلف الحكاية بلمسات مشخصاتى يضحكنا ويبكينا كيفما شاء.
غضب ومفاجأة
يبدا الفيلم بمشهد افتتاحى مرح:هنرى ألتمان (روبين ويليامز) فى عام 1989 على الشاطىء مع زوجته بيت وطفليه بيتر وتومى، يلعب مع الطفلين فى سعادة، تصوّره زوجته، يقول للكاميرا فى عينيه حزن دفين : ” أنا سعيد”، ننتقل الى هنرى فى سيارته بعد مرور 25 سنة، يبدو متأففا من كل شىء، نسمع صوت المعلق وهو يعدد أشياء كثيرة تثير غضب هنرى فى بروكلين وفى العالم، من الصحف والمجلات والمتاجر الرخيصة، وصولا الى فضلات الحيوانات، يزيد غضب هنرى عندما تصدمه سيارة تاكسى يقودها سائق من أوزبكستان، يردد هنرى دائما طوال الفيلم : “ما هذا بحق الجحيم ؟!”، نعرف أنه فى طريقه الى المستشفى للكشف عنمرض لا نعرفه ، يقدم الفيلم الطبيبة الشابة شارون (ميلا كونيس) التى تبدو أيضا غاضبة لأنها فقدت قطها المفضل، إنها تعمل فى المستشفى، وستستقبل حالة هنرى بديلا عن زميلها الطبيب المتخصص الذى ترتبط معه بعلاقة عاطفية، تقرأ شارون التقرير بعد إجراء الأشعة، تقول لهنرى إنه مصاب بمرض تمدد شرايين الدماغ، وبالتالى فهو معرّض للموت فى أى لحظة، ينفعل هنرى ويثور، يستفز شارون بإلحاحه لمعرفة موعد موته بالضبط، تخلصا من الموقف، تقول إن لديه 90 دقيقة فقط قبل أن يموت.
يبدو الموقف مفتعلا بعض الشىء، ولكن يمكن ابتلاعه إذا نظرنا الى الغضب المشترك بين شارون وهنرى، كما أنه منذ هذه اللحظة، سيكون هدف هنرى أن يستغل ما تبقى له فى الحياة فى عمل شىء جيد، ويكون هدف شارون أن تبحث عن هنرى لكى تعتذر له،لأنها ضربت زمنا غير صحيح لموعد وفاته، تحت تأثير غضبها منه.يتجه هنرى أولا الى مكتب أخيه القزم أورون ألتمان، يسأله هنرى عن أفضل وسيلة لقضاء آخر ساعة ونصف فى حياته، يسخر بعض الحاضرينمن الفكرة، ولكنهم يتحدثون على العائلة، يقترح أحدهم أن يعود هنرى الى بيته كى يمارس الحب مع زوجته بيتللمرة الأخيرة.
فى مشهد جيد وظريف، يطلب هنرى من جاره أن يغادر البيت فورا لأنه يريد أن يمارس الحب مع بيت، الجار مندهش، وبيتتحتج لأنها ليست آلة ، ولأنه أهملها منذ سنوات، تعترف أنها تقيم علاقة مع الجار، يخرج هنرى غاضبا، يتصل بابنه تومى، يرفض الابن الرد، نعرف أن هنرى غضب من ابنه لأنه لم يعمل معه فى مكتبه للمحاماة، اختار تومى أن يمارس الرقص بعد أن درس القانون، نعرفلأول مرة أن هنرى تغير تماما، أصبح غريب التصرفات بعد وفاة ابنه الآخر بيتر فى حادثة للصيد منذ عامين.
