حول مشكلة لغة الحوار الفيلم المغربي
على هامش الدورة الـ 22 من مهرجان تطوان السينمائي الذي أقيم مؤخرا في المدينة الجميلة الواقعة في أقصى الشمال المغربي، نظم المهرجان ندوة بعنوان “السينما المغربية وقضايا اللغة”، شارك فيها لفيف من نقاد السينما. وكانت أهم المداخلات الرئيسية تلك التي شارك بها الناقد المغربي محمد أشويكة بعنوان “الخطاب الشفهي في السينما المغربية، الحوار نموذجا”. وقد شرح الناقد موضوع التشابك اللغوي في الأفلام المغربية، بين العربية الدارجة المغربية والفرنسية والإسبانية والأمازيغية. وانحاز إلى “لغة السينما” أو ما يطلق عليه “لغة الصورة” على حساب لغة الكلام، ليخلص إلى أن الحل يكمن في تغليب الصورة على الحوار.
من المقولات التي تتردد بكثرة في النقد السينمائي العربي، أن السينما صورة، وأن الحوار دخيل عليها بل مستمد أصلا من المسرح، بينما الحقيقة أن السينما صوت وصورة، وأن الحوار جزء أساسي من شريط الصوت في أي فيلم، إلى جانب الموسيقى والمؤثرات المباشرة (أصوات وقع الأقدام، وحفيف الثياب وصرير الأبواب وتدفق المياه في البحار أو صوت قطراتها من الصنبور وغير ذلك). وكان صناع الفيلم الصامت يستخدمون لوحات يكتبون عليها بعض كلمات الحوار التي تساعد المشاهدين في الربط بين أجزاء الفيلم وتوضيح مغزاه، وهو ما يؤكد وجود قصور طبيعي كامن في الفيلم الصامت، يجعله عاجزا عن تحقيق الفكرة الأساسية في الفيلم الروائي وهي أنه “فن الإيهام بالواقع”، فغياب الصوت عموما، والحوار بوجه خاص، يفقد الفيلم قدرته على الإقناع، أي القدرة على محاكاة الواقع.
والمشكلة أن الإيهام بالواقع عن طريق استخدام الحوار بما يتطابق إلى حد ما، مع الطريقة التي يتكلم بها غالبية الناس في المغرب، أي باستخدام لغة هجينة من العربية المغربية الدارجة، والفرنسية، والأمازيغية، إذا ما استبعدنا الإسبانية التي لا أتصور أن سكان جنوب المغرب مثلا يعرفونها، يخلق في حد ذاته مشكلة من نوع آخر أمام السينما المغربية، وهي مشكلة في الداخل والخارج، كما أنها تتجاوز السينما ولغة السياق الفيلمي، فهي أساسا، مشكلة ثقافية تتعلق بموضوع الثقافة السائدة، وحسم قضية “اللغة” التي هي أساس الهوية الثقافية لأي شعب. هنا لا يكون مفيدا الهجوم على استخدام الفرنسية في الأفلام، واعتبار استخدامها خضوعا للهيمنة الثقافية الفرنسية. ربما يكون هذا القول صحيحا على الصعيد النظري، لكن المشكلة تكمن في أعماق المجتمع المغربي في علاقته بلغته الأساسية: سواء العربية عند العرب، أو الأمازيغية عند الأمازيغ، أو مزيج منهما عند الطرفين. هنا لابد أن يكون نظام التعليم أيضا مسؤولا بشكل مباشر عن هذه الهيمنة الواضحة للغة الفرنسية، خصوصا كلغة للمثقفين المغاربة على الأقل، يفضلون الحديث بها وكتابة أطروحاتهم ومعظم مقالاتهم بها. تشهد على ذلك ما تنشره مجلات السينما المغربية مثل مجلة “وشمة” التي تصدر عن جمعية أصدقاء السينما بتطوان، فالقسم الفرنسي منها يبلغ ثلاثة أضعاف القسم العربي، كما يتميز بدراساته النظرية، بينما تغلب على القسم العربي مراجعات الأفلام. والأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة لمجلة “الدراسات السينمائية” التي تصدرها جمعية نقاد السينما في المغرب.
إذا كان الأمر كذلك، أي أن هناك مشكلة لغوية قائمة في الشارع المغربي، فكيف يمكننا أن نشكو من مشكلة لغوية في الأفلام خصوصا إذا كنا على قناعة بأن الأفلام إنما هي نتاج للواقع، فهي لا تصنع من فراغ، وليس من الممكن أن نطالب صناع الأفلام بما لا يمتلكونه، كما ليس من الممكن مثلا أن نطالبهم بتبني اللغة العربية الفصحى وهو إن حدث، وقد حدث في بعض التجارب من قبل، فلن يساهم سوى في زيادة حدة المشكلة وتعقيداتها.
