“حبيبى سكر مرّ”.. فوضى العواطف والتحوّلات!

عاد المخرج هانى خليفة الى السينما أخيرا بفيلم عُرض ضمن موسم عيد الفطر فى الصالات المصرية بعنوان “حبيبى سكر مرّ”. كنا قد احتفينا كثيرا بعمله الأول “سهر الليالى” الذى عرض عام 2003 محققا نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا، بهذا المزيج الخاص بين عناصر رومانسية وأخرى واقعية قديمة، وذلك من خلال نماذج معاناتها الأولى عاطفية ونفسية.                                            

 فيلمه الجديد  الذى كتبه محمد عبد المعطى يدور فى نفس الإطار تقريبا، ويتقاطع شكلا مع فيلمه الأول بتقديم عدد من الشخصيات الرجالية والنسائية المأزومة عاطفيا، كما أنه (مثل سهر الليالى) يضع علامة استفهام حول مؤسسة الزواج، التى تفشل مرة أخرى فى حل تناقضات الشخصيات، وتحولاتها الإنقلابية. 

“حبيبى سكر مر” أقل بريقا من كل الوجوه، من “سهر الليالى”، إلا أنه يتميز مع ذلك بسيناريو جيد ومتماسك رغم كثرة شخصياته، كما أنه حاول (دون توفيق كبير فى رأيى)، أن يربط تناقضات أبطاله، وانقلاباتهم الشخصية، وفوضى عواطفهم، بتناقضات وتحولات وفوضى ما بعد ثورة 25 يناير، لم يكن هذا الربط صحيحا لا من الناحية الواقعية العامة، ولا حتى دراميا، حيث بدت أحداث السنوات التالية للثورة كخلفية للأحداث، لا عنصرا محوريا فى تحولاتها.

تتبدى قوة هانى خليفة كمخرج فى تلك التفاصيل العاطفية التى يجيد تجسيدها، واستخراجها من ممثليه، بعد أن يختارهم بعناية شديدة، هنا أيضا الكثير جدا من التوفيق، ولكن الملمح الأهم فى “حبيبى سكر مر” ليس فى وجود علاقات حب لا تكتمل فحسب، ولكن فى نماذج من جيل واحد تتغير من لحظة الى أخرى، أزمة هؤلاء ليست فى أنهم غير قادرين على الحب، لأنهم يحبون فعلا، ولكن المشكلة فى أنهم لا يعرفون أحيانا ماذا يريدون، وينتقلون بسرعة البرق من حال الى حال، من الحرية المطلقة الى التزمت، من الإنفتاح الى التقوقع، من الإنفلات الى التدين، وبالعكس، لذلك أعتبر “حبيبى سكر مر” فيلما عن فوضى العواطف عموما، وليس عن قصص حب فاشلة، الأزمة تبدو كما لو كانت بسبب حالة من التيه النفسى، وبسبب ذلك لن ترتاح الشخصيات لا قبل الزواج ولا بعد الطلاق، المشكلة داخل كل نموذج نسائى أو رجالى على حدة، ونتيجة لذلك لم يؤثر كثيرا فى رأيى حشر مشاهد ما بعد ثورة يناير، فالإنتقال من السفور الى الحجاب قديم جدا، بل إن هناك فيلما بأكمله لفت النظر الى حالة التيه والإزدواجية تلك أنتج وعرض قبل 25 يناير بعنوان “أنا مش معاهم” من بطولة أحمد عيد، ولكن هذا الفيلم الكوميدى كان ضعيفا فى الكتابة رغم جمال وقوة فكرته.

 ثنائيات فاشلة

أفضل ما فعله محمد عبد المعطى كاتب السيناريو أنه منح السرد حرية الإنتقال الكاملة من الحاضر الى الماضى خلال خمس سنوات (من 2009 الى 2014)، متوقفا بشكل خاص عند ليلة رأس السنة، وعند شهور معينة، أعطى ذلك الفيلم نوعا من التكثيف بالتركيز على اللحظات الهامة دراميا، كما أبرز  ذلك (وهذا هو الأهم) فكرة الفيلم المحورية، وهى تقلبات شخصياته، وتناقضاتهم،  فلا شك أن رؤية فتاة محجبة فى عام معين، ثم القطع الى نفس الفتاة وهى ترتدى فستانا مكشوفا فى العام السابق له، يعطى تأثيرا أقوى بكثير، مما لو سار السرد بطريقة كلاسيكية، إنه تأثير صادم مقصود استخدمه الفيلم بشكل جيد، بل إننا بعد فترة أصبحنا نتوقع من الشخصيات انقلابات مماثلة، سرعان ما ستتحقق أيضا، وستبقى معنا  هذه التحولات حتى النهاية.

