“جنينة الأسماك”.. تنويعات على نغمة الخوف
شاهدتُ فيلم “جنينة الأسماك” في عرضه التجاري الأول في العام 2008، أدهشني الفيلم شكلا ومضمونا، واعتبرته من أفضل وأهم الأفلام التي أخرجها يسري نصر الله، وبعد فترة، اخترت الفيلم ضمن قائمتي لأفضل أفلام قدمتها السينما المصرية خلال السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين، جنبا الى جنب مع أفلام مثل “أرض الخوف” و”بحب السيما” و”في شقة مصر الجديدة” .. الخ
لا أعتقد بالمقابل أن الفيلم صمد طويلا في دور العرض، ولم أستطع أن أحدد بالضبط سبب هذا الإبتعاد الجماهيري المصري، أفلام يسري نصر الله عموما لا تحقق الملايين في شباك التذاكر، ولكني خمنت أن هذا الفيلم بالذات ربما أثار بعض الصدمة، وكنت محتارا في سبب الصدمة: هل هو الشكل الذي قدم به الفيلم موضوعه؟ أم أن الفيلم نفسه كان مخيفا حقا للجمهور في تعريته لأحوال مجتمع وصل الى حافة مروعة من الخوف والوحدة؟
“جنينة الأسماك”، كما كتبه ناصر عبد الرحمن ويسري نصر الله، وكما أعدت مشاهدته من جديد بعد كل هذه السنوات، يقدم تحليلا فذا لشخصياته ولعالم مخيف ومزعج فعلا، إنه فيلم شخصيات وأحوال بامتياز، والخوف فيه تقريبا من كل شيء، البشر يعيشون متاهة في عزلتهم، وفي لقاءاتهم القليلة والهزيلة، أما الوجوه فهي أقرب الى الأقنعة الثابتة، ويظهر ذلك بوضوح في أفيش الفيلم، الذي يعتبر من أفضل أفيشات أفلام تلك السنوات، حيث يظهر عمرو واكد ومعه هند صبري مرسومين بالأبيض والأسود بوجوه بيضاء تشبه الأقنعة، بينما يظهر اللون الأحمر فقط على شفاة هند صبري، فيبو غريبا ووحيدا مثلها، وكانت قد لونت شفتيها بالأحمر القاني ضمن أحداث الفيلم، واختارت تسريحة شعر أخرى من باب التغيير، ولكن ظل القناع ثابتا كما هو، لأنها لم تتغير من الداخل، ولأنها ظلت معظم الوقت حزينة ووحيدة، رغم أنها تعيش في شقة واحدة مع أمها وأخيها.
فردية وجماعية
هناك أفلام مصرية سابقة تعاملت مع حالة الخوف الجماعية والفردية، منها بالطبع فيلم “شيء من الخوف” إخراج حسين كمال، باسقاطه السياسي الشهير، ومنها فيلمين هامين للمخرج سعيد مرزوق هما “الخوف” بطولة نور الشريف وسعاد حسني، و”أيام الرعب” بطولة محمود ياسين، الفيلم الأول لا يخلو من إسقاط سياسي على حالة المصريين والوطن بعد هزيمة 1967، ولكن الفيلم الثاني يقدم دراسة حالة شاب صعيدي يطارده ثأر قديم، ويتابع حياته التي استحالت جحيما، بسبب رعب انتظار الموت.
أما “جنينة الأسماك” فيقدم بانوراما لأفراد ولمجتمع في نفس الوقت، الخوف فيه عميق وقوي، وهو مقترن بالوحدة والروتين، والشخصيات تعرف تقريبا ما تخاف منه، وتعبر عن ذلك في الحوار، ولكنها غير قادرة على مواجهة الخوف، وغير قادرة على تجاوزه، كما أن هناك حالة من الضبابية وعدم اليقين خاصة بالمستقبل، إننا أمام صورة مهزوزة لمجتمع ولأفراد، التواصل مبتور أو منعدم، وكأنهم معلّقون في الفراغ، في انتظار معجزة للخلاص.
