“جراد البحر”.. كوميديا سوداء عن الحب والحرية

يقدم فيلم “The Lobster” أو “جراد البحر” حكاية مجازية مليئة بالخيال والروح الساخرة عن  حرية الحب، وعن حب الحرية. الفيلم الذى حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة فى مهرجان كان 2015، والذى اشترك فى بطولته عدد من النجوم والنجمات من جنسيات مختلفة، يفترض عالما يريد أن يجعل الإنسان تحت السيطرة، حتى فى أبسط وأقل حقوقه فى الإختيار، سواء فى الحب أو فى الزواج،  ولا يبقى له بعد ذلك سوى الحق فى اختيار أن يتحول الى حيوان يناسب ذوقه! وإذ يجعلنا الفيلم نضحك من هذا التناقض، فإن العمل الممتع الذى أخرجه واشترك فى كتابته اليونانى يورجوس لانسيموس، يدين القهر باسم النظام، ويرفض تدمير إرادة الإنسان الحرة، وهى فكرة شغلت نفس المخرج ، وقدمها  من قبل بطريقته الخاصة والحرة فى فيلمه الشهير “Dogtooth”.

نحن إذن أمام ما يقترب من الأمثولة الرمزية التى تصطنع عالما مستقبليا مجردا من زمن محدد أو مكان معين،إنها حالة افتراضية لما يمكن أن نكون عليه لو أخذنا من الفرد إرادته الخاصة، تحت لافتة “مصلحة المجموع” أو “مصلحة المجتمع”. يمكننا أن نعتبر “جراد البحر” من زاوية واسعة فيلما فى تمجيد الحرية الفردية، ذلك أن كل فرد هو عالم بأكمله، ومن المستحيل تحويله الى رقم ضمن آخرين. كل فرد له تجربته المستقلة التى لا يمكن أن تتحول الى قانون لكل البشر. إنه فيلم ضد فكرة السلطة والتسلط على  إرادة الفرد، حتى لو كان هذا الفرد عضوا فى مجتمع ما.

 ضحك مؤلم

ينبع ذكاء الفيلم من اختياره أن يسلب حرية الفرد فى أحد أكثر شؤونه حميمية، وهو حق الحب، كما ينبع من ذلك الخيال الخصب الذى اصطنع معايير صارمة جعلت أبطاله يتحولون الى آلآت متحركة، فيثيرون الضحك المؤلم، تماما كالضحك الذى ينجم عن العكس، أى تحويل الآلات الى بشر لهم مشاعر وأحاسيس.

أبطال الفيلم يرتدون البدل والفساتين الأنيقة، ومظاهر المدنية الحديثة موجودة وحاضرة، ووسائل الإنتقال المعاصرة هى تلك التى نراها فى كل مكان، ولكن الغرابة فى تلك القوانين التى تحكم المدينة وسكانها، والتى تفرض على كل عازب، وعلى كل من أصبح وحيدا بلا زوجة، أن يعيش قسرا فى فندق خاص، لمدة 45 يوما، وعليه خلال هذه المدة، أن يجد شريكة لحياته، من بين نزيلات الفندق، وإلا فإنه سيتحول  الى هيئة حيوان من اختياره، ولن يعود إنسانا الى الأبد!

بطل الفيلم ديفيد (كولين فاريل)  لن نعرف اسمه إلا بعد وقت طويل من الفيلم، وبطريقة عارضة، فالأسماء هنا لا قيمة لها، وإنما  يتحدد البشر بأوصافهم. الرجل كان يعمل مهندسا معماريا، فشل فى حياته الزوجية، وهاهو يدخل الفندق الذى يطل على البحر، مصطحبا كلبه بوب، الذى لم يكن فى الحقيقة سوى شقيقه، الذى فشل فى اختيار شريكة الحياة أثناء إقامته بالفندق، فتحول الى كلب ! أما ديفيد الذى يبدو كشخص مسالم ووديع بنظارة طبية، فهو يختار فى حال فشله فى اختيار زوجة أن يتحول الى “جراد البحر”، ويبرر ذلك بأن هذا الكائن البحرى يعيش مائة عام، ويظل متمتعا بالخصوبة طوال هذه الفترة الطويلة.

