جدليات الانسان والصورة في فلسفة السينما
السينما تتحرك في النصوص الفلسفية كاللص الخفي، وايضا الفكرة الفلسفية تخفي نفسها في اللقطة والمشهد بكل براعة، فالسينما والصورة هي دليل حي لفكر الانسان وجمالياته وافكاره، وهي محاولات لتجاوز الواقع في أحيان معينة، وايضا تحاول تجاوز اشكاليات الانسان الفكرية والوجودية في احيان اخري، وفي هذه المقالة نحاول معرفة وتفكيك الخيال الفلسفي والفكري والمعرفي بالسينما وبالصورة وبالخيال البصري.
الانسان سينمائيا
هناك خيال سينمائي يوجد دائما لدى البشر عندما يكتبون ويفكرون، فالانسان يتميز بالخيال، والسينما خيال، فحتما هناك مجموعة سينمائيين وفنيين من مخرجين وكتاب سيناريو ومتخصصين في المونتاج والتصوير، يقبعون ويعملون بجدية في خيال الانسان وفي لاوعيه وفي بصره، فعين الانسان تلتقط الاشياء عن طريق الصورة، والانسان يعي الاشياء بعد مشاهدتها بالعين، الادراك يبدأ بصورة.
والانسان بطبعه سينمائي منذ القدم، فالسينما موجودة في الانسان وكامنة فيه قبل اكتشافها منذأكثر منقرن في شكل افلام وصور سينمائية وفيلمية، وما حدث هو تحويلها الي شئ مادي ومتحقق في الواقع، ولكنها تعمل منذ القدم عن طريق لغة الانسان والابصار، والخيال البشري، لذا فان تتبع السينما في الأدب والفلسفة والافكار أمر ليس غريبا وليس مستحيلاً، وتتبع الفلسفة والادب والافكار في السينما ايضا امر ليس شاذا، او اختراعا وهمياً، فمن انتج السينما هو الانسان، وهو الذي يشاهدها ويحللها، ويتمتع بها.
فوكو يفكك سلطة الصورة
لاوعي الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو فككت سلطة الصورة في السينما، سلطة السرد الحكائي التقليدي، ومحددات ارسطو للدراما، هامش السينما من بيلاتار وتاركوفسكي وبرجمان يدعمها فوكو، في استطيقيا التفكيك وما بعد بنيوية تفاصيل المشهد.
جلاد الصورة وسلطة المخرج، ستقف خارج منظار فوكوني خارق، فيصبح المشهد السينمائي بلغة فوكو مشاركاً في صنع المشهد وتأويله، فليست هناك صورة تزهو بنفسها، تسيطر علي بدايات السينماتوغراف ونهاياتها، تصبح الصورة هنا هامشا، والمشاهد مركز في أحيان قليلة لاثبات فعل المقاومة لدي المشاهد، وفي احيان كثيرة ليست هناك سلطة أو مركز، بل مجرد صور تأويلية مفتوحة دون اي قيود، وهنا تكسب لغة المجاز.
حيل فوكو لتفكيك سلطة الصورة في المادة الفيلمية، يجدها المخرج في المجاز، فوكو يؤسس لميكروفيزياء الصورة بدون قصد، كما اسس بقصد ميكروفيزياء السلطة، السلطة توجد في كل شئ، الدعوات الفوكونية للتحرر هي دعوات ماركسية يسارية ضد السلطة، ولكن ليس بدافع ايديولوجي وتطبيق برنامج سياسي، فماركسية الفيلم تأتي من تمرده علي سلطة المخرج والصورة، كارل ماركس حاضر في ثنايا افلام تاركوفسكي في وعي شارد ولاوعي متحقق.
اختراق حاد في ثنائية الزمان والمكان، وتفاصيلهم المستمرة لتكوين المشهد والصورة، ارسطو يتم طرده، ليحل محلهم ثلاثية مابعد الحداثة في الفلسفة نيتشة وماركس وفرويد، ويفكك بهم فوكو سلطة المكان والزمان في الصورة، يصبح الامر كرجل يمشي علي الماء.
حفريات فوكو في السينما تحيلنا الي تقدم السينما في هدم السلطوية في منتصف عمرها، وهي اسرع من حيث النشأة من هدم السلطة في المعرفة، او في الادب، وليست هناك مقارنة معه بهدم السلطة السياسية. وحتي لو سعت الصورة لهدم السلطة السياسية في الفيلم، فهي ماركسية للصورة من تقليدية قديمة، مقاومة مباشرة للسلطة، لتستمر السلطة السياسية في قهرها لوعي المشاهد، وان كان فيه فعل تغيير عبر الصورة والخيال، فهي قادرة علي ازاحة اي مستبد وسلطوي ضد الفرد، انه الفن السابع، فن الصورة والخيال اللامحدود وفائق التأويل.