“جنينة الأسماك” أيضا لا يتفرج على شخصياته، أو يقف محايدا في سرد موضوعه، ولكن طريقة سرده، وانتقالاته، ومراقبته وحصاره لشخصياته، وكلام الشخصيات في مواجهة الكاميرا، ووضع أبطاله خلف زجاج شفاف، او انعكاس صورهم على المرايا، أو الصور الضبايية للشخصيات، أو للشوارع، أو لأضواء نهر النيل، كل ذلك يترجم المضمون بلغة الصورة والسرد، وما قد يراه البعض حذلقة أو صعوبة أو اضطراب في السرد، هو في الحقيقة انعكاس للمضمون، وترجمة للحالة المراد وصفها أو تشريحها.
الشخصيات في هذا الفيلم جزر منعزلة، مغتربة وخائفة، حتى عندما تلتقي، فإنها لا تبدو فعلا معا، ولذلك ينتقل الفيلم بين شخصية وأخرى بحريّة، يتركها ثم يعود إليها من جديد، مع أن السيناريو يعرف ملامح كل شخصية، وحدود حركتها، ويعرف أيضا مصير لقاءاتها الفاترة رغم المكان الواحد، فمثلا : يلتقي يوسف مع صديقه شاهين على كورنيش النيل، أو في السيارة، يضحكان ويثرثران، ثم يترك كل واحد صديقه، فيبدو يوسف في وحدته، كأنه بلا صديق، ويلتقي يوسف مع والده سليمان المريض بالسرطان، فكأنه يلتقي مع رجل غريب عنه، مختلف هو مع أبيه، بينما المريض عمرو، كاتب الرواية، والمصاب في حادثة، أكثر تفاعلا واقترابا من سليمان النادي من ابنه يوسف.
ليلى بكر مذيعة برنامج “أسرار الليل”، يفترض أنها في استديو واحد مع زكى مهندس الصوت الذي يحبها، ولكن بينهما فاصل زجاجي، وعازل صوتي يجعل زكي غير قادر على توصيل صوته، كأنهما فعلا وحيدين رغم أنهما معا، وهذا أيضا ما نراه في لقاءات ليلى مع أمها وأخيها، بل إننا لن نعرف أبدا سر عزلة الأخ ووحدته في عالمه الخاص، نراه فقط وهو يتفرج على فيلم تسجيلي تظهر فيه سلحفاتان تعومان معا، حتى السلاحف هزمت خوفها ووحدتها.
الإنتقالات السردية تجسم هذه العزلة، وتبدد أي خطوط افتراضية قد نتوقعها إذا كان السرد تقليديا، وتكسر أيضا الإندماج والإيهام، عندما تترك ممثل الدور يتحدث الى الكاميرا مباشرة، يحلل الشخصية التي يؤديها، ويقول رأيه في تصرفاتها وسلوكها، ويقدم بعض المعلومات عنها، ويخلط بين حديثه عنها، والحديث بلسانها، هنا وحدة إضافية، وبوح مضاعف بالمخاوف العميقة، وهنا الممثل وحيد أمام متفرجه، لا يعبر عن خوف الشخصيات فقط، ولكنه ينقل التأمل وربما المخاوف الى المتفرج، مثل مارجريت، مالكة العمارة المسيحية، التي هاجر ولداها الى كندا والولايات المتحدة، والتي تخشى وصول الإخوان الى السلطة، وهو ما تحقق فعلا بعد ذلك.
هذا مزيج معقد من الخوف والإغتراب والوحدة، وهو مزيج حقيقي يعبر عنه بكل قوة، فالممثلة سماح أنور، مؤدية الشخصية، تتفهمه، ولعلها هي أيضا كمملثة تشارك الشخصية نفس الخوف.
أسلوب السرد
قوة الفيلم إذن ليست فقط في اختيار موضوعه وشخصياته، وإنما في أسلوب سرده على الورق، وسمعيا وبصريا، الشخصيات تهمس لبعضها، ويوسف لا يعترف إلا عبر التليفون، وهوايته أن يسمع اعترافات المرضى تحت تأثير المخدر، وليلى التي تمتلك سلطة معرفة الأسرار، تهتز عندما تعرف أن يوسف يسألها عن حياتها، وعمرو كاتب الرواية يكره يوسف، لأنه عرف عنه الكثير أثناء وقوعه تحت البنج، بينما كان يتمنى أن يمتلك هو ناصية الحديث، وشاهين، صديق عمرو المتزوج، وعاشق الجنس من خلال التليفون، تصدمه فكرة أن يفعل ذلك مع زوجته، تنهار لذته، وتنطلق مخاوفه، ويشعر أخيرا بتعاسته.
