حول فيلم “أوضة الفيران”: عندما تغيب أسباب المشاهدة!

في محاوراته مع الناقد هاشم النحاس وصف المخرج الكبير صلاح أبو سيف فيلم “سنة أولى حب” بأنه تجربة فاشلة، وقال أنه ندم على المشاركة في الفكرة التي بدت لأول وهلة برّاقة: حكاية واحدة يخرجها خمسة من أكبر مخرجي مصر، ليتضح في النهاية أنها مجرد طريق آخر مفروش بالنوايا الحسنة. الخطيئة المذكورة وقع فيها كل من كمال الشيخ ونيازي مصطفى وعاطف سالم وحلمي رفلة مع أبو سيف، فكانت النتيجة محبطة، فما بالك إذا ما أقدم عليها من يقلون خبرة وحرفة، ولن أقول موهبة!

أتحدث هنا عن فيلم “أوضة الفيران”، الذي عُرض في مهرجان دبي السينمائي ثم في مهرجان الأقصر الثالث للسينما الأفريقية، والذي أظن أنه سيجد صعوبة بالغة في عرضه جماهيريا لأسباب سأتطرق لها بالتفصيل. الفيلم الذي قام بإخراجه ستة من مخرجي الإسكندرية الشباب، هم أحمد مجدي مرسي، محمد الحديدي، محمد زيدان، مي زايد، نرمين سالم وهند بكر، ووصفته كل مواده الدعائية بأنه “أول فيلم سكندري مستقل”، والمقصود بالطبع هو أول فيلم طويل، فالإسكندرية كانت ولا تزال مركزا مهما للسينما المغايرة على صعيد الأفلام القصيرة.

الوصف من البداية يحمل خطأً منهجيا واضحا، فالإسكندرية ليست دولة مستقلة ينسب لها فيلم، وهذا التصنيف النوعي لا يقوم فقط بتجاهل كل التجارب السابقة لصناعة سينما خارج مركزية العاصمة، كتجارب سيد عيسى على سبيل المثال وحتى تجربة ابراهيم البطوط في “حاوي”، ولكنه أيضا يهدر حق العشرات من السينمائيين السكندريين الذين قاموا بإسهامات ضخمة يصعب حصرها في صعيد “الجزئية” التي يتغلب عليها صناع السينما الاسكندرية بهويتهم “الكلية”.

ولا أدري في الحقيقة المقياس الذي انتهجه صناع الفيلم في التأكد من كون جميع المشاركين في الفيلم سكندريين، وهل الأمر له علاقة بالإقامة مثلا؟ أو محل الميلاد؟ وماذا عن أبناء الجيل الثاني الذين نزحوا من الدلتا إلى الثغر؟ هل يمكن اعتبارهم فنانيين اسكندريين أيضا، أم هم ممنوعون بحكم عدم الطهارة العرقية من المشاركة في إعادة اكتشاف السينما السكندرية؟!

هذه التساؤلات ليست سخرية بالمناسبة، هي مجرد مد للخطوط على استقامتها، فالقاعدة الجدلية هي أنك لا تُلزم الشخص إلا بما ألزم به نفسه، وصناع الفيلم اختاروا وصف فيلمهم وتأطيره، وأنا أقوم فقط بمحاولة لفهم أبعاد هذا الإطار. لن أطيل في هذه النقطة كثيرا، فهي في النهاية مجرد ملاحظة شكلية. صحيح أنها ملاحظة كان لها الفضل الأكبر في الحصول على تمويل مراحل ما بعد الإنتاج للفيلم ـ هل أموال الخليج بالمناسبة سكندرية هي الأخرى؟ ـ وفي الترويج للفيلم باعتباره حدثا إنتاجيا بعيدا عن محتواه، لكنه يبقى أمرا يمكن تجاوزه بسهولة، واعتباره حيلة دعائية أخرى، لتبقى التساؤلات الأهم والأجدر بالطرح حول الفيلم نفسه، حول مضمونه وطريقة تنفيذه وما أفضت إليه النوايا الحسنة لصناعه.