ولعل من الجوانب الجديرة بالانتباه في هذا المضمار فكرة توزيع الفيلم المغربي خارج بلاده، وخصوصا في المشرق العربي: في السوق المصرية تحديدا، وهو الهاجس المسيطر كثيرا منذ عدة عقود، على صناع الأفلام في بلدان المغرب العربي بشكل عام. والسؤال المتكرر على مدار السنين هو: لماذا تعرض الأفلام المصرية في بلدان المغرب العربي بينما لا تعرض الأفلام المغربية أو المغاربية في مصر؟ وهو سؤال يبدو من الظاهر وجيها، إلا أنه يتجاهل مسألة أساسية لا تتعلق كما يردد البعض بصعوبة اللهجة المغربية، بل بتعدد اللغات داخل الفيلم المغربي والمغاربي عموما كما أسلفنا، وأصحاب فكرة “القطيعة” التي يفرضها المصريون يتجاهلون أن المصريين لا يتابعون الأفلام الناطقة بالانجليزية والفرنسية والاسبانية إلا من خلال الترجمة العربية (الفصحى) المطبوعة على الشريط نفسه. وكانت مصر قد أصدرت قانونا عام 1936 (أي بعد سنوات قليلة من ظهور الفيلم الناطق) يفرض على شركات توزيع الفيلم الأجنبي في مصر طبع ترجمة عربية على الأفلام التي تقوم بتوزيعها. في هذه الحالة لا يصبح هناك مبرر لتلك الحساسية الشديدة التي تنشأ كلما اقترح أحد ترجمة حوار أفلام المغرب العربي الى اللغة العربية (الفصحى في هذه الحالة كما يحدث مع كل الأفلام الأجنبية). صحيح أن الفيلم المغربي ليس “أجنبيا” وهي النقطة التي تثير الكثير من الحساسية بل والغضب المفهوم لدى قطاعات واسعة من المثقفين والسينمائيين المغاربة، الذين يتساءلون: لماذا نشاهد نحن أفلامكم ونفهمها بينما لا تريدون أنتم بذل جهد لاعتياد التعامل مع أفلامنا وفهمها؟
إلا أن هذا السؤال الذي يبدو أيضا من السطح، منطقيا ومقبولا يجب أن يواجه الواقع الذي يؤكد لنا أن الفيلم المغاربي لا يعتمد فقط – كما سبق أن أوضحنا- على اللهجة الدارجة التي ربما يمكن للمشاهد المصري وغيره أن يعتاد عليها أو يفهمها في حالة توفر هذه الأفلام للعرض العام بشكل مستمر، بحيث تصنع تراكما لغويا يعتاده المشاهد غير المغاربي عموما، لكن المشكلة التي ستعود لتفرض نفسها أن الغالبية العظمى من هذه الأفلام هي أفلام “متعددة اللغات” فماذا يفعل الجمهور المصري أمام الفرنسية أو الاسبانية أو الأمازيغية، هل المطلوب منه أيضا تعلم هذه اللغات لمشاهدة الأفلام المغاربية؟!
ويمكن الجزم بأنه حتى لو ترجمت أفلام المغرب العربي الى العربية فلن يتمكن الموزع من توزيعها في السوق المصرية التي أصبحت سوقا طاردة، لا ترحب بالفيلم الأجنبي عموما، باستثناء الفيلم الأمريكي الهوليوودي التقليدي الذي يطغى ويهيمن تماما على سوق التوزيع في مصر وغيرها بل وفي المغرب العربي أيضا، الذي تقلص اهتمامه كثيرا – بالمناسبة- بتوزيع الفيلم المصري بعد أن أصبحت الأفلام تشاهد على شاشات التليفزيون من خلال الفضائيات الكثيرة المتخصصة في عرض الأفلام، خاصة في ضوء الانحسار الكبير في عدد قاعات السينما.
المشكلة إذن تتعلق بمنظومة التوزيع السينمائي، التي جعلت من المستحيل المغامرة بتوزيع فيلم إيطالي أو برتغالي أو دنماركي أو ياباني في السوق العربية عموما، بما في ذلك الأفلام التي تفوز بأرفع الجوائز الدولية. فقد أصبحت مشاهدة مثل هذه الأفلام لا تتوفر سوى من خلال المهرجانات السينمائية التي تغشى عروضها نخبة محدودة العدد من المهتمين، وهي نخبة تقلصت في عددها أيضا بعد انتشار قرصنة الأفلام عبر شبكة الانترنت بكل يسر وسهولة، ومشاهدتها على شاشة الكومبيوتر.
المشكلة بعد هذا كله لاتزال مستمرة، وسوف يستمر الجدل حولها قائما، طالما ظلت المشكلة الثقافية الأساسية قائمة.