الشخصيات لا تتواصل في الحقيقة، ولكنها تمر مرورا عابرا في حياة بعضها البعض، لا تقف أبدا على أرض ثابته، رغم أنها تمارس سلطتها عند اللزوم، جيل والد يوسف، ووالدة ليلى، لديهم أيضا أسرار لا يبوحون بها، والد يوسف ما زال يطلب منه طريقة خاصة في ربط الحذاء، يرفضها يوسف في مشهد تال، ووالدة ليلى لا تريد أن تتكلم عن سيطرة زوجها، عوالم مختلفة تجبر يوسف على أن يأخذ حقنة مورفين أمام والده، حتى يقتنع الأب بأخذ الحقنة، التي ستخفف آلامه.
ينتشر الخوف في الفيلم من كل شيء: من الطيور بسبب انفلونزا الطيور، من الضابط الذي اقتنص الفتاة من الشاب فشعروا بالعجز، من منظر حديقة الأسماك ليلا الذي ببدو مثلا مخ مليء بالألوان والظلام، أو كمتاهة لا يمكن الخروج منها، ولذلك ظل يوسف ثلاثة شهور يدور حول الحديقة دون أن يدخلها.
تخاف رقيبة التليفزيون من سلطة وعلاقات ليلى فتوقع لها على إذاعة حلقة تتواصل فيها مع شاب مريض بالإيدز، الشاب المتصل نفسه خائف من إخبار حبيبته بطبيعة مرضه، وليلى خائفة من علاقة أو حب جديد مع زكي، والفتاة التي حملت أو فقدت عذريتها خائفة من الفضيحة، ومارجريت خائفة من حكم الإخوان، والدولة نفسها خائفة من مظاهرات حركة كفاية، التي كانت ترفض التمديد ل حسني مبارك، وكانت ترفض أيضا توريث السلطة لابنه جمال.
كل شخصية لديها أسرارها وعالمها الخاص المغلق، يندهش يوسف عندما يلتقي ضابطا كان تلميذا لوالده، يقول الضابط إن سليمان النادي، والد يوسف، كان يعلمهم ثغرات القانون، وليس القانون نفسه، يوسف يعمل كطبيب تخدير في عيادة للإجهاض أو لترقيع غشاء البكارة، طبيب العيادة يتزوج الممرضة عرفيا، وهناك سيلتقي يوسف شخصيا، مع ليلى شخصيا، اللقاء الوحيد المباشر في الفيلم، وهو لقاء سيبدد خوفهما جزئيا، ستصرخ ليلى بلا صوت لأول مرة، وسيجيب يوسف عن سؤالها حول جنينة الأسماك، ولكنهما سرعان ما ينفصلان، جمعتهما فتاة لها أسرار، وابتعدا ومع كل منهما سره الخاص.
متاهة مجتمع
تصبح الشخصيات ضعيفة الذاكرة مثل الأسماك، وتبدو متاهة جنينة الأسماك امتدادا لمتاهة مجتمع يرتدي الجميع فيه الأقنعة، اختلاس الحب بين الأولاد والبنات على الكورنيش، أوفي فجوات الحديقة، ويوسف يواصل التخفي والتلصص، أصبح مجرد صوت في برنامج “أسرار الليل”، ومجرد أذن وهو يستمع الى تخاريف مرض العمليات تحت التخدير، ومجرد متسلل يشاهد العشاق في “جنينة الأسماك”، يكسر خوفه بدخول الجنينة، ويكسر خوفه عندما يحطم حوض الاسماك، ويخرج بواحدة، لعله وجدها تماثل حالته في عدم التواصل.
لن ينتهي الفيلم قبل أن تتحرك الشخصيات باتجاه فعل ما، وباتجاه تحرك من المجتمع: رقصة ليلى الحرة في النادي الليلي بداية تململ وتمرد، ولكنها سرعان ما تستسلم لأصابع الرجل المهم في مداعبة فخذيها، يوسف يذهب أخيرا الى الحديقة، ويفتح شقته التى لم يكن قادرا على دخولها، حتى الفراخ تحتشد وتطلق صوتها، الذي نسمعه واضحا على مظاهرة لحركة كفاية، يحيط بها جنود الأمن المركزي.