فيلم واحد أم ستة أفلام؟

كل من درس علم السيناريو أو حاول كتابة فيلم أو حتى رواية، يعلم القاعدة التي تقول أن الجزء الأصعب في أي حكاية هو فصلها الثاني، فعادة ما يمتلك الكاتب فصله الأول والأخير، فيعلم كيف ستبدأ حكايته وعلى ماذا ستنتهي، ويبقى المحك الحقيقي هو المسافة الواقعة بينهما، وفيها تختبر موهبة مؤلف الفيلم ومخرجه. الحل الأسهل للتخلص من هذا المأزق هو ببساطة الاستغناء عن الفصل الثاني بأكمله، أو بعبارة أدق سرد أكثر من حكاية في نفس الوقت، فيتاح لكل منها حيز زمني أقل، وبالتالي لا تحتاج أكثر مما تملكه مسبقا “البداية والنهاية”، لتوضع هذه الحكايات بجوار بعضها معطية الشكل الزمني النهائي للفيلم الطويل.

هل معنى هذا أن كتابة سيناريو متعدد الحبكات أمر أسهل من كتابة حكاية واحدة ممتدة؟ بالطبع لا، فالكاتب في مقابل إزاحة حمل الفصل الثاني يكون عليه إيجاد إطار يبرر وجود قصصه معا، ومنح المشاهد مبررا لكونه يرى هذه الحكايات في فيلم واحد بدلا من أن يراها في عدة أفلام منفصلة. لا أتحدث هنا عن الشكل الهوليوودي للأمر بجعل كل الحكايات تتحدث عن فكرة واحدة مثلا، ولكن هناك خيارات أخرى كثيرة: الربط الزماني والمكاني والنفسي والعاطفي، أو أي خيار آخر يخلقه عقل المبدع ليعطي لما يصنعه معنى.

الأزمة في “أوضة الفيران” هو الغياب التام لهذا الرابط، على الشاشة تُعرض ستة أفلام روائية قصيرة، تم القطع بينها بمونتاج متوازي عشوائي، يضع بعض الحكايات في موضع الصدارة ويتجاهل حكايات أخرى حتى تنسى وجودها، ثم يغير ترتيب الاهتمام من جديد، دون أي سبب واضح للأهمية أو تعديل الأهمية، وهو اختبار أصلا يستحيل النجاح فيه، لأنه من غير الوارد أن تجد تراتبا منطقيا بين أجزاء لا يجمعها أي وحدة عضوية.

أعود هنا من جديد لتصدير المقال حول تجربة “سنة أولى حب”، التي ربما لا يعلم عنها صناع فيلمنا شيئا، ولكن يفترض بحكم انفتاحهم على السينما الحديثة حول العالم، أن يدركوا أن كل محاولات جمع عقول كثيرة لصنع منتج فني واحد ـ وليس عدة منتجات موضوعة في إطار واحد ـ قد باءت كلها تقريبا بالفشل، لا لسبب إلا لكون الإبداع فعلا فرديا بالأساس، وليد خيال صاحبه ورؤيته وموهبته ووجهة نظرة في الحياة وحتى ذوقه الشخصي، وكلها أمور يستحيل أن تتطابق بين شخصين، فما بالك بستة أشخاص. وحتى بعض الثنائيات الإخراجية الناجحة كالأخوين كوين والأخوين دردان، فقد جاءت بعد أعوام طويلة من الخبرة والمحاولة والفرز، وليس مجرد الرغبة في صناعة فيلم.. أو لنكن أكثر دقة: الرغبة في صناعة ستة أفلام.