سيندهش فوكو من هذا الاختراق ضد السلطة، ولكن هناك سلطة الفكرة وسلطة صانع الفيلم،في السينما العظيمة لكبار السينمائيين سنجد التحرر من هذين السلطتين موجود، فليس هناك فكرة سطحية سلطوية لقهر وعي المشاهد سنجدها، وهي بذلك الفكرة، او تعرض عرضا تشويقا مبهرا، ولكن يكون اشده في تقنية المجاز والتأويل اللامحدود، فصور المجاز السينمائي هي اشد الصورة الاكثر تحررا للسرد السينمائي، فاللامحدودية هنا مفتوحة وكثيرة، في اوجه عدة.
ما بعد الحداثة في السينما
خطابات السينما العظيمة والمدهشة لكبار المخرجين، منذ فيلليني وجودار وبرجمان الي انجلولبوس، وبيلاتار وجودرفسكي، تجاوزت رحابة الخطابات الفلسفية للفن والجماليات، فاشكالية التمثل في الفن وابعادها المتعددة من علاقة الواقع بالعمل الفني، لا يمكن تطبيقها في سينما هؤلاء المخرجين، وأشكالية النص واللغة، او الصورة والفكرة، او الرؤية واللغة في جدلية الفن ليس لها مكان، ومن اخصب واعقد خطابات هذه السنيما فكرة المجاز التي لا تنظر لها فلسفة بعمق ما انتجته هذه السينما.
حتي فلسفة ما بعد الحداثة المعاصرة التي تسود الخطابات الفلسفية التي يمكن الارتكان اليها، لتفسير وتحلليل الخطاب السينمائي، فهي بلا نظرية في الجمال او الفن محددة، مجرد تطبيقات فردية، وان كانت هذه ميزة لعدم سلطوية نظرية في تفسير الفن، ولكن احد ابعادها وهو يتعلق بعدم التميز بين الذوق السطحي والعميق للفن، فليس هناك حدود في التذوق، مما يقلل جماليات الصورة في السينما، حتي اذا الفيلم ليس عميقا، ولكن هناك حدا من التذوق الجمالي يجب الاستناد عليه، وهي ممكن ان تكون مرحلة وسطي، ولكن ما بعد الحداثة لا تعترف بتلك الحدود.
ما يمكن الركون اليه، هو التناص الفلسفي السينمائي، لنجد فوكو في كتاب الكلمات والاشياء قابعا في فيلم جودار الاخير نهاية اللغة، وهذا تناص فكري جمالي ادبي، ونجد دريدا في كتابه اطياف ماركس يغازل تاركوفسكي في فيلم المتسلل، كروح الفكرة وتقنية السرد الفلسفي او السينمائي. ونجد شوبنهور وفيورباخ يحيطان بروح شخصيات فيلم بيلاتار المعنون تانجو الشيطان، وتعالية نيتشة وفكرية ديستوفيسكي.
وذلك يعني ان السينما اصبحت لها خطابها الخاص يغازل ويسير مع خطابات الفلسفة، ويحدث تعارض ونقاش داخلي بينهم، وهذه الطريقة في التحليل هي طريقة ما بعد حداثية، والرفض هنا لا يأتي ضد الخطاب مابعد حداثي برمته، ولكن رفض للخطاب الجمالي والفني لهذا الخطاب، فليس هناك نظرية جمالية ما بعد حداثية، فهناك اراء علي الحواف في تطبيقات، ولكن الاستعانة بافكار البينوية وما بعد البنيوية، وتحليل الاعلام والصورة لدي بورديار يظل مهما.
دولوز وغوتاري في رحابة السينما
في كتاب الفيلسوف جيل دولوز والمحلل النفسى فليكسى جواترى، ضد أدويب، نجد صورة سينمائية متعددة، خيال خصب، رحابة في اللامحدود، فهناك خليط بين اللسانيات والاقتصاد والاثنولوجيا، والتحليل النفسي، والمعرفة، واللغوية ما بعد حداثية، فهناك غرائية روائية في هذا الخليط، وفي الاسلوب، ومن الصعوبة فهمه، فنجد المجاز السينمائي.
