حيوانات ليلية: توني وسوزان وما بينهما
هناك أفلام يجب تركها لتختمر قبل الكتابة عنها، لكن هناك أفلام تجعل المشاهد ممسوساً بها، تؤرقه منذ يغادر قاعة السينما حتى يستيقظ من النوم في اليوم التالي ليجد نفسه مازال يفكر فيها. فيلم “حيوانات ليلية” Nocturnal Animals للمخرج/مصمم الأزياء الأمريكي البارع توم فورد من النوع الثاني، تتضح فيه جيداً رغبة فورد الانتقامية من كل ما تمثله الطبقة اليمينية المحافظة الأمريكية، والتي انتمى إليها فورد ابن الجنوب الأمريكي المترف بشكل أو بآخر. في المشهد الذي تقابل فيه سوزان أمها –قامت الممثلة لورا ليني بأداء دورها ببراعة كانت تستأهل عليها ترشيحاً لإحدى جوائز التمثيل- تبدو ذروة نقمته على هذه الطبقة المتعالية، المتحفظة، الواثقة من رفعتها وسموها، ثقة آرية لكونها الأفضل مما يعطيها الأحقية في تقييم البشر على درجات من الأقل جودة للأكثر جودة، بحسب معايير اعتمدتها هي ولا جماعة سواها.
في صناعته عملاً سينمائياً تم بناءه على عمل أدبي وهي رواية “توني وسوزان” قليلة الشهرة للكاتب الأمريكي أوستين رايت، يأخذ توم فورد مقعد المشاهد بينما يضع بطلته سوزان في مأزق مرعب من تضارب وجهات النظر. فورد هنا هو إدوارد، زوج سوزان السابق، والذي تعيش هي بعقدة الذنب منذ تطلقا بعد أن خانته مع رجل آخر أكثر وسامة وطموحاً. في أحد الصباحات، تستيقظ سوزان على طرد قادم عبارة عن مسودة رواية ألفها إدوارد بعنوان “حيوانات ليلية” وأهداها إليها. فيما يقرب من ساعتين، يأخذنا فورد في رحلة من الهلع، بينما سوزان تلتهم الرواية بحثاً عن نفسها بين سطورها.
يتخذ الفيلم خطيّ سرد متوازيين؛ خط سوزان التي تقرأ الرواية وخط الرواية نفسها بينما تدور في عقل سوزان وليس فقط على صفحات المسودة. فكما قال الكاتب المسرحي الأمريكي والمخرج أرثر لورانس “ليس هناك اثنان شاهدا نفس الفيلم”، تلقِّي سوزان للرواية سيختلف كلياً عن قارئ آخر ليس لديه نفس التاريخ الملتبس مع كاتبها.
التفتيش في أغوار النفس
بدأت سوزان بالتفتيش عن نفسها في الرواية، لذا جاء اختيار الممثلة آيلا فيشر موفقاً للغاية في دور زوجة توني بالرواية نظراً للشبه الكبير بينها وبين البطلة الرئيسية إيمي آدامز. تخيلت بديهياً أن إدوارد كتبها على هيئة الزوجة، وكانت مفاجأتها القاسية عند موت الزوجة والابنة –بلوني شعريهما شديد القرب من لون شعرها- بأبشع ميتة في مستهل الرواية.
مع استمرار القراءة، تتضح الأمور ببطء؛ إدوارد لم يكتب سوزان في شخصية واحدة من تلك النسوة اللاتي لاقين الموت والهوان، لقد كتبها على هيئة توني، ذلك المتخاذل، الرجل المثالي الذي آثر الحياة على الموت، ولم يعرف كيف يحمي من حوله، ولا حتى حماية نفسه. إنه الجبان، الذي يحمل الموت لمن حوله، فقط لأنه لم يتجاسر على الإتيان برد فعل إيجابي، هو سوزان في الحقيقة، أو الحقيقة من منظور إدوارد أيضاً، فمن خلال الرواية، ومتابعتنا لإدوارد نرى الكيفية التي رأى بها سوزان، وليس حقيقة سوزان.