تفاوت في كل شيء

إذا دخلنا بصورة أكثر عمقا في الفيلم نفسه، فسنجد أن كلمة السر في تواضع مستوى المنتج النهائي هو التفاوت الشديد، التفاوت في كل التفاصيل التي تحرك العمل الفني، بداية من أبسط القواعد كالتماسك المنطقي للزمان والمكان، مرورا بمدى طزاجتها وحداثتها، وطريقة تنفيذها وفلسفتها الإخراجية، وصولا لطبيعة الأفكار وعلاقتها بين ذهنية الشخصية الدرامية وعالمها المحيط.

فبينما تحمل بعض الحكايات طابعا حداثيا واضحا كحكاية العجوز الراغب في عبور الطريق، ينتمي البعض الآخر لكلاسيكية عتيقة كالطفلة المكبوتة في منزل متشدد دينيا. الحداثة والكلاسيكية هنا ليست في الفكرة فقط، ولكن في موتيفات التعامل معها دراميا وبصريا، والذي يبلغ تجريدا من الحد الأدنى في حالة العجوز، ويصل لرمزيات من نوعية “الجدار الفاصل عن الحرية” لدى الطفلة. وبينما تنتمي بعض الأفكار لطبيعة العالم الذي تدور الأحداث به ـ الإسكندرية في حالتنا ـ كحكاية الفتاة التي تستعد لزفافها وتُجبر على أن تظهر في صورة مغايرة لحقيقتها ورغبتها (وهي بالمناسبة أقوى حكايات الفيلم وأقربها للدراما وللواقع)، فإن أفكارا أخرى جاءت ذهنية متثاقفة، كالفتاة التي لا تمتلك أزمة سوى سؤال إذا ما كانت ستتغير في المستقبل أم لا!

التفاوت والتشتت يشمل كل شيء في الفيلم: فكرته وطريقة تنفيذه، حكاياته الست وطرق إخراجها، الإطار الزمني للحكايات واتساقه المنطقي، وحتى الاستنتاج النهائي لكل حكاية، والذي يأتي مليئا بالبهجة والتفاؤل في بعضها، وكئيبا مغرقا في التشاؤم في البعض الآخر. بصورة تمثل تحطيما كاملا لكل عناصر صناعة فيلم سينمائي جيد.

عن القواعد وكسرها

الرد على ما سبق جاهز بالطبع، بل إني سمعته ضمنا على لسان المخرجين في المناقشة التي دارت بينهم بعد العرض، فهم فخورون بالأخطاء، يؤكدون أنها ارتُكبت عن قصد (وأصدقهم في ذلك باستثناء بعض أخطاء تركيب اللقطات داخل المشاهد)، وأن هدفهم هو كسر القواعد الجامدة، وصناعة سينما تدعو المشاهد للتفكير.

بشكل عام أتفق مع الطرح، ومع كون الإبداع سابقا للتنظير، وأن القواعد والنظريات تم استنتاجها من افلام صنعها مبدعين بالفطرة لم يملكوا دليلا سابقا يسيرون خلفه، لكن ما ينبغي أن يدركه المخرجون الشباب هو أن القواعد ليست ملزمة بذاتها، ولكن لأنها تقدم ـ أنسب وأسهل طريقة ـ لفعل الشيء، وعلى المبدع إذا ما كان راغبا في الخروج عنها، أن يثبت بموهبته قدرته على الوصول لهدفه بالطريقة المختلفة، وهو الأمر الذي غاب تماما عن فيلم “أوضة الفيران”، الذي يبدو لكل ذي عين أن الاختيار المقصود فيه هو كسر القاعدة شكليا، ربما لإرضاء شيء ما في نفس المخرجين، دون أن يكون لهذا الكسر قيمة تتعلق بالفيلم ذاته.

