جحيم الحدود ويوميات “مجاهد” متقاعد

من الأفلام التي عرضت بمهرجان روتردام 2008الفيلم الأردني، من النوع غير الخيالي non fiction”إعادة خلق” Recycleللمخرج الشاب محمود المسـاد.

هذا الفيلم يعد واحدا من أفضل ما شاهدت أخيرا من أفلام ممن يطلق عليه البعض “وثائقية” أو “تسجيلية”، غير أن التسمية الأفضل بالنسبة لهذا النوع من الأفلام تظل “غير خيالية” non fictionفلا يصح وصفها مثلا بأنها “غير درامية” فالدراما لا تنتج فقط عن الأفلام القصصية أو الروائية، بل أيضا عن الأفلام التي تسجل حياة شخص أو أكثر.

ولا يصح أيضا وصفها بالأفلام الوثائقية، لأنها لا تعتمد فقط على التوثيق لحدث وقت وقوعه أو على استخدام الوثائق المصورة، ولكنها تعتمد أحيانا على إعادة قيام شخصية ما بأداء ما تفعله عادة في حياتها اليومية بينما تدرك أن الكاميرا تصورها، أي أن فيها نوعا من “التمثيل” على نحو ما، ولكن بطريقة أقرب ما تكون إلى حقيقة الشخصية.

“إعادة خلق” (وهي تسمية غير دقيقة لكلمة recycleالانجليزية فمن الأفضل استخدام “إعادة تصنيع” أو حتى “تدوير”) يتناول موضوعا على درجة كبيرة من الأهمية في عالم اليوم، تتعلق بجذور ما يسمى بـ “الإرهاب”.

نشأ مخرج الفيلم محمود المساد في مدينة الزرقاء الأردنية التي اشتهرت بأنها المدينة التي ولد ونشأ فيها “زعيم تنظيم القاعدة” في العراق أبو مصعب الرزقاوي الذي قتلته القوات الأمريكية هناك عام 2005. والزرقاء هي ثالث أكبر مدينة في الأردن، وتقع على مسافة 25 كيلومترا جنوب شرق العاصمة عمان، ويبلغ عدد سكانها حوالي مليون نسمة.

مجاهد سابق

يعود المساد إلى مدينته لكي يحاول أن يفهم كيف أصبحت على ما هي عليه، وكيف كان ممكنا أن يخرج منها الزرقاوي وأمثاله، وكيف يفكر شباب المدينة الآن، وكيف يعيشون ويشعرون، وهل هناك مستقبل أفضل ينتظر هؤلاء الشباب، وغير ذلك من الأسئلة والتساؤلات المقلقة.

ولعل الجانب الجيد في الفيلم أن مخرجه شاء أن يتناول هذا الموضوع المعقد من خلال “بطل” فردي أو شخصية رئيسية، هو نموذج للمواطن العادي الذي يعيش في هذه المدينة من ناحية، ومن ناحية أخرى هو يمثل تلك “النبتة الفكرية الجديدة” التي أصبحت منتشرة في بلدان المنطقة بشكل ينذر بالخطر .

يعتمد الفيلم على متابعة إيقاع ووتيرة ومفردات الحياة اليومية لهذا البطل الفرد الذي يدعى “أبو عمار”، وهو ممن يطلق عليهم البعض “المجاهدين” السابقين في أفغانستان.

أبوعمار الملتحي الذي يرتدي الجلباب متزوج ولديه ثمانية أولاد، أصغرهم هو الذي يصاحبه دائما في كل جولاته بالمدينة، يصر على الجلوس على ركبتي والده أمام عجلة القيادة بينما يقود الأب السيارة، ويمر على مناطق عديدة لجمع ما تبقى من الصناديق الورقية لكي يذهب بها إلى حيث يعاد تصنيعها مرة أخرى.

منذ عودة أبو عمار من أفغانستان، وبعد أن اعتقل أكثر من مرة، لم يجد سوى تلك المهنة يرتزق منها، لكنه يحاول ويسعى في مجال تجارة السيارات. وهو يروي كيف ذهب إلى العراق لاستيراد عدد من السيارات والعودة بها، ولكنه اضطر إلى الهرب بعد أن كاد أن يلقى حتفه بعد أن ظنته قوات الأمن ارهابيا يقوم بتلغيم السيارات.

أبو عمار في الفيلم يتحدث ويجادل زملاءه واصدقاءه، نراه وهو يتناول الطعام ويستقبل ضيوفه ويدور على أنحاء المدينة ويلقي بالفتاوى المتعددة في الدين الذي يراه العامل الوحيد المحرك للإنسان.

أبو عمار مثلا يقول إن الإسلام يحرم زواج المسلم من الأجنبية، كما يحرم أن يعيش المسلم في بلدان غير إسلامية، ويلزم الذي يدخل في دين الإسلام من دول غير مسلمة بضرورة الهجرة من بلادهم للعيش في العالم الإسلامي.