شىء آخر جيد فى السيناريو وهو القدرة على رسم ملامح وشخصيات عشر شخصيات (خمس رجال وخمس نساء) بشكل معقول، بل وعمل تقاطعات بين تلك الشخصيات اتصالا وانفصالا، كان ذلك كافيا جدا بدون أى خلفيات سياسية عامة، مثلما حدث فى “سهر الليالى”، هذه الشخصيات مجالها الأساسى خاص وداخلى، حياتهم فى الأغلب مريحة اقتصاديا، واهتماماتهم عاطفية وشخصية، وما حدث أننا نراهم منفصلين بالفعل عما يجرى حولهم، باستثناء أن تستوقفهم دورية للتفتيش، أو ينظرون فى الساعة لأن موعد حظر التجوال قد حان، فيما عدا ذلك، لا تتأثر تحولاتهم العاطفية بما يجرى، أما التحول الى التدين، أو الى الحجاب، فيسبق صعود الإخوان الى السلطة بسنوات طويلة جدا، على عكس ما يوحى به الفيلم.

الثنائيات الفاشلة فى الفيلم هى على النحو التالى: سليم (أحمد الفيشاوى) صاحب المغامرات العاطفية، يقع فى حب علياء (آيتن عامر)، يتزوجها بحثا عن الإستقرار، ولكنها تتحول الى امرأة طموحة، تعشق المظاهر، تتبدل مواقعهما تقريبا فى لمح البصر.

مروان (نبيل عيسى) الشاب الذى يعيش حياة حرة بدون زواج على الطريقة الغربية مع نازلى (أمينة خليل)، يقرر أن يتزوج منها، ولكنه لا يتحمل حريتها القديمة بعد أن أصبحت تحمل اسمه، ينفصلان بنفس درجة بساطة زواجهما.

 على (كريم فهمى) الطموح الباحث عن نموذج نسائى أكثر تحررا ينقله الى العالم المخملى، يتزوج من شيرى (سارة شاهين)، ولكن شيرى تكتشف خيانة على، فتعيده الى موقعه من سلم العواطف، ومن سلم المجتمع أيضا.

المخرج هاني خليفة مع شيري عادل

حسام الشاب الثرى (هيثم أحمد زكى) ينتقل من التحرر الى ما يطلقون عليه الإلتزام الدينى، يطلق لحيته، يتزوج من ملك (شيرى عادل) التى تحولت من الإنفتاح الى الإنعزال والتدين بعد وفاة أمها، ولكن الفارق بين ابن السوق وابنة المدرسة المنظمة، يقضى على الزواج، وخصوصا بعد أن لجأ حسام للزواج من أكثر من واحدة على زوجته، التى أنجبت له طفلا.

نبيل (عمر السعيد) ومريم (ناهد السباعى) ثنائى مسيحى لا ينجو من الفشل، بعد اشتعال الغرام، وتجاوز مشكلة الشقة وظروف نبيل فى بداية حياته، يغزو الملل والخرس الزوجى حياة نبيل ومريم، الرابطة لايمكن فسخها إلا بسبب علة الزنا، يوافق نبيل على أن يتهم بذلك، حتى يتحرر من حياة بلا معنى أو طعم.

هناك تحييد مقصود للعامل الإقتصادى، مهن الشخصيات فى أغلبها تتيح لهم حياة “مرتاحة” بالمعايير المصرية، حسام مثلا ابن تاجر سيراميك، وسليم يعمل فى مجال تسويق السيارات، وعلى أستاذ فى كلية الفنون الجميلة، حتى علياء تتطور علاقتها بعالم البيزنس تدريجيا، أما نبيل الذى يعمل فى مجال خدمة العملاء بشركة إتصالات، ومريم التى تبيع الملابس فى إحدى المحلات، فلم يسبب وضعهما الإقتصادى البسيط مشكلة لا فى الزواج، ولا فى حالة الملل التى أصابتهما.

