“جريمة الإيموبيليا”.. لا جريمة ولا تشويق
من أقدم وأعمق القواعد الدرامية التي صاغها أرسطو في كتابه “فن الشعر” أنه لكي تكون لديك مصداقية في عالم الدراما يجب أن تكون قابلا للتصديق، أي أنك عندما ترغب في “محاكاة” الواقع أو الطبيعة أو البشر في أفعالهم، يجب أن تصوّر ما يمكننا تصديقه مهما بدا غريبا أو “مستحيلا”، فهو أفضل كثيرا من محاكاة أمرٍ يكون قد حدث حقا في الحياة، لكنك عندما تصوغه دراميا يصبح مستحيل التصديق أو مثيرا للسخرية، وهذا تحديدا الانطباع الأوّلي الذي يخرج به المرء بعد مشاهدة فيلم “جريمة الإيموبيليا” للمخرج المصري خالد الحجر.
هذا فيلم أراد له مؤلفه ومخرجه الحجر أن يكون فيلما من أفلام التشويق والإثارة، واعتمد بالتالي على “حبكة” متخيّلة تدور حول شخصية مملوءة بالهواجس المرضية، ربما نتجت عن العيش طويلا في عزلة بعد وفاة زوجته التي سنعرف في ما بعد أنها انتحرت بسبب شعورها بالإحباط في علاقتها معه، ثم هاجر أبناؤه منها إلى كندا وقطعوا كل علاقة لهم به.
وهو يتطلع إلى العالم في توجّس من شرفة مسكنه في الطابق الخامس من أشهر عمارات وسط القاهرة السكنية، أي عمارة الإيموبيليا التي سكنها في الماضي عدد من ألمع الشخصيات الفنية والأدبية في مصر أمثال نجيب الريحاني ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد ومحمد فوزي وأسمهان وهنري بركات وكمال الشيخ، وغيرهم.
شخصية فصامية
الملاحظة الأولى تتعلق بعنوان الفيلم الذي يوحي بوقوع جريمة تؤدي إلى سلسلة من الجرائم الأخرى، بينما لا توجد جريمة، بل موت قدري يحدث دون سبب واضح، ربما نتيجة نوبة قلبية مفاجئة، مما يؤدي إلى شعور لدى بطل الفيلم وصاحب الشقة الكاتب “كمال حلمي” بالرعب، مما يؤدي بدوره إلى ارتكابه سلسلة من جرائم القتل، وهو ما يجعل الفيلم من البداية يفتقد المنطق الدرامي ويصبح غير قابل للإقناع. لماذا؟
الشخصية الرئيسية لكاتب شهير، كمال حلمي، تجاوزَ منتصف العمر، كئيب، رمادي، فاقد القدرة على التعامل مع البشر والعالم، لا تبدو عليه أي ملامح لعبقرية خاصة أو حتى حكمة خبرها بحكم تراكم السنين، بل هو أقرب ما يكون إلى البلاهة والتخلف العقلي.
والفيلم بالطبع لا يريد توصيل هذه المعاني السلبية إلى المشاهدين، بل على العكس، يريدنا أن نفهم أنه كاتب مرموق وموهوب ومشهور، لكنه فقط يؤكد بأكثر الطرق مباشرة وبدائية على أن الرجل مصاب بفصام في الشخصية (بارانويا)، وأنه يسمع باستمرار صوت رجل يخاطبه ويتحدث إليه ويبثّ في نفسه الشكوك تجاه الآخرين.
وعلى النقيض التام من مظهره وشخصيته المكتئبة المتشككة التي تعكس بالضرورة عجزا عن الفعل الجنسي، يستقبل الرجل في شقته الواقعة في عمارة الإيموبيليا الشهيرة، فتاة- صحافية تعرّف عليها عن طريق أحد مواقع التواصل الاجتماعي، جاءت بدعوى إجراء مقابلة صحافية معه.
أي أنه لم يكن يعتزم الانفراد بها وإتيان الفعل المشين معها لا سمح الله، لكنها تحاول منذ اللحظة الأولى إغراءه بشتى الطرق، لكنّه يصدها ويتشكك فيها، بل ويعرض عليها بعض المال لكي تتركه وتغادر، لكنها تتمادى في استجداء مشاعره بطريقة مبالغ فيها كثيرا، خاصة عندما تبالغ في إطرائه والتعبير عن وقوعها في حبّه ورغبتها في إقامة علاقة فورية معه إلى أن يستسلم لها بطريقة آلية لا تشي بوجود أي شعور لديه بالرغبة أو الاشتهاء.
يقع صاحبنا إذن في “الخطيئة” رغم تحذير الصوت المرافق له، ويصبح علينا أن نصدّق بعد ذلك أنها تذهب إلى الحمام لقضاء حاجتها فتصاب بألم لا نعرف كنهه، وتظل تعاني وتعاني في مشهد طويل ومفتعل ورديء من حيث التنفيذ، خاصة أن المخرج ينتقل بينه وبين الرجل في حجرة النوم وهو واقف لا حيلة له، إلى أن تسقط الفتاة ميّتة.