بينما يتشاجران ذات مرة، تستفز سوزان إدوارد متسائلة “ألا تستطيع أن تكتب عن أحد غير نفسك؟” فيفاجأها إدوارد بعد 19 عاماً بأنه كتب عنها، ربما عنهما، في مكان وزمان وظروف أخرى، تاركاً للمشاهد العنان بتأويل كل عنصر من عناصر الرواية حسب ما رآه إدوارد في حياته الفاشلة مع سوزان؛ هل مقتل الزوجة والابنة هو مقتل قصة حبهما؟ هل تخلي توني عن عائلته هو تخلي سوزان عن زوجها في أشد حالاته احتياجاً لها؟ هل سوزان هي من ساعدت إدوارد بقسوتها لتخرج منه تلك التجربة الإبداعية أم أنها مجرد امرأة خائنة أعادت ارتداء شخصية أمها التي تنبذ الضعف وتحتقره في تنفيذ ربما لنبوءتها بأن “كلنا نصبح أمهاتنا في نهاية الأمر”؟
الضعف الانساني
يلعب توم فورد هنا على أكثر من وتر رئيسي، أولهما وجهة النظر، ليس هناك وجهة نظر محايدة في “حيوانات ليلية”، ماضي سوزان نراه من وجهة نظرها، والقصة التي كتبت على يد إدوارد نراها أيضاً من وجهة نظرها، هي التي تتخيل شكل البطل مماثل لإدوارد، وهي التي افترضت شبه زوجته بها، وهي التي رأت الرعاع الذين أحالوا حياة توني جحيماً بهذا الشكل. هو أيضاً يحاول تفكيك مفهوم الضعف الانساني عن طريق نظرة سوزان لإدوارد بينما تتزوجه، ونظرتها لأخيها كوبر الذي تم نبذه من عائلته لاعترافه بمثليته الجنسية، أو حتى نظرة إدوارد نفسه لسوزان بينما أهداها الكتاب، ونظرته العنيفة والتعيسة لعلاقتهما التي فجرت إبداعه بأبشع صورة ممكنة.
نرى سوزان عالقة ما بين عالمين عن طريق ملابسها؛ الماكياج والملابس ذات الألوان الحادة في عالمها المخملي الجديد الذي لا تحاول هي حتى أن تكون سعيدة به، وشعرها المبعثر مع وجهها الخالي من الماكياج –مما ترك مساحة لدفء ملامح إيمي آدامز بالطغيان على المشاهد- إبان وقتها مع إدوارد ومحاولتها التمرد على خلفيتها البرجوازية المترفة، لتجرب أن تعيش حياة الفنان العادية، ولا تطمح لما هو أكثر.
عن العري والتطهر
تمكُّن فورد من أدواته كمخرج يتجلى أيضاً في الاستخدام الذكي للعري في هذا الفيلم. هذا المخرج الذي وصِف كمصمم أزياء بـ”ملك الجنس” وتم منع أكثر من إعلان من حملات منتجاته الإعلانية لاستخدامه صوراً ومجسمات للأجساد العارية النسائية والذكورية دون مواراة أو تمييز في “الاستغلال الجنسي لأجساد الذكور والنساء سواء” على حد تعبيره شخصياً، لم يتعد استخدامه للعري الصادم أكثر من مشهد الافتتاحية والذي عبر فيه فورد –حسب تصريحه لمجلة Vulture– أن هاته النسوة بأجسادهن العارية الضخمة يمثلن نظرته لأمريكا المعاصرة. المشهد على غرابته، قد يوضح مدى تردي حالة البطلة سوزان في حياتها، فهي محصورة بين هاته الأجساد العارية غير المتكاملة، فتبدو كئيبة تعيسة في جمالها وأناقتها على انطلاق وحرية هاته النسوة العاريات غير العابئات برأي المجتمع فيهن بينما سوزان سجينة رأي المجتمع ورأي نفسها حتى فيما تفعله بحياتها، حتى تلتهمها هذه الأفكار على هيئة الرواية، الهدية المخيفة التي تأتيها في أسوأ توقيت ممكن فتصبح الكرة الحديدية التي تشدها للقاع.
في أكثر من مشهد، يسخر فورد في “حيوانات ليلية” من التطهر كهاجس ديني عن طريق الاستحمام أو غمر الجسد بأكمله تحت الماء فيما يشبه التعميد أو الوضوء. كأنما هو يخبرنا بأن محاولات التطهير الدينية لا تمحي الخطايا حقاً، سوزان في حمامها الفاخر، وتوني أسفل الدش في الموتيل الحقير الذي يستقر به بعد الحادث المروع، يحاولان الاغتسال من ذنوبهما؛ الخيبة، التخلي، الجبن، الضعف –لكن شيئاً لا يصبح أفضل.