التحولات ليست فى مواقف كل شخصية من الأخرى، ولكن تبادل المواقع، على مثلا يفشل مع نازلى، ثم يترك ملك التى كانت طالبة لديه، وشيرى تفشل فى إقناع مروان بالزواج منها، فتتحول الى على، بل إن النهاية تحمل تحولا غير متوقع فى حياة سليم وملك، فوضى عاطفية شاملة، لايمكن تفسيرها إلا بأن الشخصيات متقلبة، ولاتعرف بالضبط ما الذى تريده، وما هو الوقت المناسب لذلك.

زواج فطلاق

إذا كان “سهر الليالى” ينتهى بمشهد الزواج، وبعودة شكلية للثنائيات، فإن “حبيبى سكر مرّ” يقدم فيما أظن أكبر مشهد طلاق جماعى (“فوتومونتاج” بين شخصياته وثنائياته التائهة)، يحدث ذلك كنتيجة طبيعية لما شاهدناه من فوضى، تتغير السنوات، ويجتمع الأبطال فى ليالى رأس السنة، ولا تنتهى الحيرة، ولا الأزمة، وكأننا فى لعبة  بلا نهاية، ومفتوحة على كل الاحتمالات.

عنوان الفيلم مأخوذ مباشرة من أغنية شهيرة كتبها صلاح جاهين، وغنتها ماجدة الرومى من ألحان كمال الطويل فى فيلم “عودة الابن الضال” ليوسف شاهين، تقول إحدى مقاطع الأغنية وعنوانها “مفترق الطريق”: ” حبيبى سكر مرّ طعم الهوى/ فرّق ما بينّا البين ما عدناش سوا”، هذا ما حدث بالفعل فى الفيلم، فشل عاطفى مزمن، وإن كانت الفكرة الأعمق فى تقلبات جيل بأكمله، المرارة ليست من الحب، ولكن من ذلك التوهان الذى لا ينفع معه زواج أو انفصال، ولايُصلح منه تحرر أو التزام دينى، هناك شىء أقرب الى عدم النضج العاطفى إذا جاز التعبير.

نجح هانى خليفة فى اختيار وقيادة ممثليه العشرة، كلهم قدموا أفضل ما لديهم، والفوارق بينهم ترجع الى قوة رسم الشخصيات أو ضعفها، كريم فهمى فى دور على كان لافتا للغاية لأنه يمثل شخصية ثرية جدا، فى حياته مراحل للصعود والهبوط، فيه بعض الإنتهازية الممتزجة بالطموح والموهبة، بينما ظهر الثنائى الموهوب عمر السعيد وناهد السباعى وهما يكرران الحوار تقريبا، دون أن يفلح السيناريو فى أن يضيف الكثير الى شعورهما بالملل، وكانت سارة شاهين جيدة للغاية فى أداء دور شيرى، سارة، ملكة جمال مصر السابقة،  بدت باهتة للغاية فى أدوار شحيحة سابقة، وهذا الدور هو مولدها الحقيقى كممثلة.

فى كل الأحوال، كانت النتيجة جيدة، وخصوصا مع اقتصاد هانى خليفة فى توظيف الموسيقى التصويرية لمصطفى الحلوانى بالذات فى الجزء الأخير من الفيلم، ورغم الحوارات الطويلة (مثل سهر الليالى) إلا أن الأمر لم يكن مزعجا بالنظر الى المواقف الدرامية الجيدة بشكل عام، ومن عناصر الفيلم الجيدة أيضا تصوير أحمد عبد العزيز، ومونتاج أحمد حافظ الذى ضبط قطعاته، دون أن يبتر تدفق المشاعر وتاثيراتها ، وديكور يحى علام،  وملابس خالد عزام.

قد تكون نماذج الفيلم غريبة وغير مألوفة، ولكنها نماذج موجودة قدمت بكل تفاصيلها، لذلك أرى أن “حبيبى سكر مر” فيلم جيد، رغم عدم اقتناعى بالربط بين العام (ما بعد ثورة يناير) والخاص، ربما تكون عزلة الشخصيات، وانشغالها بهمومها العاطفية جزاء من مشكلتها، ولكن يكفى السينما أن تعرض، بصنعة فن وصدق، نماذجها الإنسانية، ثم تترك لمشاهدها حرية الحكم انحيازا أو رفضا.

Visited 31 times, 1 visit(s) today