“حلاوة روح”.. فيلم بالعافية وسينما بطلوع الروح!
م أستغرب المستوى الهزيل الذى خرج عليه “حلاوة روح” الذى كتبه على الجندى وأخرجه سامح عبد العزيز. كانت مقدمة الفيلم الإعلانية التى أغرقت دور العرض تنبئ بمحاولة لتمصير فيلم إيطالى هام شهير بعنوان “مالينا” من إخراج جوسيبى تورناتورى، وبمحاولة أوضح لاستنساخ مونيكا بيللوتشى فى صورة هيفاء وهبى، وخصوصا أن بعض المتفرجين تعودوا على وجود اللحم الأبيض (المتوسط) على الشاشة، ولكن “حلاوة روح” كما شاهدته كان أسوأ فنيا بكثير مما توقعت، فالسيناريو ركيك، وكل ما استطاع صناع الفيلم استيعابه من فيلم “مالينا” لايزيد عن وجود امرأة وحيدة جميلة، رحل عنها زوجها، فأصبحت هدفا للجميع.
وهكذا خرجنا بعمل ميلودرامى من الدرجة الرابعة، لايحدث فيه شئ سوى تفرغ حارة بأكملها لمطاردة امرأة طمعا فى جسدها. كل مبالغات ميلودراما الأربعينات البائسة هنا مضافا إليها وسائل الإغراء الكلاسيكية، وفى النهاية أصبح لدينا فيلم بالعافية وسينما بطلوع الروح، تفتقد الحد الأدنى من الإبداع واللمسة الخاصة، وتكتظ بالردح والضجيج والإفيهات الجنسية.
سامح عبد العزيز، مخرج الفيلم، قدم مع مصنع السبكية للأفلام الجاهزة عملين معقولين هما “كباريه” و”الفرح”، أما هنا فقد وظف صورته وكل ما يعرفه فى خدمة هيفاء وهبى وجسدها.
الحكاية كلها محورها روح الفتاة التى تركها زوجها توفيق ليعمل فى الكويت بعد شهرين فقط من زواجهما، لم يعد إليها فعاشت فى كنف أمه القاسية (أحلام الجريتلى) التى تحاول الحفاظ على شرف ابنها فى غيبته، تحبس روح فى البيت، ولا تجعلها تخرج إلا معها بعد تغطية جسدها.
روح مقطوعة من شجرة، والفيلم يجعلها تعيش فى حارة تفرغت تقريبا للجنس وللتحرش، ثم يقوم الزوج بتطليقها بلا مبرر وهو فى الخارج!
إذا كان الفيلم الإيطالى الشهير يربط ما حدث لمالينا بالحرب العالمية الثانية، وفترة صعود الفاشية، ويجعل سفر الزوج للحرب عنوانا على مأساة مالينا، بل إن مالينا الجميلة تكاد تكون معادلا لإيطاليا الرائعة التى انتهكتها الفاشية والحرب العالمية معا، فإن النسخة المصرية لا تربط روح وحكايتها بأى شئ سوى بجسدها ولحمها، بل إن الحارة فى الفيلم لاعلاقة لها بمجتمع أكبر، وكأنها حارة خارج الزمان والمكان، لا يوجد سوى رجال فى حالة سعار جنسى متواصل، ونسوة تحترفن الدعارة، الكل يريد جسد مالينا، وهى نفسها تبدو محرومة من الرجال بعد أن تركها زوجها إثر الزواج بشهرين فقط.
أدى هذا التركيز على الجسد الى دوران الأحداث حول نفسها، وسقوطها فى حفرة الميلودراما الفجة والمزعجة، كما أدت المبالغات الى آثار عكسية، حيث تكررت ضحكات الجمهور العالية كلما صرخت روح أو زاد ضجيج شخصيات الفيلم، الكل يريد روح ويحلم يها: سيد الصبى الذى يقف على أعتاب المراهقة، لا نعرف له عملا مع أنه لم يذهب الى مدرسة أو كتّاب، لا وظيفة له سوى التلصص على روح داخل بيتها.
والظريف أن الفيلم المصرى جعل بيت روح فى الطابق الأرضى، ومفتوحا تقريبا من كل الجهات، لدرجة أنك تضحك بشدة وأنت ترى البعض يطرق بابها رغم أن البلكونة الصغيرة فى مستوى الأرض، والشباك ملئ يالفجوات، لم يعد ناقصا سوى أن تطبع روح تذاكر للفرجة عليها، هناك كسل حتى فى الفرجة على جسد روح بعكس الحال فى الفيلم الإيطالى، ناهيك بالطبع عن ملامح الولد سيد التى تجعله أقرب الى المسجلين خطر والمتشردين، وتجعل من المضحك أن يصبح “صديقا مقربا” من روح التى تعيش فى حارة الذئاب هذه، دون أن تبذل محاولة واحدة للهرب، وكأنها استمرأت اللعبة، وأعجبها الحال.