يسخر الفيلم من الحياة المنظمة فى الفندق العجيب، الذى تديره سيدة صارمة وزوجها، والاثنان يغنيان للنزلاء، ويقدم الفندق مواقف وعظية تمثيلية مباشرة عن أهمية أن يكون هناك رجل مع المرأة، والعكس صحيح، أما لوائح الإقامة فهى شبه عسكرية، إنهم يتدخلون حتى فى حياة النزيل الجنسية، يقيدون يد ديفيد اليمنى، لكى لايستخدمها فى ممارسة العادة السرية، ويضعون قفلا فوق حزام بنطلونه، بما يذكرنا بحزام العفة الذى كانت تكبل به النساء فى العصور الوسطى، وكل ما يحصل عليه من متعة جنسية، مصدره إثارة تقوم بها خادمة الفندق، ولكن لا توجد حياة جنسية كاملة قبل الزواج.

ومن أغرب قواعد الفندق أن يقوم النزلاء برحلات لصيد العزاب، باستخدام بنادق تطلق أسهما مخدرة، وكلما اصطاد أحدهم عددا من العزاب، زادت فترة الإقامة فى الفندق، وزادت بالتالى فرصة النزيل فى الإختيار المتأنى لشريكة حياته، وهو اختيار تحت القهر والتهديد بالتحول الى حيوان كما ذكرنا من قبل.

يتعرف ديفيد على نماذج متعددة من النزلاء والنزيلات، هناك مثلا روبرت (جون ريلى) الألثغ فى نطق الحروف، والذى يضبط مخالفا قاعدة منع الإستمناء، فيحرقون يده اليمنى ، و هناك جون ( بن ويتشاو) الأعرج الذى ماتت زوجته، والذى تحولت أمه الى ذئبة، بعد أن فشلت فى اختبار شريك الحياة. يشعر جون بالقلق من نفس المصير، فيقرر الزواج من فتاة نزيلة تنزف طوال الوقت من أنفها (جيسيكا باردن)، ويدعى كذبا أنه يعانى من نفس الحالة، إنه يفضل حياة زوجية مزيفة ، بدلا من أن يصبح حيوانا.

ديفيد الذى كان يضع احتمال أن يتحول الى جراد للبحر، يشعر أيضا بالخطر، فيقرر أن يتزوج من امرأة خالية من المشاعر ( أنجيليكا بوبوليا)، بل ويتظاهر أمامها أنه يتمتع بنفس القسوة والحدة، ويعيش معها حياة آلية تماما، حتى فى لحظاتهم الجسدية الحميمة، ولكنه ل ايتحمل قيامها قيامها بقتل كلبه/ شقيقه بوب. ينجح ديفيد أخيرا، بمساعدة خادمة الفندق (آريانا لابيد)، فى الهرب من الفندق الى الغابة.

اللعبة المعكوسة

يتصور ديفيد أنه سيستعيد إرادته، ولكنه يجد نفسه وسط مجتمع من العزاب رجالا ونساء، تسيطر عليه امرأة قوية الشخصية وصارمة ( ليا سيدو)، وتضع قوانين تمنع الزواج، وتعاقب أى اتصال جسدى عقابا دمويا مؤلما، حتى لو كان الأمر مجرد قبلة. أعضاء مجتمع العزاب يرقص كل منهم بمفردهم، وكل واحد عليه أن يحفر قبره، وأن يكون مستعدا للموت، كوسيلة ينقذ بها نفسه، قبل أن يأسره نزلاء الفندق، مما يجعله معرضا لكى يكون حيوانا فى أى وقت.

 تجربة ديفيد  فى الغابة لعبة معكوسة لما حدث معه فى الفندق، وفى الحالتين فإن هناك سلطة قاهرة تحاصر الحرية والحب معا، وتفرض على أفراد المجتمع قوانين عامة، بينما هم شخصيات مستقلة، فى الفندق: إجبار على الزواج تحت ضغط الوقت، وتحت التهديد بأن يتحول النزيل الى حيوان، وفى الغابة: إجبار على العزوبية تحت التهديد بالعقاب، مع تحويل الحياة الى انتظار دائم للموت، بأن يحفر كل فرد قبره بنفسه.

ولكن ديفيد يقع فى الحب مع زميلته فى الغابة ( ريتشيل وايز)، التى جعلها السيناريو تروى الحكاية، فنسمع تعليقها على حياة ديفيد سواء فى الفندق أو فى الغابة. الفتاة توصف فقط بأنها تعانى من قصر النظر مثل ديفيد، وسيكون هذا الأمر أحد عناصر التشابه التى ستقربه منها، ولكنها أيضا مختلفة عنه فى حبها للأرانب، التى يصطادها، ويقدمها لحبيبته. وبعيدا عن عيون السلطة، يصطنع الحبيبان إشارات يتفاهمان بها.