إضطراب وتخبط
يبدو الفيلممتماسكا الى حد ما حتى بعد أن تنجح الطبيبة شارون فى الوصول الى الأخ آرون والزوجة بيتى، يعرفان منها خطورة حالة هنرى ، وضرورة عودته الى المستشفى للعلاج، فى الوقت الذى يشترى فيه هنرى كاميرا لكى يسجل رسالة لابنه تومى الذى لايرد على تليفوناته، مع أن هنرى كان يمكن أن يذهب الى مكان التدريب على الرقص بنفسه، فى مشهد بديع يقف هنرى أمام الكاميرا التى يديرها أحد المتشردين، يقول إن الغضب هو الشىء الوحيد الذى تبقى له، هو الدرع الذى يستخدمه فى مواجهة كوارث الحياة، من الواضح أنه غاضب بسبب وفاة ابنه بيتر، يبكى هنرى وينهار، يتوجه الى حيث مطعم أمر سكرتيرته بأن تدعو فيه 25 شخصيا يعرفهم لكى يودعهم، لايجد إلا واحدا فقط من أصدقاء الماضى، لايعرف هذا الصديق سوى التهام الطعام، ولايتذكر سوى أن هنرى فى خطف منه حبيبة عمره، عندما كانا فى المرحلة الثانوية، تكون هذه فرصة لكى يواصل هنرى الغضب والثورة.
فى مشهد غريب، نجد شاورن وقد توصلت بدون مقدمات الى المتشرد الذى صوّر هنرى، ترشوالمتشردبإعطائة حبوبامسكنة ومخدرة، يقول لها إن هنرى سينتحر من فوق الجسر، مصادفة عجيبة، والأعجب منها أن تجد شارون هنرى واقفا ومستعدا للإنتحار، يتناقض هذا التصرف تماما مع حرص هنرى على الحياة لآخر ثانية، وحرصه أكثر على أن يترك ذكرى سعيدة قبل مغادرة الحياة.
ترتبك الخيوط تماما عندما يلقى هنرى بنفسه فى الماء فتنقذه شارون ! يعلق الراوى محاولا إخراج الفيلم من مأزقه، يقول الراوى إن هنرى اكتشف قيمة الحياة عندما ألقى نفسة فى الماء! يزيد الإرتباك مع صدفة جديدة لإطالة زمن الفيلم بأن تركب شاورن وهنرى سيارة تاكسى يقودها السائق القادم من أوزباكستان، والذى تصادم مع هنرى فى أول الفيلم، محاولة مجانية للإضحاك تنتهى بمعركة، ثم سرقة هنرى وشارون لسيارة التاكسى.
كان واضحا أن السيناريو لم يستطع ضبط المفارقات وفقا لوقت محدود هو ساعة ونصف الساعة فقط، يسابق فيها هنرى الزمن لترك ذكرى جيدة وسارة، استهلك الفيلم كل الحيل والألاعيب. ببساطة شديدة، جاء حل المأزق، عندما ذهب هنرى مباشرةالى مكان التدريب على الرقص الذى يتردد عليه ابنه، هناك يتصالح مع تومى، ثم تنضم إليهما شارون وآرون والزوجة بيت، تستعيد العائلة الأمركية تماسكها، ويحقق هنرى حلمه فى أن يعتذر لأسرته.
نعرف أن هنرى لم يمت إلا بعد ثمانية أيام، خلالها أنسجمت علاقاته مع نفسه ومع الآخرين، لم يعد يغضب، فى المشهد الأخير، تقوم العائلة بإلقاء رماد هنرى فى الماء، ينسون نصائحهم لهنرى بعدم الغضب، فيثورون هم ويغضبون عندما يتساءل قبطان الباخرة عمن أعطاهم الحق فى أن ينثروا رماد رجل ميت فوق سفينته.
الفيلم كله هو أداء روبين ويليامز خاصة مع تواضع أداء جميع الممثلين الآخرين، يضحكنا ويليامز من الأعماق فى غضبه،وفى تقليده لرجل يتعثر فى النطق اشترى منه الكاميرا لتصوير نفسه، وفى رغبته فى مضاجعة زوجته، رغم وجود أحد الجيران، وفى تأفف هنرى من كل شىء، ومن أى شىء يحيط به، ثم تنفجر أحزانه وهو يحكى عن فقدانه لابنه بيتر، وعن قناع الغضب الذى يتحدى به الحياة، حتى الطريقة التى يقول بها هنرى إنه سعيد فى أول الفيلم، يكذبها تعبير وجه روبين وليامز الذى يبدو وكأنه على وشك البكاء ، من العجيب فعلا أن يغادرنا ويليامز مستغينا عن الحياة، بينما يترك فيلما فى حب الحياة، لعلها إحدى نكاته الساخرة الموجعة، أو ربما كانت إحدى نكات الحياة العابثة التى لا نفهمها.