لا مفر من مواجهة الخوف، أو كما تؤكد كلمات أغنية “الحياة لو لعبة”: سيظل الخطر قائما، ما دام الإنسان عائشا في الحياة، تضحم الإحساس بالسلطة كما فعلت ليلى مع رقيبة التليفزيون لم يحل شيئا، والسعادة بسماع أسرار الناس الذين لا تعرفهم، لم ينقذ ليلى من أسرارها، ومن ماضيها، ممارستها للسيطرة والقوة لم تنقذها من ممارسة سيطرة الرجل المهم عليها أمام الناس، وسعادة ليلى بسيطرة مدرب الأسود على حيواناته لاتكفي، فلابد أن تفعل شيئا يشبه مخاطرته الكبرى، عندما وضع قطعة اللحوم بفمه في فم الأسد، ليتها تواجه الناس بما تحس بها، تماما مثل قصة الأميرة والعصفور: خافت الأميرة لمدة سنة كاملة من أن تقول إنها تحب عصفورا، فلم يخرج الأمير من جسد العصفور، ثم قالت الأميرة العبارة أخيرا، ولكن كان الأمير قد تزوج، أضاع الخوف على الأميرة فرصة حب نادرة.
هذه الجنينة المخيفة ليلا بفجواتها وعشاقها المنتشرين والصامتين وبأسماكها التي لا تشعر سوى بأنفسها تترجم في الحقيقة مجتمع 2008، الذي يقف على الحافة أفرادا وجماعات، الكل يخاف من الكل، وكل واحد داخل شرنقته الخاصة، يقاوم خوفه ويحاول، ولكن الأمور لن تستمر هكذا على طول الخط، حتى الفراخ تحتشد ويعلو صوتها، وعندما يفتح يوسف بابب لكونته إثر دخول شقته، يمر على صفحة النيل مركب مضيء جميل، يبشر بتغيير ما قدم، يبعث على بعض التفاؤل.
كسر الإيهام
الفيلم المدهش الذي يبدأ بصوت أسمهان هو يصدح طالبا النجدة: يا حبيبي تعالى الحقني شوف ايه اللي جرالي”، والذي يكسر الإيهام لصالح مواجة الشخصيات والمتفرج أيضا، والذي يجعل علاقة البطل والبطل صوتية، ولا يجمعهما إلا في مشهدين أو ثلاثة، ثم يفترقان، هذا الفيلم يشخص ويعرّي ويحرض على رفض الخوف، لا يتحدث عن درجة النجاح، ولا عن نتائج المحاولة، ولكنه يحعلنا نكره أحوال الشخصيات، التي هي بدورها تنويعات على أحوالنا، وعلى مشاعرنا المخيفة، يمزق أقنعة الشخصيات وأقنعتنا، تبدو الشخصيات أشباحا بلا معالم في بعض المشاهد، يتعمد يسري نصر الله أن نراها من خلال عدم الوضوح البؤري (الفلو) كما في مشهد يوسف الأول مع والده، ويتعمد أن يجعل الشخصيات يتركون الكادر، فلا نرى سوى الأسرة والمقاعد، ونسمع أصواتهم فقط من خارج الكادر.
نراهم صورا منعكسة على المرايا، أو على حاجز زجاجي يفصل بين مذيعة مهندس صوت، ثم يخلق جدلا أحيانا بين الشخصية وبين الممثل أو الممثلة الذي أو التي تلعبها، الصراع في الفيلم داخل الشخصيات وليس خارجها، وهناك تفصيلات شديدة الحساسية مثل حيرة مروة في مشاعرها تجاه عشيقها عمرو، وسعادة الممرضة بزواجها العرفي من الطبيب لأنها تحبه، ومحاولة الممرض تبرير عمله في عيادة للإجهاض وترقيع غشاء البكارة، وتكرار بوسف طبيب التخدير لأسماء البنات عشوائيا، وكأنه يتحدث عن كل البنات.
كل شيء يحدث في السر، حالة غريبة من التواطؤ العام والفردي، حضور أمني في كل مكان، ولكن هناك عالما موازيا يمارس حياته بحرية، صوت هذا العالم نسمعه أحيانا في برنامج “أسرار الليل”، ولكن بدون عناوين أو بأسماء وهمية.
