“جزيرة شاتر”.. معني أن تكون مجنوناً رغم العقل!
هناك من الأعمال السينمائية ما يحتاج من المشاهد إلى قدر كبير من التأمل والتفكير طوال أحداث الفيلم، وإلى ما بعد انتهاء الأحداث، لأنه في الغالب يثير عديداً من الأسئلة، التي ربما يعمل على حلها في النهاية، إلا أنه يعمد إلى أن يترك سؤالاً مفتوحاً قبل أن تهبط تترات النهاية، يحمله المشاهد معه بعد مغادرة صالة العرض، ربما إلى منزله أو مقر عمله، أو إلى حياته الواقعية كلها.
من هذه الأفلام فيلم جزيرة شاتر Shuterr Island))، الذي أخرجه مارتن سكورسيزي عام ٢٠١٠، وقام ببطولته ليوناردو دي كابريو، مارك رافالو، بن كنجسلي، عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتبة دينيس ليهان.
تحكي القصة عن مفتشين من التحقيقات الفيدرالية “تيدي دانيلز” (ليوناردو دي كابريو) ورفيقه الذي يعمل معه لأول مرة “تشاك” (مارك رافالو) يذهبان إلى المصحة العقلية التي تقع عل جزيرة شاتر، للتحقيق فى اختفاء السيدة راشيل سولاندو التي قتلت أطفالها الثلاثة غرقاً، لأنها كانت مصابة بمرض عقلي لم يهتم السيناريو بتوضيح أبعاده، ثم نكتشف فى النهاية أن تيدي هو زوج هذه السيدة، وأنه قتلها بعد أن أغرقت أبنائه، لذلك فهو نزيل فى هذه المستشفى، ويصور له خياله المريض أنه محقق فيدرالي بالمصحة.
قدم ديكابريو دوراً متميزاً يمثل محطة مهمة في مسيرته الفنية الواعية، ونجح في تجسيد دور الضابط المحقق، صاحب الماضي الدموي العنيف، الذي يتصرف كمحقق، ويجهل أنه نزيل أمراض عقلية، وقد ارتفع الأداء تدريجياً مع تصاعد الأحداث حتى لحظة الصدام والمواجهة بين حقيقته التي يعيشها وتلك التي حاول أن يسقطها من الوعي، كما جاء الأداء فى قمته في المشاهد الكابوسية، التي كانت تعكس تناقضاً حاداً بين منطقتي الوعى واللاوعي.
على مستوى الإخراج، اهتم سكورسيزي كثيراً بعناصر التكوين فى الصورة، في المشاهد الحلمية والكابوسية، وكذلك مشاهد المذبحة الجماعية. وكان للموت حضور تشكيلي يستدعى التأمل، فالجثث كانت مرتبطة بالثلوج على الأرض، ومتماسكة مع بعضها فى زاوية إضاءة تعكس روح التماثيل اليونانية القديمة ربما في إشارة إلى غياب الحكمة الغربية التي كانت منارة للإنسانية ذات يوم، ثم تحولت إلى بوابة للجنون في زمن الحرب. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن مشهد ديكابريو الذي جاء بالتوازي مع لقطات إضاءة سريعة على بعض تماثيل المصحة ذات الطابع اليوناني أيضاً، فبدا وكأنه أحد التماثيل ربما في إشارة إلى تجمد هويته، أو إبراز المفارقة بين العقل والجنون.
ويظل مشهد الفنار ذو شاعرية خاصة، لأنه يجمع بين الجمال والرهبة، كما أن رمزية الفنار فى الوعي السينمائي ترتبط بالأبعاد النفسية للشخصيات، وبالغموض، وبالأسرار التي تجد حلها بدخوله، بنحو ما أسس هيتشكوك.
وفى السياق نفسه، استخدم سكورسيزي الألوان الزاهية فى المشاهد الكابوسية، بينما استخدم الأسود والرمادي فى المشاهد الواقعية، ربما لتأكيد حضور اللاوعي وهيمنة الحلم على الواقع، وربما لإبراز ضبابية الواقع، وعدم قدرة تيدي على الإمساك بحقيقة ثابتة.
تعكس كاميرا سكورسيزي عالمين متناقضين، المصحة العقلية ذات الملامح الكابوسية المقبضة، الناجمة عن حالات المرضى المختلين الذين تم إيداعهم المصحة نتيجة لارتكابهم جرائم قتل مفزعة. وجزيرة شاتر البديعة التي تحيط بالمصحة، ربما تبدو الأجواء مخيفة ومقبضة، وتشي بأن ثمة شيئاً ما غامض يحدث في الخفاء، لكن سكورسيزي ينجح في الحفاظ على نوع من التناغم الغريب بين العالمين.
