“دعاء..عزيزة”.. وطن للعاطفة ووطن للتحقّق!

يمتلك الفيلم الوثائقى “دعاء.. عزيزة”، الذي أخرجه وصّوره وأنتجه وكتب له السيناريو المخرج المصرى سعد هنداوى، سحره الخاص. ينبع هذا السحر تحديدا من بنائه المتماسك الذى يقوم على الجدل، واكتشاف الدراما فى حكايات الواقع، ومن أسئلته المفتوحة الهامة: هل الوطن مجرد مكان يسكن عواطفنا لارتباطه بالأهل والأصدقاء أم أنه المكان الذى نتحقق فيه ونجد أنفسنا؟ هل نتوقف وننتظر أم نغامر ونجرب مهما كانت النتائج؟ وهل نعيش فى الوطن أم أنه هو الذى يعيش فينا ؟ وكيف يمكن أن يتكيف الإنسان مع مجتمع مختلف عنه ثقافيا وحضاريا؟

خلال 88 دقيقة لا تترك الكاميرا سواء فى القاهرة أو باريس بنتين مختلفتين من مصر، الثقافة فرنسية، والهوية مصرية، شخصيتان مستقلتان قررتا أن تخوضا تجربة مزدوجة، الاثنتان صديقتان، الزمان عام 2005، والهدف هو البحث عن التحقق : دعاء عبد الرازق (25 سنة) قررت أن تترك أسرتها المصرية المهاجرة الى باريس، وأن تعود لتعيش فى القاهرة، كانت تنزعج وهى صغيرة من الحر والناس، ولكنها فجأة أحست بالحنين الى وطنها الأم، اختارت أن تعمل مذيعة فى الخدمة الفرنسية لمحطة نايل تى فى، أما صديقتها عزيزة واصف (30 سنة) فقد اختارت العكس، كانت تعمل فى نايل تى فى، أصابها الزهق من الفساد ومن التضييق على حريتها كمذيعة، لم تعد قادرة على التكيف مع فوضى المصريين وحياتهم العشوائية، تغيرت مصر التى عرفتها فى سنواتها العشر الأولى الى الأسوأ، فشلت حتى فى العثور على الحب، قررت أن تذهب الى باريس لتعمل، الحياة بكرامة وبنظام رغم صعوبتها أفضل جدا.

صراع وأحلام

هاتان البطلتان هما محور البناء الذى يقوم على تبادل القطع بين كلام دعاء وفضفضة عزيزة، بين باريس والقاهرة، نهر السين ونهر النيل، تجتمعان مرة فى فرنسا وأخرى فى القاهرة، ينتهى الجزء الأولى وقد انقسمت الشاشة بينهما، يسيران فى طريقين متعاكسين، وفى الجزء الثانى يواصل سعد هنداوى متابعة رحلة دعاء وعزيزة بين عامى 2011 و 2012، عزيزة أصبحت مذيعة فى قناة فرنسا 24، ودعاء ما زالت فى نايل تى فى، سبع سنوات عجاف، بدأت بثورة فردية، وانتهت بثورة يناير، وما زالت أسئلة الوطن معلّقة وصعبة، هكذا يتحقق البناء المتماسك، الذكى والمؤثر.

منح ذلك فيلمنا إيقاعا مشدودا متوترا خصوصا مع ثراء النموذجين اللذين تم اختيارهما: تبدو عزيزة أكثر نضجا واستقلالية، تكاد على الأقل تعرف ما لاتريد، بينما لا تعرف دعاء ما تريد، عزيزة أمها مجرية ووالدها مصرى، الأب مقتنع بأن حال البلد لا يسمح لفتاة مختلفة مثل ابنته بأن تعيش فى مصر، أمها مرتبطة أكثر بمصر، تتحدث عن تاريخها، قالت لعزيزة إن البلد المريضة كالأم المريضة، لا يجب أن تتركها ابنتها مهما كانت الظروف، عزيزة عقلانية، فى حديثها مرارة، تبكى عندما تتذكر ساعات وداع أسرتها، تماسك الأب حتى اللحظات الأخيرة، ثم بدأ يتكلم عن عمره الكبير، واحتمال وفاته، عاملتها الأم بجفاء حتى تتحمل غيابها.