ينتقل السيناريو بذكاء الى المدينة  بعد أن شاهدنا الفندق ثم الغابة، قانون المدينة هو أنه لا مكان للعزاب، ولذلك تصطحب سيدة الغابة رفيقا معها، ويذهب ديفيد مع حبيبته قصيرة النظر، كلما احتاج أفراد الغابة شيئا من المدينة، أو كلما أرادت سيدة الغابة أن تزور أمها وووالدها. المدينة عصرية تماما، وستكون رحلات سيدة الغابة وديفيد، فرصة إضافية  لإطلاق الضحكات، سواء فى ادعاء الإرتباط، وإبراز رخصته أمام رجال الأمن، أو فى محاولة ديفيد اختلاس القبلات من حبيبته، منتهزا فرصة أنه فى مدينة ترفض عزوبية الغابة.

يمتد خيط ما بين الغابة والفندق، عندما نعرف أن خادمة الفندق ليست إلا جاسوسة لسيدة الغابة،  وعن طريقها تنجح سيدة الغابة فى كشف زيف مشاعر سيدة الفندق وزوجها، وينجح ديفيد فى كشف أكذوبة جون أمام زوجته، وكانا قد أنجبا طفلة فى لا زمن تقريبا، إنها ثمرة القهر والخوف والكذب.

عندما تعرف سيدة الغابة علاقة ديفيد بحبيبته، تنتقم منها باصطحابها الى طبيب عيون، لعمل نظارة طبية، ولكنها ترتب لكى يقوم الطبيب بسلب بصر حبيبة ديفيد، يعرف ديفيد بما حدث، فيتمسك أكثر بحبيبته العمياء. ينجح فى تقييد سيدة الغابة، يتركها للذئاب، ويهرب مع حبيبته الى المدينة من أجل الزواج، ولكن قبل أن يتزوجا، يقرر دفيد باختياره أن يفقد بصره، حتى يكون مثل فتاته سواء بسواء. الآن فقط يعود ديفيد الى المدينة، ولكن بإرادته، وفى صحبة الحب والحرية معا، بل إن الفيلم يعتبرالأمرين شيئا واحدا، الفندق يقيد الحرية، والغابة تمنع الحب، وديفيد وحبيبته يدفعان ثمن استعادة الاثنين، ولو كان ذلك من عيونهما ، بالمعنى الحرفى لا المجازى للكلمة.

نجح يورجوس لا نسيموس فى صناعة عالمى مواز للواقع يغلفه الخيال الممتع، وتثريه السخرية الذكية. الصورة مصقولة مثل كروت البوستال، ولكنها باردة وخالية من الروح، سواء فى الفندق أو فى الغابة أو فى مدينة القهر. هناك اختيار موفق للغاية للممثلين، كولين فاريل بالذات كان رائعا فى التعبير عن شخصية ملتزمة وأقرب الى الآلة، ولكنه يتغير تدريجيا الى الفعل عندما يحب. نساء الفيلم قويات عموما، بما فيهن حبيبة ديفيد، وهن قائدات للفندق وللغابة وربما للمدينة، فى أحد المشاهد مثلا نرى حبيبة ديفيد وهى تحاول قتل سيدة الغابة، ولكن الأخيرة تدفع خادمة الفندق الممتثلة لأوامرها، لكى تحل محلها.

فيلم “جراد البحر” يلجأ الى الخيال لكى يقول أشياء هامة عن واقعنا المعاصر، هناك قلق واضح على الإنسان كفرد له إرادة مستقلة، وهناك مخاوف مبطنة  من فاشية مستقبلية قد تطفو على السطح بحجة حماية المجتمع، أو  تحقيق النظام. إننا أمام سخرية تستبق أى محاولة من هذا النوع، وإذ نضحك من حال أهل الفندق، وأناس الغابة، وسكان المدينة، فإننا ننحاز مقدما  ضد أى تفكير (مجرد تفكير) ، يريد أن يجعل من الفرد، ترسا فى آلة ضخمة، يسمونها المجتمع.

Visited 43 times, 1 visit(s) today