والحقيقة أن هذه الازدواجية هي التي تهيمن على مجريات أحداث الفيلم، ويمكن أن تكون مفتاحاً لفهم العديد من الدلالات التي يحملها. فالفصام هو عقدة البطل الأساسية، وهو التيمة المهيمنة على الشخصيات والأحداث. فالعالم الكابوسي للبطل يأتي بالتوازي مع العالم الواقعي، ويتداخل معه في معظم الأحيان. وللبطل شخصيتان واحدة حقيقية والأخرى اخترعها بنفسه هرباً من مواجهة حقيقة كونه نزيل بالمصحة لارتكابه جريمة قتل ضد زوجته، وهرباً من ماضية الدموي عندما كان جندياً في أحد معسكرات الحرب العالمية الثانية، وشارك فى قتل المئات فى مذابح جماعية بدم بارد.
ليس هذا فحسب، بل إن فكرة الجنون نفسها، يقدمها الفيلم باعتبارها معضلة ذات تفسيرين، ويأتي مشهد لقاء تيدي، الشخصية المخترعة، مع الطبيبة راشيل، فى الكهف خارج المصحة، ليؤكد هذه الحقيقة المزدوجة. فالجنون، وفقاً لتفسير الطبيبة، صناعة بشرية يقوم بها العاملون بالمصحة من أجل السيطرة على المرضى وجعلهم فئران تجارب، ووسيلتهم فى ذلك العقاقير أو إزالة جزء من المخ لحذف الماضي. لا تقدم الطبيبة تفسيرها للجنون على أساس طبي فحسب، لكن تدعمه بالنظريات عندما تستدعى مقولات كافكا التي تكشف عن الخدعة الكبرى فى فكرة أن تكون مجنوناً. عندما يتهمك الأخرون بالجنون، فإن كل تصرفاتك تُفسر في سياق هذا المعنى، بما فيها أدلتك التي تقدمها لتنفي عن نفسك الجنون!
وهي فكرة تقترب من رؤية ميشيل فوكو الفلسفية للجنون، غير أن الجنون عند فوكو صناعة مؤسسية، الجنون هو أن تعزل بعض الناس عن المجتمع وتضعهم فى مؤسسة متخصصة يطلق عليها المصحة العقلية، وهنا يقوم التصنيف بعمله، ليظل هناك مجموعة من البشر تُفسر تصرفاتهم على أنها شيء من الجنون، ومجموعة أخرى، لا تنتمي للأولى، تُفسر تصرفاتها على أنها عاقلة، بغض النظر عن حقيقة التصرف!
وفى هذا السياق، يكشف السيناريو عن حقيقة المسرحية الكبيرة، التي صنعتها المصحة كى تعيد تيدي إلى وعيه ويدرك حقيقته التي ظل يهرب منها طوال الوقت، وهي كونه نزيل بالمصحة تم إيداعه فيها بسبب قتله لزوجته. فكل الشخصيات التي كانت معه في المصحة، التي كان يحقق معها، وكذلك رفيقه في عملية البحث الذي وضح أنه طبيبه المعالج، لم تكن سوى أدوار تمثيلية يقومون بأدائها بالاتفاق، ضمن برنامج علاجي معقد.
وبالرغم من ذلك، يظل التساؤل قائماً، إذا أراد المشاهد أن يتجاوز الأفكار الجاهزة التي صاغها السيناريو، وأن ينظر من زاوية الشك الأكثر رحابة، هل تيدي كان مجنوناً وقاتلاً حقاً أم أنه كان ضحية للمؤسسة التي تلاعبت بمخه، وصنعت له عالماً بديلاً عن عالمه الحقيقي. بعبارة أخرى، أى العالمين أصدق عالم تيدي أم عالم شاتر؟
لعل في المشهد الأخير تكمن الإجابة، أو السؤال العميق. فبعد أن نجح برنامج العلاج مع تيدي، وبدأ يردد المعلومات التي يُفترض أنها حقيقية عن نفسه وماضيه، نجده جالساً مع تشاك طبيبه، فى حديقة المصحة وهو ينظر للآخرين نظرة ارتياب، ثم يميل على طبيبه محدثاً إياه أنه يشعر بالمؤامرة تجاه المحيطين بهما وأنهما ينبغي أن يعملا على الهرب. وهنا ينظر إليه “تشاك”، طبيبه في عالم المصحة ورفيقه في التحقيق في عالم تيدي، باستغراب. ويظل تساؤل تيدي ذو المغزى يتردد صداه في ذهن المشاهد: أيهما الأسوأ، أن تعيش وحشاً أم تموت إنساناً صالحاً؟
يطرح السيناريو هذا التساؤل في سياق قضية العنف التي قدمها بالتوازي مع أزمة تيدي النفسية، لكنها، في تحليلنا، إنما تؤكد على فكرة الفصام، وأن الاختيار دائماً يأتي بين طريقين متعارضين أو حقيقتين مختلفتين، وبهذا المعنى، ربما كان الجنون اختياراً أيضاً، بل، لعله اختيار العقلاء!