“حلاوة مرّة”: آمال البسطاء المدفونة في وحل الواقع

يبني المخرج زاهر قصيباتي فيلمه الروائي القصير “حلاوة مرّة” على حادثة بسيطة تجري في العام 2000 مفادها أن رجلاً فقيراً (كرم شعراني) يشتري لابنته علبة حلاوة بالشوكولاتة يوم ميلادها ليكتشف لاحقاً أن العلبة مليئة بالديدان حتى أنها كادت أن تودي بحياة الطفلة بعد أن تناولت قطعة منها.

إلا أن هذه النقمة تتحّول سريعاً إلى نعمة عندما يقترح جار الرجل وصديقه (حسام الشاه) مُطالبة الشركة المُصنّعة بتعويض مادّي عن هذا الإهمال البيّن، ويوافق صاحب الشركة (نضير لكّود) بعد اتصال تليفوني سريع على دفع مبلغ مائة ألف ليرة (ألفي دولار أمريكي) مقابل أن يكّف الرجل عن تهديده ووعيده برفع دعوى قضائية ضدّ المُصنّع، دون أن يخطر في بال بطلنا أن مُوافقة التاجر السريعة ليست سوى كمين مُحكم سيقوده تالياً إلى السجن على اعتبار أن صاحب الشركة قد استبق الأحداث وتقدّم بشكوى لدى الشرطة مُدّعياً أن الرجل وزوجته (روبين عيسى) ليسا سوى نصَّابيَن يدأبان على ابتزاز التجَّار وأصحاب الشركات الكبيرة بهدف التربّح المادّي، ليُصار في النهاية إلى إلقاء القبض على هذه العصابة المزعوم

يُحقّق الفيلم معظم شروط الوصفة الناجعة في صناعة الأفلام القصيرة: بداية من التكثيف، وانتهاءً بحدوث انعطافة غير مُتوقعة تقلب الموازين وتُؤسّس للحظة تنوير تكشف عن موقف و رؤية تتصل بالواقع، والأهم أن الفيلم لا يسعى هنا للتملّص من استحقاقات الواقع أو تجميله أو تزييفه، بل إنه يسعى في الجوهر لمُناصرة طبقة مهمشّة، والتعبير باقتدار، عن همومها ومآسيها، وهذا ما يُضفي على الفيلم برّمته، على مستوى المضمون، قيمة مُضاعفة وأهمية في سياق إنتاجات الأفلام القصيرة السوريّة التي قلّما تتصدى لهذه الفصيلة من القضايا، رغم الطريقة المُخفّفة التي قُدِّمَ بها مشهد النهاية حيث يُتَرك العنان للصورة للتعبير عن قسوة الفعل دون صراخ أو صخب يُرافق عادةً مشاهد الإقتحامات والقبض على المُجرمين، و رغم التعامل مع الأمر، ظاهرياً على الأقل، بوصفه حادثة فردية قابلة للتحقّق، أو لعلّها قد جَرَت في الحقيقة فعلاً كما يُشير مخرج الفيلم وكاتبه.

ستُلقي هذه الحادثة سريعاً بظلالها على المستويَين النفسي والاجتماعي، فالرجل سيخوض صراعاً داخلياً بين قبول التعويض ورفضه، لولا أن تعاطي المُحيط مع المسألة لن يُفسح له مجالاً للتفكير في الرفض، حيث سيتعرّض لضغوط شديدة من زوجته التي ستجد في التعويض حلاً مُنتظَراً قد ينتشل عائلتها من العوز والفقر قبل أن تخيب آمالها عندما تكتشف أن المبلغ لن يكفي حتى لسدّ الديون المُتراكمة على العائلة منذ زمن.

أما على الصعيد الاجتماعي فإن انهياراً سريعاً سيقع لقيمة التكافل بمُجرّد انتشار الخبر بين أهالي الحارة، فالبقَّال (علي كريَّم) سيُطالب مُباشرة بديونه المُستَحَقّة، وجار البطل وصديقه سيفعل الشيء نفسه بينما يختار المخرج توقيتاً ذكياً لهذه المُطالبة وهو لحظة خروج المُصلّين من صلاة الجمعة، وكأن تدّين هذا الصديق وسواه من أهالي المنطقة لم يُفلح بدفعهم نحو مزيد من التراحم والتعاطف مع جيرانهم أثناء المحن والمآسي الطارئة.