جسد روح
من أبرز الراغبين فى جسد روح تاجر قطع غيار السيارات طلعت (محمد لطفى) الذى يحول مصطلحات مهنته الى إفيهات جنسية، روح بالنسبة له امرأة “تتشد لها فرامل اليد”، ومن حكمه الشهيرة عن المرأة :” ريّحها فى الغيارات تريحك فى المطبات”.
يعتمد طلعت فى رالى (سباق) الوصول الى جسد روح على شخص متخصص، قواد محترف هو عرفة (باسم سمرة)، وهو أيضا والد الصبى سيد، يصف عرفة نفسه بأنه: “مدير عموم الجثث الطرية”، ولا يخجل من مهنته، ويعتبر أن الإعداد للشغل أهم من الشغل نفسه، والنساء اللاتى شاهدناهن فى الحارة يعملن معه، وكأننا مثلا فى شارع كلوت بك وفى درب طياب فى أيامه الغابرة.
الفيلم نفسه ليس فى الحقيقة سوى مكائد وحيل عرفة لتمكين طلعت من جسد روح، ولذلك تتكرر المحاولات، وتتكرر زيارات عرفة لروح فى بيتها، وفى مشهد طويل عجيب، يقوم عرفة بتدبير مؤامرة ساذجة لتلويث سمعة روح، تزعم إحدى عاهراته أن روح استقبلت زوجها السمين فى بيتها، تصبح فضيحة تؤدى الى وفاة أم توفيق (كل ذلك فى مشهد واحد يتردد حسن الإمام فى تضمينه أحد أفلامه خجلا من فبركته)، ليس مهما للفيلم على الإطلاق سوى أن تصبح روح وحيدة فتشتعل محاولات الإستهداف، مما جعل الفيلم أقرب الى استعراض لطرق وأساليب التحرش، وصولا الى مشهد اغتصابها الطويل والبشع فى النهاية.
يضاف الى جمعية مستهدفى جسد روح عازف الترومبيت الكفيف طلعت (صلاح عبد الله) الذى تنضج عليه مصطلحات الموسيقى، فيحولها مثل جميع الأبطال الرجال الى إفيهات جنسية، بالنسبة له فإن “كل آهة ولها عفقة”، يقولها فى بداية الفيلم لإحدى العاهرات المحترفات التى يتلصص عليها الصبى سيد فى طريقه فى هذه الحارة المتفرغة للجنس هواية واحترافا.
العاشق الأعمى
يظهر طلعت فى بداية الفيلم، نشاهده مع الصبى سيد وهما يستمعان لعبد الحليم، ثم ننسى طلعت تماما حتى يتذكره السيناريو فى الثلث الأخير، نكتشف فجأة أنه عاشق صامت لروح، وبالمرة يزورها إثر وفاة حماتها للتعزية فى بيتها، ثم يأخدها مع سيد لكى يعرّفها على الراقصة المعتزلة صباح ألاجة (نجوى فؤاد).
تتعاطف صباح مع روح، ورغم أنها تمنحها مبلغا لكى تعود روح الى المنصورة هربا من وكر الذئاب الذى تعيش فيه، إلا أن الراقصة المعتزلة فيما يبدو ترشحها لزبون يحمل كأس العصير المعتاد فى أفلام الميلودراما، إنه الشئ الأصفر الذى شاهدته روح ربما فى الأفلام، لذلك تهرب من صباح ومن الرجل ومن المكان كله، المهم دوما أن تعود الى الحارة، وكأنها قدر لا فكاك منه، وكأنه مطلوب ألا تغادرها إلا بعد أن يتم اغتصابها، كنهاية طبيعية لمحاولات التحرش والقوادة التى يقدمها الفيلم .
لم تنجح شخصية طلعت فى تخفيف غلظة وفجاجة المعالجة، بل إن الفيلم استغل عاهته لزيادة جرعة الميلودراما، حيث يفشل فى حماية روح، ويتعرض للضرب من عرفة، ويصرخ وهو يسمع عن محاولة اغتصاب روح فى بيتها وفى قلب الحارة، والعجيب أن طلعت نفسه يقول لروح إن الحارة فيها ناس طيبون، ولكنهم مختفون، مع أننا لم نشاهد شخصية طيبة واحدة، ولم يتحرك شخص لإنقاذ روح من الإغتصاب، رغم أن صراخها تجاوز أبواب السينما، والأعجب أن نساء الفيلم العاهرات ستشيعّن روح الهاربة بعد اغتصابها بالضرب والشتائم فى مشهد ممسوخ من مالينا، ويتساءل الجمهور وسط الضحك الصاخب : “طيب لماذا لم ترحل قبل اغتصابها ؟ يبدو أن العقد اشترط أن يكون الرحيل بعد الإغتصاب”.