مشكلة عزيزة ودعاء فى ازدواجية واضحة جدا استغلها هنداوى ببراعة لخلق جدل وصراع داخلى وخارجى لا يتوقف، لدى الاثنتين وطن للذكرى والعواطف، ووطن آخر للتحقق مهنيا وإنسانيا، فى الحالة الطبيعية فإن وطن الذكريات يُفترضْ أيضا أن يكون وطن التحقق، دعاء تعود الى باريس فى زيارة، تبدو شخصية حالمة وأقل نضجا من عزيزة، الأب وافق على عودتها الى الوطن، الأم المصرية تتساءل فى استنكار :” هوة فيه حد يرجع مصر؟!!!”، شقيق دعاء الشاب الذى يتحدث معظم كلامه بالفرنسية لا يريد أن يقلّدها، يتهمها بأنها عادت لتبحث عن عريس مثل كل المصريات.

دموع وضحكات

ترتبط الرحلة العكسية بين دعاء وعزيزة، من والى الوطن، ببداية العد التنازلى لنظام مبارك الذى تحلل بسبب الفساد، ولكنها ترتبط أيضا بشخصيتين مستقلتين تربتا على الثقافة الفرنسية، تظهر أيضا الطبيعة الأنثوية شديدة الحساسية وخصوصا فيما يتعلق عن استعادة وطن الذكريات، عزيزة تقول إنها مختلفة تماما عن مجتمعها المصرى، نصفها أوربى بالفعل، ولكنها سرعان ما تعترف بأنها لا تقبل أبدا بأن يسئ أحد الى وطنها وهى فى الغربة :” فى الحالة دى ممكن آكله بسنانى”، دعاء التى تكاد تبحث عن شئ  غامض لا تستطيع أن تمسكه بيديها فى مصر، تعود الى وطن الذكريات فى فرنسا، عندما تقابل إحدى صديقات المدرسة الفرنسيات بعد عشر سنوات فى باريس، تضحك من قلبها، وتعترف بأنها تتعارك مع سائقى التاكسى فى مصر، وتشتبك معكل الناس تقريبا منذ استقرارها فى القاهرة.

نحن إذن أمام دراسة حالة إنسانية تختبر قدرة الفرد على الإختيار بين وطن الذكريات ووطن التحقق، لم يحسم الفيلم ولا شخصياته هذا الصراع، فى أحد أجمل مشاهد الفيلم/ تجتمع عزيزة ودعاء فى القاهرة عام 2005 مع صديقتهما المذيعة ريم ماجد ( المذيعة المعروفة حاليا التى انتقلت الى البث  باللغة العربية من أجل التحقق أيضا ولكن فى نفس الوطن)، بعد عاصفة من الضحك، تنهمر الدموع من عينى دعاء وعزيزة، كان الإختيار صعبا وسيظل حتى النهاية، الاثنتان فى مأزق رغم الطريق المعاكس الذى يجسده مشهد بديع آخر: فى باريس، مترو الأنفاق، دعاء على رصيف، عزيزة على الرصيف الأخر، تتبادلان كلمات الوداع، تستقل كل واحدة قطارا، القطاران يتحركان فى اتجاه معاكس، مشهد جدير بفيلم كبير.

فى الجزء الثانى من الفيلم، يستمر الصراع أيضا، بدت علامات التقدم فى العمر على دعاء وعزيزة، حققتا بعض التحقق، والكثير من خبرة الحياة، عزيزة أصبحت أكثر أناقة وهدوءا، مذيعة محترفة فى محطة فضائية تبث بالعربية من فرنسا، تقول بعد كل هذه السنوات إن إقامتها فى فرنسا صالحتها على مصر، لم تعد الآن تأخذ موقفا من بلدها، ولكنها أصبحت ضد الصفات التى ترفضها كالغباء والتعصب، ورغم أنها تتذكر وسط الدموع الرجل الفرنسى العجوز الذى عملت معه  عند وصولها، والذى منحها فرصة العمل والسكن، إلا أنها تتحدث أيضا عن فخرها بوطن الذكريات، خصوصا بعد ثورة يناير، لايترك هنداوى الفرصة، يقدم صديقتين لعزيزة فى باريس لديهما نفس الإزدواجية: وطن للذكريات ( فى الخلفية صوت فيروز يصدح : خدنى على بلادى) وآخر للتحقق، إحداهما لبنانية تفزعها ذكريات الحرب الأهلية، والثانية من عرب 48، تنزل دموعها عندما تتذكر أن شقيقها هو الذى طلب منها السفر بعيدا عن وطن تشعر فيه بالإغتراب.