يمكن لمن أراد أن يعرف أحوال المجتمع في هذا الوقت أن يعود الى “جنينة الأسماك”، وأن يتأمل أداء ممثليه المميزين: هند صبري (ليلى)، وعمرو واكد (يوسف) في دورين شديدي الصعوبة، لا يعتمدان على الحوار، ولكن على وجهين كالأقنعة، لا يذوبان أبدا، وكأنهما صارا عنوانين على التجمد، ثم يتفكك هذا الجمود تدريجيا في لحظات اكتشاف التمرد، مثل مشهد رقصة ليلى في النادي الليلي، أو مشهد صراخ ليلى غير المسموع بعد أن اكتشفت وجود يوسف في عيادة أمراض النساء، ومشهد سعادة يوسف بدخوله الى جنينة الأسماك، ومشهد ضحكة يوسف من صديقه شاهين، بعد مكالمة الصديق مع ليلى.
باسم سمرة العاشق الصامت أو مهندس الصوت زكي قدم دورا مختلفا ومؤثرا، جميل راتب قدم أيضا دورا مميزا للغاية، الشخصية تجمع بين القوة، وبين الضعف بسبب المرض، قدمت سماح أنور كذلك مشهدين رائعين لشخصية مرجريت، مرة وهي تقود ليلى لاكتشاف الشقة، تبدو هنا مثل امرأة تدلل على شقتها، وتلتمس التعاطف مع وحدتها، ثم تتحدث سماح كمملثة عن مارجريت، تشرح ظروفهأ وتتلعثم وهي تحاول أن تعبر عن مخاوف الشخصية التي يتلعبها، ثم تعترف بهذه المخاوف بكل صراحة، وكان أحمد الفيشاوى ممتازا كذلك في دوره القصير، (الكاتب الروائي عمرو) ، ومنح تميم عبده شخصية شاهين صديق عمرو حيوية جديرة بها.
سمير بهزان مديرا للتصوير أعطى الأماكن المغلقة مساحات واسعة من الظلام، فبدت مثل السجون، كاستديو برنامج “أسرار الليل”، وأبدع في توزيع إضاءة جنينة الأسماك، فبدت مثل كهوف موحشة ومهجورة، المونتيرة منى ربيع كانت حريصة دائما على ألا تقطع قبل أن ينتهي تعبير الممثل، أو تنتهي الحالة التي يتركها كل مشهد، ومن اللفتات الذكية استخدام لقطات عامة للشوارع على صوت حوارات يوسف مع ليلى في برنامجها عن الخوف، فكأن الشكوى الفردية ترجمة لحالة الشارع نفسه، هؤلاء الذين لا نرى وجوههم يمتلكون أيضا مخاوفهم، ولو أتيح له تليفون للشكوى، لما ترددوا في الثرثرة بدون أسماء، أو باسماء وهمية.
لا تزعجنا موسيق تامر كروان، ولكنها تتسلل إلينا بنغمات هادئة، وتنوب أغنية” الحياة لو لعبة” عن تمرد الجميع المكبوت، ملابس الشخصيات التي صممتها ناهد نصر الله كانت أيضا عنوانا على كل شخصية، بل وعن تقلب الأحوال، ليلى مثلا لا تلبس فستانا أبيض إلا في مشهد النادي الليلي، ومع رقصتها المتحررة، ثم تعود بعد ذلك الى الألوان الغامقة، وبدلة يوسف المحكمة تكشف عن شخصية تعاني من الضيق والقيود.
“جنينة الأسماك” وصف حالة لا تخلو من نبوءة، خوف وتململ ومحاولة للتمرد، أيام صعبة عايشناها، مفارق طريق، وبدايات لنهايات قادمة، ولكن حتى من لم يعش هذه الأيام، فإنه سيتأمل وسيتأثر أيضا بحالات الشخصيات المأزومة، وبمحاولاتها للخروج والتحرر.
لا شيء يهزمنا مثل الإستسلام، ولا شيء يستحق المحاولة مثل أن تواجه نفسك ومخاوفك، وأن تتذكر أنك إنسان، ولست سمكة في ماء، داخل حوض زجاجي مغلق، يتفرج عليها الناس، ثم يغادرون.