دولوز وغوتاري ضمن فلسفة ما بعد الحداثة، وهي فلسفة اصلها جمالي، فهي صورة مرئية وسرد روائي للتفلسف، فتجد الكتابة اشبه بالصور السينمائية المتتابعة، بعيدا عن اشكاليات فلسفة الفن التقليدية، اقرب هذه الفلسفات هو مجاز ثيو انجيلوبولوس السينمائي، وتشريحية وتقطعية جودار الفرنسي في صوره الفلسفية في كارد فيلمي.
الكتاب يفكك فكرة اللاشعور لدي فرويد، وهي فكرة مرتبة بأدويب، حيث المجال الفرويدي للتحيل هنا هو مجال الاسرة، ويتحول الجهاز النفسي لدي دولوز الي مجال اكثر رحابة، اجتماعي وكلي وسياسي، ويصبح مجال اللاشعور المرتبط بالرغبات مجالا مشتركا بين الناس وليس ملكية خاصة.
يخرج مجال اللاشعور من التحديد الفرويدي الي مجال واسع متعدد علي كذا صعيد، ويصحب الامر تجاه ذلك اقرب الي التأويل المتعدد، اختلاف متنوع، امامنا روايات عديدة اتجاه اللاشعور، المسرح النفسي هنا هو سينما معقدة متخلفة ومتعددة.
وانتقد دولوز وغوتاري الرأسمالية في اطار جمالي محض، حيث مفردات (اللعب، الحب، اليوطوبيا، الفن) لا يمكن الحديث عنها في النظام الرأسمالي الانتاجي، ومن يفلت من هذا النظام يكون فصاميا ومجنونا، فهو يمتلك رغبة جامحة ضدية للرأسمالية، يقصد دولوز ان ضدية الرأسمالية هو الفنان الثوري، الروح الغاضبة.
ليعلن أن الثورة هي جماليات مثالية، روح ثائرة تبعثر المعني والاختلاف من اجل التغير، جماليات السينما تماثل هذه الروح، فالسينما جماليات غير محدودة، يريدها دولوز كمفتاح للحرية من براثن الرأسمالية والقيود والعبودية.
عندما يصبح ماركس سينمائيا
مارس ماركس الصحافة والسياسة، من اجل الحشود، كان يعد كل جهده في افكاره ونظرياته لاساليب مكافحة الرأسمالية من اجل الحشود، الجماهير المظلومة، وهو يكتب كلمات الثورة في ذهنه صور الرأسمالية، فيهزم هذه الرأسمالية بحكاية عن الاقتصاد السياسي وثورات الأمم وديناصور الرأسمالية، والجماهير التي تشارك في الثورة تشاهد هذا المشاهد السينمائي الماركسي، بكل فخر ودعاية، الفكر الماركسي هو اهم فكر فلسفي يمثل حكاية سينما الجماهير.
التداعي البصري للانسان دائما صور، فالوعي يتصدره صور وراء بعضها، يكون منها الفرد حكايته الخاصة عن الكلمات والاشياء، لذا السينما في الوعي وفي الفرد حاضرة منذ القدم، وما تم اظهاره هو حضور السينما الي الواقع المادي، لذا اصبحت الفن الاكثر جماهيرية وشعبية بين كل الفنون والاشياء.
وماركس يكتب بالصور، يري جماهير كثيرة مظلومة بعيونه، فهذه الصورة المتألمة لهؤلاء الجماهير تجعله يتجه نحو عالم مثالي رومانسي شيوعي عبارة عن صورة في ذهنه صعبة النجاح والتحقق بشكل كامل، انه الخيال الماركسي، صور لحياة الانسان في حالة سعيدة، احلام ماركسية متفائلة، اصطدم بكارثة واقعية في القرن العشرين علي يد الكبار الشيوعيين.
هذان صورتان لماركس، الصورة الاولي رؤية الجماهير، والصورة الثانية عالم الشيوعية الذي ينظر اليه، الصورة الثالثة دعوته الدائمة عن طريق المقالات الصحفية والمشاركات في الاحزاب الشيوعية في المانيا وفرنسا وفي العالم كله، فالتاريخ السياسي لماركس وانجلز علي ارض الواقع حافل بالمغامرات التي ادت الي صعوبات معيشية لهما ومضايقات امنية كثيرة، هو يقف علي المسرح السينمائي يقوم بدوره لتوجيه الجماهير نحو الحياة الخيالية الرومانسية الجميلة، وهم يشاهدون ويشاركون احيانا من اجل رفض الواقع والتمرد عليه.