وهكذا يتحّول الفيلم إلى أداة للكشف عن زيف إجتماعي حيث تنتفي بعد انتشار خبر التعويض مُبرّرات التعاطف مع الرجل الفقير طالما أنه سيتحوّل بين ليلة وضحاها، جرّاء المصيبة التي حلّت به، إلى رجل مُقتدر مادّياً من وجهة نظر مُحطيه، وهو ما سيجعله فريسة سهلة لأهالي حارته اللذين سينزعون عن وجوههم أقنعة التعاطف والمودّة ويسنّون سكاكينهم استعداداً للإنقضاض على التعويض المُنتَظر لتحصيل ديونهم القديمة ومُستحقاتهم التي لم ينسوها، وكأنهم كانوا جميعاً ينتظرون مثل هذه الحادثة منذ زمن، لتنطلي في المُحصّلة خديعة التاجر الكبير على أهالي الحارة برّمتها كما انطلت على بطلنا الفقير المسحوق، وتتجرّد حادثة إلقاء القبض على الرجل وزوجته من لبوس الحادثة الفردية التي تستهدف شخوصاً بعينهم لتصبح مُعادلاً تامّاً لمُصادرة أحلام وآمال طبقة واسعة من المُستضعفين المنسيين.

يُؤخذ على الفيلم الإكثار من إستخدام الموسيقى في مواضع عدّة لتحفيز التعاطف مع الشخصيات والموقف الدرامي،  ولو أن الموقف نفسه لا يحتاج إلى مثل هذه العكَّازات الثانوية، كما أن منزل البطلين لم يتناسب من حيث الشكل كثيراً مع الحالة المادّية المزرية التي من المُفتَرض أن العائلة البسيطة ترزخ تحت نيرها، كما كان يُمكن الإستغناء بسهولة عن شخصية الابن الثاني الذي لا يُقدّم ولا يؤخّر في مجرى الأحداث شيئاً، مع إهمال الفيلم لرصد ردّ فعل الطفلة عند تناول الحلاوة الفاسدة حيث أنها سرعان ما تغيّب كلّياً عن الأحداث التالية.

صحيح أن هذا التخلّي عن الطفلة يصبّ في مصلحة الكثافة تجنباً للخوض في تفريعة تُثقل الإيقاع والبناء الدرامي وتشتتّه، إلا أنه كان يُمكن التعبير عن ردّ الفعل هذا بلقطة واحدة تكشف عن المكنونات دون أن تُشكّل عبئاً إضافياً.

والحقيقة أن هذه الهنَّات لا تؤثّر تأثيراً حقيقياً على النتيجة النهائية للفيلم وإنما يُمكن تصنيفها في خانة التجويدات الشكلية.

يستمد الفيلم جانباً من أهميته من كونه فيلماً قصيراً مُستقلاً أنتجه مُخرج الفيلم من حسابه الشخصي عبر شركته (آرت هاوس) مُسجَّلاً مُشاركات هامة في مهرجانات سينمائية أبرزها مهرجان عمَّان السينمائي الدولي مُحقّقاً تنويهاً خاصّاً وجوائز عدّة منها جائزة المرموم للأفلام القصيرة في الإمارات وجائزة مهرجان الجامعة الأمريكية في الكويت وغيرها.

 والفيلم يتقاطع على نحو من الأنحاء مع أفلام سوريّة قصيرة أخرى مثل “يوم عادي جداً” لأنس زواهري، و”مدينة الملاهي” لنور خير الأنام، و”فل آيس” لسليم صبَّاغ، و”سارة” لعلاء أبو فرَّاج، لجهة أن هذه الأفلام جميعها تنبش في قضايا الطبقة المسحوقة التي تُشكّل السواد الأعظم من مجتمعنا اليوم، مُفضّلةً هذا الغوص في الهمّ الاجتماعي عن إنجاز أفلام لا تُعنى سوى بالهموم الذاتية لصُنَّاعها، دون أن تُفرط في العناية بالشكل على حساب المضمون، فالأول بالنسبة إليها محض وسيلة للتعبير عن الرؤى و ليس غايةً بحدّ ذاته، و هذا بلا شكّ واحد من أسرار الحفاوة التي يلقاها هذا النوع من الأفلام في المُشاركات الخارجية.

يعرف فيلم “حلاوة مرَّة” جيَّداً ما يُريد أن يقول، و لكن الأهم أنه يعرف كيف يقول، حيث تُشكّل هذه المعرفة حدّاً فاصلاً بين الهواية والاحتراف، وبين المُباشرة الفجّة والفنّ الذي يُعلي من قيمة الحدث والفكرة، ليُمسي تعبيراً فنّياً مُتعدّد الاتجاهات يُسفر النقاب بنباهة عن مكامن الخلل و التصدّعات في مجرى الحياة.

Visited 17 times, 1 visit(s) today