المعنى والجدوى

فى القاهرة، تبدو دعاء أكثر رشاقة، حققت بعض التقدم المهنى مما أتاح لها فرصة تغطية فعاليات مهرجان كان لمحطتها المصرية، ولكن دعاء ما زالت مرتبكة وأقل ثباتا، تعترف أنها تشعر أحيانا بأنها أضاعت وقتها بالعودة الى مصر، مازالت تسأل نفسها عن معنى وجدوى ما فعلته، تعترف أيضا أنها تتمنى أن تعمل فى فرنسا كمذيعة أخبار بالفرنسية، فى عينيها معاناة، وفى دموعها بصمات التجربة الشاقة.

لم تخل رحلة دعاء من فائدة، حضرت وقائع ثورة يناير، تقول إنها نزلت الى الميدان، نراها وسط العشرات حيث يظهر العلم المصرى بألوانه، هذا شئ نادر يمكن أن تحكيه لأولادها وأحفادها، كانت عزيزة تتهمها بأنها عادت بحثا عن عريس، تنفى دعاء ذلك بشدة، بينما نستنتج أن حلمها بالزواج لم يتحقق لا فى باريس ولا فى القاهرة، ولكن مقتطفات كتبتها دعاء الفرنسية تثبت أنها تغيرت، فى عام 2005 كانت نظرتها رومانسية الى مصر التى تمتلك “عطر الشرق”، فى مقتطفات 2011 حديث عن الصبر وعن أهمية أن تكتشف نفسك وقدراتك، نسمع صوت المخرج وهو يسألها: “الدنيا ما بتدّيش كل حاجة يا دعاء؟”، توافق على الفور، ويبدو أنها حكمة الحصاد الأخير لرحلتها وتجربتها واختيارها.

يحقق الفيلم تأثيره بالدرجة الأولى بسبب التلقائية والحيوية التى تملكها دعاء وعزيزة، تكاد تشعر أنهما اعتبرتا الكاميرا مرآة للفضفضة ومواجهة الذات، لايمكن بالطبع إغفال أسئلة هنداوى وبراعته مع المونتيرة رباب عبد اللطيف فى بناء الفيلم، واختيار تلك اللحظات الإنسانية العذبة، وتلك الإنتقالات الذكية ما بين عاصمة وأخرى، وما بين فتاة رومانسية وأخرى براجماتية، أصبح التحق الإنسانى فى حالة جدل مع فكرة وطن الذكريات، من هذه الزاوية،لاتستغرب أن يكون  لدينا أم مجرية تحققت أكثر انتماء الى مصر من أم مصرية هاجرت الى فرنسا لأنها لم تتحقق.  

رغم تباين جودة الصورة ووضوح الصوت بالذات فى مشاهد باريس، إلا أن الفيلم صنع حالة مدهشة من الشجن، وجمع بسلاسة بين الضحك والدموع، لم يغلق الأقواس ولم يعط جوابا نهائيا عن أى سؤال، اكتفى بنقل الصراع وحيرة الشخصيتين، وتركنا نسأل نفس سؤالهما: هل يمكن أن نترك وطن الذكريات من أجل وطن التحقق؟ وهل يمكن أن نقبل ثمن ذلك؟

التقط مؤلف الموسيقى التصويرية تامر كروان جوهر الفكرة: على إيقاعات شرقية تمثل هوية دعاء وعزيزة، نسمع صوت الأكورديون (ذكريات باريس)، وصوت العود (ذكريات القاهرة)، الجدل والصراع انتقل أيضا الى الموسيقى، فى بعض مناطق الحوار بين دعاء وعزيزة فى شوارع باريس، تطغى الموسيقى على الكلمات، وكأنها تذكرنا بالصراع الذى لن يتوقف: عزيزة فى انتظار طفلها الأول من زوجها الفرنسى، ولكنها ما زالت تحن الى دفء وفضول المصريين، ودعاء تكاد ترى نفسها فاشلة ولم تتقدم، ولكنها فخورة بالثورة، وقد تعود لتغزو باريس كمذيعة بالفرنسية، مازالت كما يبدو لا تستطيع القراءة والكتابة باللغة العربية.

فيلم “دعاء.. عزيزة” يقدم نموذجين للمرأة المصرية الجديدة، قد تكونان أكثر حيرة واغترابا، ولكنهما بالتأكيد أكثر حيوية وشعورا بالإستقلالية ، كما أنهما أكثر قدرة على الإختيار، يكفى الفيلم البديع طرح الأسئلة، ونقل الحالة والأزمة، ويكفيه انحيازه الواضح لحق الإنسان فى أن يجرب ويختار، وفى أن يكتشف نفسه والآخرين، وأن يتساءل عن معنى هذا المكان الذى يسمونه الوطن. 

Visited 68 times, 1 visit(s) today