ولنضرب مثالا بتفاوت المساحة الزمنية للحكايات، والتي أكد صناع الفيلم أنها مقصودة، فلا يوجد مشكلة لديهم في كون حكاية العجوز الراغب في عبور الطريق وحكاية الفتاة التي تستعد لزفافها تدور في حيز زمني يقاس بساعات نهار واحد، بينما تقاس حكايات أخرى كالأرملة التي تسهر بجوار الشباك بليال وأسابيع، وينتقل المونتاج بين الحكايات قافزا من هنا لهناك دون أي إطار زمني منطقي. دعني أقول أن الأمر ليس مرفوضا برمته، وأننا قبلنا وسنقبل في المستقبل العديد من الأفلام غير الملتزمة بسرد متسق زمانيا، سيريالية كانت أو فانتازية أو في أي شكل آخر يبدعه عقل صناع الأفلام، لكن هذا القبول يرتبط ضمنا بعنصر تحقيق الهدف ـ أي هدف ـ ولكن أن نقبل الخطأ فقط باعتباره أمرا مختلفا، لا يضيف شيئا ولا يحرك شعورا ولا يزيد المشاهد إلا حيرة واغترابا عما يعرض أمامه على الشاشة، فهو أمر لا يعدو كونه رغبة مراهقة في الشطط لمجرد الشطط، السمة التي تكاد كل عناصر الفيلم تصرخ بوجودها.

لماذا نشاهد الفيلم؟

سؤال سيطر على ذهني خلال مشاهدة الفيلم وبعدها، لماذا يتوجب عليّ، أو على أي إنسان آخر، أن نشاهد هذا الشريط؟ متحملين بطئه وحذلقته وأخطاءه الفادحة؟ اللهم إلا متطلبات المهنة كناقد عليه تحمل ما لا يتحمله الغير!

الحقيقة أنني لم أعثر على سبب واحد كاف لدفع أي مشاهد لمتابعة هذا الفيلم ولو مجانا. فالأفلام بمختلف أنواعها وأشكالها وطموحها، تهدف لواحد أو أكثر من أربعة أسباب: إمتاع البصر، تحريك المشاعر، دفع العقل للتفكير، إثارة الفضول (وهذا أضعف الإيمان). وفيلمنا هذا لا يحقق أيا من الأهداف الأربعة ولو بقدر ضئيل، فهو عمل مسطح في كل شيء، منزوع المشاعر، لا يدفع حتى المشاهد المتمرس للاهتمام بما يراه على الشاشة، من شخصيات لو حدثت كارثة فأودت بحياتها جميعا، لم يكن المشاهد ليشعر بأي تأثر تجاهها، وهذا فشل درامي مكتمل الأركان، حتى لو اعتقد صناعه أنهم يصنعون ما لم يُصنع من قبل.

الأسباب السابقة هي ما جعلتني أؤمن بصعوبة حصول “أوضة الفيران” على أي مساحة للعرض التجاري ولو بشكل محدود، ليس للأسباب المعهودة من تدني الذوق العام ورغبة الموزعين في جلب الأموال، ولا في مركزية القرار بالعاصمة كما قد يرد لأذهان البعض، ولكن لأن هذا الفيلم ليس صالحا للعرض العام من الأساس، بل أزيد الشعر بيتا وأقول أنه لو عُرض، فلن يكون الأمر مكسبا للسينما البديلة أو المغايرة، بل سيكون انتكاسة تجعل من يوقعه حظه العاثر في مشاهدته، يحجم في المستقبل عن مشاهدة أي عمل يحمل نفس الوصف.

في النهاية

المقال قاس بلا شك، لكنها قسوة مناسبة لمستوى العمل، ولتأكدي من أن كل ما فيه ليس موجها إطلاقا لصناع الفيلم، الذين أعربوا عن إيمان كامل بأنهم قاموا بصناعة “الفيلم”، العمل المتكامل الذي إن لم تفهمه وتتفاعل معه، فهذه مشكلتك وليست مشكلتهم، وهو طرح بالأساس يغلق الباب في وجه أي جدل “فني”، فلتكن الكلمات موجهة للمشاهد محدود العقل ـ مثل كاتب هذا المقال ـ ولنترك “أوضة الفيران” لساكنيها الذي حققوا إنجازهم السينمائي غير المسبوق!

Visited 66 times, 1 visit(s) today