هذه الآراء التي يسوقها أبو عمار بقوة في الفيلم أمام أصدقائه ومستمعيه لا يناقشها الفيلم، ولا يطرح أي تساؤلات حولها، فليس هذا موضوعه، فالموضوع هو كيف يعمل عقل أبو عمار، وإلى اين يتجه، وما الذي يمكن أن يحدث له.. هل سيقبل ويقنع بالبقاء على هامش الحياة في الزرقاء كما نرى.. يعمل كثيرا ويحصل على أقل القليل!

في الفيلم أيضا حوارات مع عدد آخر من الشباب، من المتشددين والمعتدلين، العصريين والسلفيين.. والجميع يتفقون على أن الأسباب الاجتماعية: الفقر وانعدام فرصة العمل ومناخ الغضب والإحباط واليأس هو الدافع الأساسي للهجرة إما إلى الخارج، وإما إلى “اليقين المطلق” وبالتالي إلى العنف.

أبو عمار لا يدين أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بقدر ما يرى أنها كانت وبالا على المسلمين، ويروي كيف أنه اعتبرها “كارثة” فور وقوعها وتنبأ بأنها ستكون مقدمة لهجوم مضاد على المسلمين.

كان أبو عمار يعمل في أفغانستان كـ”حارس شخصي” لعدد من زعماء طالبان وغيرهم، ولكنه يرفض فكرة وجود تنظيم متماسك اسمه القاعدة، بل يرى أنه اتفاق عام على فكر “جهادي”. وعندما يسأله المخرج ما إذا كان قد ناقش أمورا سياسية مع قيادات طالبان الذين كان يتولى حراستهم، يجيب ساخرا من الفكرة: كيف لي أن أناقشهم في أمور كهذه.. لقد كان عملي الحراسة فقط.. ولا يحق لي المناقشة.

ورغم هذا فقد اعد أبو عمار آلاف القصاصات التي دون فيها أفكاره عن الإسلام و”رؤيته” الخاصة في الدين وتطبيقاته وتعاليمه، وقد شرع باستخدام كومبيوتر صغير، في  الاستعانة بها في إعداد كتاب يرجو له أن ينتشر ويوزع ويحقق له بعض ثروة يتعيش منها.

الناس والمكان

يسير الفيلم في دائرة رصينة تسمح للمشاهدين بمساحة للتأمل العقلي، ويمتلئ بالمقابلات المصورة مع أبو عمار وأصدقائه وغيرهم من شباب المدينة من المثقفين الذين يمتلكون القدرة على تقديم تصوراتهم الخاصة لأسباب الظاهرة.

ويضع الفيلم بطله طوال الوقت، في علاقة مباشرة مع المكان، مع المدينة وتركيبتها السكانية المعقدة، ومظاهر الفقر والتخلف والإهمال المنتشرة فيها.

ويصحب المخرج أبو عمار في بحثه عن حليب ناقة من أجل امرأة عجوز مريضة، والدة لأحد أصدقائه، إيمانا من ذلك الصديق بأنه يشفي المريض.

ابو عمار نفسه لا يبدو مرتاحا للفكرة، بل ربما ينتقدها أيضا، لكنه يبذل كل جهده للبحث في أسواق الجمال، خارج المدينة عن حليب الناقة. ويتوقف الفيلم طويلا أمام هذا الجانب الطريف دون أي تعليق أو محاولة لاستخراج تعليق، بل يكتفي بتصوير كيف يتغلغل المعتقد الشعبي وغيره من الأفكار.

ويصور الفيلم أيضا المنزل الذي نشأ فيه الزرقاوي، والمدرسة التي تعلم فيها، كما يورد شهادات للذين عرفوا الزرقاوي، عنه وعن ميوله واتجاهاته وبداية اتجاهه للتطرف.

والفيلم يسير في إيقاع على شكل دائرة، تتداخل فيها عشرات المشاهد والأماكن والأفكار والشخصيات، حيث تبدو كما لو كانت “مصيدة” لأبو عمار وغيره، لا يملكون منها فكاكا.

وتنتهي الفرضية الأساسية حول الشخصية إلى اعتبار أن عوامل من نوع الفراغ الثقافي والفاقة الاقتصادية واليأس الاجتماعي وتغلغل مفاهيم معينة للدين، تصب في النهاية داخل  الدائرة التي تعيد إنتاج نفسها، دائرة الرغبة في التدمير: تدمير الذات وتدمير الغير.

إننا نرى حتى ذلك الطفل الصغير الذي يصاحب والده طوال الفيلم وهو يلح في طلب بعض النقود لشراء شئ، أي شئ، وعندما لا يحصل على ما يريد يثور ثورة عارمة ويخبط رأسه في مقدمة السيارة من الداخل، لا يريد أن يستجيب أبدا لنداءات والده. وفي مرة أخرى يطلب من والده أن يواصل السير بالسيارة إلى أن تصطدم بجمل واقف في سوق الجمال.

هذا المشهد وغيره يدفعان إلى التساؤل عن مصدر كل هذا العنف وكل هذا الفراغ وإلى أين سينتهي.