لاشئ مبررا فى “حلاوة روح”، الهدف فقط أن يشاهد الجمهور أكثر مساحة ممكنة من جسد هيفاء تسمح بها الرقابة، وهو بالمناسبة أمر لا جديد فيه، لأن مشاهدى حفلاتها وأغانيها يشاهدون نفس المساحات تقريبا فى الفيديو كليبات وفى الحفلات، يصل الإستخفاف فى الفيلم الى ذروته عندما تحلم روح (رغم المفترض بأنها تدافع عن نفسها ضد الذئاب طوال الفيلم) بمشهد رقصها أمام الجميع فى فرح شعبى، يترنح فيه الجميع من الخمر والحشيش، إنها فقرة لمزاج الجمهور على طريقة سينما الاربعينات، دون الإهتمام بأن يؤدى ذلك الى اضطراب شخصية روح، فلا تعرف هل هى سعيدة بالتحرش وبأنها مرغوبة، أم أنها متضايقة كما تزعم، ليس المطلوب رسم شخصية، ولكن الهدف تصوير الجسد والجسد فقط، وبأكثر الوسائل بساطة وعبطا وفجاجة.
حتى شخصية الصبى سيد تأرجحت بين الميلودراما كما فى مشاهد مواجهته لأبيه القواد وشتائمهما المتبادلة، وبين الهزل الذى أثار الضحكات كما فى مشهد تجميع صبية الحارة البائسة بزعامة الفتى سيد لحماية روح من الرجال باستخدام قنابل المولوتوف، معركة حقيقة تدخل فى باب المساخر تنتهى بالقبض على الصبية وضربهم بالعصا، ويقوم المخرج بالقطع المتبادل بين اغتصاب روح وضرب الصبية فى دلالة رمزية لولبية تتسق مع الفوضى السبكية المعروفة.
تستطيع فى النهاية أن تقول إن “حلاوة روح” عمل دميم رغم أن بطلته كما يقولون هى جميلة الجميلات، إنها دمامة فقر الفن والفكر والرؤية والمعنى والأسلوب، إنه قبح الفهلوة والإستسهال والضحك على العقول.
هناك ترهل فى كل شئ: فى الحوار وفى الأجساد التى أعادت الى ذاكرتى مصطلح “سينما المؤخرات”، وهو التعبير الشهير للناقد الراحل سامى السلامونى عن بعض أفلام حسن الإمام عن العوالم، هناك ترهل أيضا فى الحوار الذى يعتمد على القافية الجنسية، مصطلحات الكرة والسيارات والموسيقى تصبح إيفيهات جنسية.
فتقد الفيلم حتى المعنى الذى تلخصه أغنية لحكيم حشرت ضمن الحكاية يقول فيها إن عشق الجسد فانى، وأن الحكاية حلاوة روح، بينما الفيلم كله عن محاولة الوصول الى الجسد مهما كان الثمن، وليس هناك روح فى الفيلم سوى اسم البطلة.
الإخراج مسؤول بالطبع عن هذا الإضطراب البصرى من تبادل القطع بين اللقطة العامة والمتوسطة بشكل بدائى وغريب، بل إن هناك مشاهد تم بترها فجأة رغم أن المونتير شريف عابدين متمكن من حرفته، ولكن الفيلم تم تقفيله فيما يبدو سريعا ليلحق العرض.
من الصعب الحديث عن أداء جيد لممثلين يقدمون شخصيات أحادية الجانب تمارس فى أغلبها الشر للشر، ربما كان باسم سمرة الأفضل نسبيا وسط هذا المولد الكارثى، أما هيفاء فلم تعرف بالضبط هل تشارك بجسدها أم بصوتها الذى يخذلها أم بماكياجها و ملابسها أم بعينيها وشعرها، أشك كثيرا أنها فهمت ما الذى تريده روح، ولكنها فهمت فقط ما يريده الفيلم منها، الذى لم يشاهد “مالينا” لن تفرق معه النتيجة، أما الذى شاهد “مالينا” فسيقول وقد رأى هيفاء: “احنا آسفين يا مونيكا بللوتشى” .