وعندما يقتحم كمال الحمام أخيرا نراها وقد أصبحت داخل “البانيو” وأنها تنزف دما من رأسها أيضا، فما الذي حدث؟ ليس مهمّا أن تسأل كيف حدث هذا، بل الأفضل أن تتجاوز مثل هذه الأشياء الصغيرة التي قد تفسد عليك متعة المشاهدة.
لكنك ستمضي لتجد أن كمال المرتجف المرتعش يستعين بصديقه (طارق عبد العزيز) المقيم في نفس العمارة، لكي يساعده في التخلص من الجثة بينما كان يمكن بكل بساطة إبلاغ الشرطة بما حدث لأن الفتاة لم تفقد حياتها نتيجة مشاجرة معه مثلا، ولم يطعنها بسكين كما سيفعل بعد ذلك مع عدد كبير من الضحايا المساكين الذين يشك في أنهم يسعون لابتزازه، أولهم حارس العمارة الذي يساعد الصديقين في التخلص من الجثة بعد تقطيعها إلى أجزاء ووضعها في أكياس بلاستيكية ثم رميها من فوق جبل المقطم في ليل القاهرة الرمادي!
غياب المنطق
الفيلم يدور داخل مكان واحد هو شقة الكاتب، وبعض أركان عمارة الإيموبيليا (يقول المخرج إنه صوّر في شقة أخرى خارج العمارة الشهيرة): في المدخل والردهة وأمام شقة صديق الكاتب، لا يغادرها سوى مرة واحدة لتصوير التخلص من الجثة، وهو ما اقتضى بالضرورة الاعتماد بشكل أساسي على الممثلين.
لكن الأداء الرتيب الأحادي السطحي الذي يعاني من النمطية والشحوب والافتعال في إبداء المشاعر وتعبيرات الوجه من جانب الممثل هاني عادل بوجه خاص في دور كمال، يثقل كاهل الفيلم إضافة إلى ضعف السيناريو الذي يريد إعادتنا إلى عصر “تمثيليات” التلفزيون الساذجة المتواضعة التي كانت تقتبس من أفلام عالمية برداءة، وكان التلفزيون المصري يعرضها في بداية ظهوره في أوائل الستينات، مع الفارق الكبير في مستوى أداء الممثلين بالطبع.
ومع ذلك فقد اجتهدت ناهد السباعي كثيرا في أداء دور الفتاة المغوية، ولكن خذلها رسم الشخصية في السيناريو وإدارة المخرج الذي دفعها إلى التكرار والمبالغة، بحيث فقدت القدرة على الإقناع رغم إدراكنا من أول لحظة أنها تخدع الكاتب.
لا يوجد في الفيلم ما يضفي أهمية خاصة على فرضية وقوع الحدث داخل شقة في “عمارة الإيموبيليا” تحديدا، ولا أهمّية تذكر لوجود صور معلقة على جدران شقة الكاتب لعدد من المشاهير الذين سكنوا تلك العمارة، على العكس مثلا من “عمارة يعقوبيان” الذي شكلت العمارة في الرواية (والفيلم) ركنا أساسيا في استقبالنا للشخصيات وعلاقتها بالعالم.
ولا يتجاوز السيناريو البعد السطحي الخارجي للقصص الساذجة، دون أن يحاول اختراق معالم أكثر عمقا تخبرنا شيئا عن هذا الكاتب وما الذي انتهى إليه وكيف أصبح يعاني من هذا الخلل النفسي الخطير، ولا لماذا قرر اعتزال العالم، وكيف أصبح وهو الذي ينتمي إلى جيل “الورقة والقلم”، قادرا على نسج علاقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت؟
ومن عيوب السيناريو، الذي أريد له تقديم فيلم من أفلام التشويق والإثارة، أنه حينما يقدم مفاجأة في النهاية بأن هناك شخصا ما يقف وراء جرائم القتل وهو الذي دفع الفتاة من البداية إلى إغواء الكاتب طمعا في ابتزازه، أن الكشف عن تفاصيل “العقدة” يأتي كله عن طريق الحوار والشرح الكلامي، ولا يبدو مقنعا لأن عليك أن تعود في خيالك لترى إن كان بوسع هذا الشخص بالفعل القيام بكل ما حدث في ذلك الزمان والمكان.
وكيف قام بتصوير شريط فيديو للكاتب مع الفتاة في الفراش، وكيف أمكنه ذلك، ثم كيف تمكن من وضع الهاتف المحمول في يد صديق كمال لكي يشك فيه وبالتالي يمكن التخلص منه، وهل كان محتما أن يتم قتل كل هؤلاء على نحو مجاني تماما لكي يتمكن هذا الرجل الذي يتضح أنه زوج الخادمة التي تتردد على شقة كمال، من ابتزاز كمال؟
ليس مهمّا أن تعرف الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، المهم أن تقبل كل ما لا يمكنك قبوله حتى لا تفسد على نفسك القدرة على الاستمتاع بالفيلم، ولكن هل استمتعت حقا؟ الانطباع النهائي سيكون التحسّر على ما آلت إليه سينما الجريمة في مصر بعد سنوات طويلة من رحيل المخرج الشهير كمال الشيخ، وسيصبح شعورك بأن هذا النوع السينمائي ربما لم يولد وينضج ويكبر ويرسخ منذ العشرات من السنين على يدي سيد سينما الجريمة ألفريد هيتشكوك