الحدود المغلقة

أما الفيلم الثاني المثير من النوع نفسه “غير الخيالي” فقد جاء من تركيا، وهو يحمل عنوانا غريبا هو My Marlon and Brandoوهو تعبير تقوله البطلة عن حبيبها في اطار تعبيرها عن الحب باستخدام الكثير من الأوصاف التي تعتبر هذا الحبيب هو.. كذا وكذا … وروميو وقيس ومارلون وبراندو وكل شئ…

ينتمي هذا الفيلم إلى ما يعرف بسينما الحقيقة التي تتميز باستخدام ممثلين غير محترفين يقومون عادة بإعادة لعب أدوارهم في الحياة حيث يختلطون بشخصيات حقيقية من الواقع، وكاميرا صغيرة تتابع وتسجل وترصد وتستفز، وتصوير في الاماكن الطبيعية، وموضوع حقيقي تماما لا يدخله أي افتعال درامي أو إضافات مثيرة.

والموضوع هو ببساطة قصة حب بين ممثلة تركية في اسطنبول وممثل عراقي كردي يعيش في السليمانية في شمال العراق. وقد سبق أن التقى الإثنان لفترة قصيرة اثناء اشتراكهما في فيلم في تركيا قبل غزو العراق عام 2003، ثم عاد الرجل إلى بلاده، وظلت العلاقة بينهما قائمة من خلال الاتصالات الهاتفية والخطابات وغير ذلك.

الآن تقرر الفتاة (عائشة) أنها لا تستطيع احتمال الفراق، وتتصل بحبيبها (حما علي) تريد أن تتأكد من أنه مازال يحبها ويرغب في رؤيتها، فيؤكد هو لها حبه بل ويبعث إليها بألف مليون قبلة (على حد تعبيره) ولأسرتها ملايين القبلات، ويقول إنه يرغب في رؤيتها لكنه لا يستطيع الخروج من البلاد بينما تتأهب القوات الأمريكية للغزو.

وتقرر عائشة أن تذهب بنفسها إلى شمال العراق رغم كل المعوقات، لاعنة الحدود والجيوش والحروب، ويمضي الفيلم معها لتصوير المصاعب المستحيلة التي تلاقيها في طريقها، وكيف تفشل أولا في دخول العراق بسبب منع السلطات التركية لها، ورفض العراقيين الأكراد التصريح لها بالدخول، ثم كيف تقرر أن تدخل إلى العراق عن طريق إيران وكيف تعبر الحدود إلى إيران بالفعل وتتوجه مع سائق تاكسي إلى بلدة قريبة بعد أن قضت ساعات في انتظار أن يسمح لها الايرانيون بالدخول.

وتصبح عائشة شاهدة على الفظائع التي تقع بعد اندلاع الحرب، ولا نعرف في النهاية ما إذا كانت قد وصلت إلى حبيبها أم أنها ظلت تهيم على الحدود. ولكن لاشك أن الحبيبين اجتمعا بعد الحرب وإلا ما كان هذا الفيلم الذي ولدت قصته من قصتهما معا.

سينما الاحتجاج

إنه فيلم من أفلام الاحتجاج السياسي ويكن في أسلوب شاعري رقيق، احتجاج على الحرب وعلى المعاملة التي تلقاها المرأة، وأساسا، هجائية عذبة ضد الحدود التي تفرق بين البشر وتعيق الاتصال فيما بينهم.

ويصور الفيلم أيضا نوعية المشاكل التي يمكن أن تتعرض لها امرأة وحيدة تعيش بمفردها في تركيا، ثم المضايقات التي تتعرض لها بعد ذهابها إلى إيران.

وقد صور الفيلم في المواقع الطبيعية لأحداثه، ولعب البطلان دوريهما كما سبق أن خبراه في الواقع. واستخدم المخرج في الفيلم رسائل الفيديو الحقيقة والخطابات التي أرسلها الرجل لحبيبته، كما استخدم لقطات  لمظاهرات حاشدة اندلعت في تركيا ضد الغزو الأمريكي للعراق شاركت فيها بطلته عائشة.

والفيلم من إخراج المخرج التركي حسين كرابي الذي حصل على تمويل لفيلمه من هولندا وبريطانيا وصوره بكاميرا الفيديو (الديجيتال).

وقد حقق نجاحا كبيرا في الحصول على نتائج نهائية ممتازة من ناحية الصورة، وهو ما يؤكد الدور المتنامي لكاميرا الديجيتال في المستقبل، كما نجح في خلق إيقاع لاهث سريع، وبرع بوجه خاص في التفاصيل الخاصة بالجزء الإيراني، ومزج التسجيلي بالتمثيلي، واستخدم الموسيقى والأغاني العذبة المعبرة بالتركية والكردية من البلدان الثلاثة.

ولعل من الجدير بالملاحظة أن الفيلمين، الأردني والتركي، ينتهيان نهاية مفتوحة، لأن الهدف هنا لم يكن رواية قصة محبوكة بقدر ما كان دعوة للتأمل.

Visited 31 times, 1 visit(s) today