هناك الاتحاد السوفيتي اهم تجربة اشتراكية ماركسية في التاريخ البشري، كان يعتمد علي الحكاية والصورة والدعاية، وايضا كل التجارب الاشتراكية من المجرية والرومانية والمانيا الشرقية هي تجارب سينما الحشود، فهذه التجارب عندما تحولت الي افلام سينمائية، كانت فوق السينما، فالحكاية الماركسية هي حكاية بصرية جمالية بحتة، وبذلك عندما تحولت سينما ماركس اقصد الحياة الخالية الرومانسية الي واقع وجدنا الكوارث والصراعات وذهبت سريعا الي مكانها الخيالي.
وهذا يحيلنا الي ان الايديولوجية السياسية هي صورة سينمائية مدهشة، تستلزم احزاب سياسيه بها برامج سياسية واعضاء، واعلام، ودعاية سياسية، وجماهير تحمل الايديولوجية السياسية، وهو ما يعني ان الايديلوجية السياسية بها عناصر السينما، بل هي سينما خام، دون ايهام وخيال فيلمي، والافكار الايدلوجية النظرية تستلهم الصور والسرد الحكائي للبشرية والشعب والجماهير لكي تكتب نفسها بكل
داروين سينمائيا
حينما يصبح داروين سينمائيا يمسك بصور الضفادغ وحشرة مدمنة رائحة الكحول، ويتأملها، يفهم طبيعة الصراع في الطبيعة، عبر صور تتثمل في ذهنه، يبتعد قليلاً عن سرديات الانسان وحكاياته ويركز مع سرديات الطبيعة، هو اشبه بافلام السينما الصامتة المتجردة من ظهور الانسان، فالمشاهد يري سينما داروين وهي تجسد الطبيعة في تجلياتها الصراعية.
سينماه تنتقل بين صور الطبيعة، بدون جمهور ينتظره، فحكايات داروين السينمائية هي حكايات صامتة جليلة صعبة الاقتراب، واقعية شرسة، صادمة، لا تجذب المشاهد، ولكنها حكاية سينمائية، تكونت في عقل وذهنية داروين، فهو يتحرك في ابحاثه عن طريق صور الحيوانات والنباتات، وفي نفس الوقت قطع صلته بالجماهير.
داروين ملئ بالحكايات المدهشة في قصصه في الطبيعة، والزهور والنباتات والاشجار، هي اقرب الصور الشعرية والادبية، هي تعبر عن مغزي الحياة وسر الوجود والانسان في مجازها وتعقيدها، وحكاياتها المتعددة والمختلفة.
الطبيعة هي سر الجليل في جماليات السينما، هي خوف الانسان الدائم، هي شعور بالرهبة والرعب سواء كانت جماليات طبيعة مدهشة يشعر الانسان تجاهه بالاستغراب والدهشة الكبيرة، او جماليات طبيعة مرعبة مليئة بالبراكين والزلازل او حيوانات مفترسة تشعر الانسان بالخوف والشديد والسعي نحو الهرب بنفسه لايجاد مكان امان له، هذه الجونب يلعب بها داروين في تحليله لطبيعة الصراع.
اهم عنصر في السينما هو حكاية الانسان وصورته، تحدث عنها داروين بخجل وأن الانسان تطور خلال رحلته منذ البداية، فهو يخفي الانسان، حيث الانسان في سينما داروين، هي نتيجة مبهمة، معتبره انعاكسا صعب التأكد منه ومن ظهوره.
داورين سينمائيا خجولا، يفتقد للكثير من ابعاد السينما المتعددة، ولكنه سينمائيا، يعتمد علي الصورة والحكاية في التفكير الفلسفي والعلمي، فهو بصريا ضخم، ولكنه ليس مثل ماركس يتحدث للجماهير، ويسعي لاحلام جماهيرية، فسينما داروين، هي سينما تعليمية وثائقية، مفيدة، هي دليل سينمائي معلوماتي مهم، يشرح للانسان قصته، وقصة الطبيعة والحيوانات والاشجار والنباتات يحكي قصة عن الخلق والوجود.
سينما داروين واضحة وبعيدة عن جماليات الرمز والمجاز والتأويل، وبعيدة ايضا عن السينما الشاعرية والمثالية والرومانسية الحالمة، هي سينما واضحة المعالم، صادمة وقاسية، ومعلوماتية وواقعية بشكل كبير جدا، فداروين يرتكز في فكره العلمي والفلسفي علي فكرة الصراع من اجل البقاء، ومصطلحات مثل الانتقاء والتطور، والصراع، الطبيعة، البيولوجيا، علم الاحاثة، هي سينما الطبيعة بامتياز.