تحية إلى سينما محمد خان
في ناس بتلعب كورة في الشارع.. وناس بتمشي تغني تاخد صورة في الشارع.. في ناس بتشتم بعض تضرب بعض في الشارع (من مقدمة فيلم الحريف)..
هذه المقدمة ببساطة تقدم ما يدور بخلد محمد خان.. الذي يعتبر فيلمه “الحريف” أحد أروع الأفلام في تاريخ السينما المصرية فهو الأقرب إلى قلب وعقل هذا المبدع الذي ولد لأب باكستاني وأم مصرية والذي أحب السينما بسبب إقتراب إحدى دور العرض من بيته الذي كان يشاهد منه تلك الشاشة الكبيرة التي جذبته اليها بسحرها وما يدور بداخلها.
سافر خان لإكمال دراسة الهندسة في إنجلترا وهناك تعرّف علي شاب سويسري حدّثه كثيرا عن معشوقته وألهمه بها فجاء إلى مصر وأصدر كتابين عن السينما المصرية والتشيكية، ثم عمل مع أكثر من مخرج وسيناريست لعل أبرزهم رائد الواقعية في السينما المصرية (صلاح ابو سيف) وقرر خان أن ينتج أول افلامه الروائية وهو (ضربة شمس) 1978 بطولة نور الشريف والذي لا يقارن بجمالية أعماله الأخري.
وبدأ بزوغ نجم خان في الثمانينات وهي مرحلة شهدت الكثير من المخرجين الذين قدموا سينما خاصة جدا مثل عاطف الطيب، خيري بشارة، علي عبد الخالق، داود عبد السيد.. وغيره.
لكن خان جاء منفردا بعبقريته عندما قدم فيلم “الحريف“.
من يستطيع أن يتجول في حواري وأزقة القاهرة القديمة بذاك الابداع وهذا الاختيار العجيب لأماكن عفا عليها الزمن، ومن أين أتي بتلك المشاهد بدءا من القهوة والمباني العتيقة والوجوه الكلاسيكية بل ومزج كل هذا بمعشوقة الناس انذاك (الكرة الشراب)؟ أي عقلية فذة تستطيع أن تُلحم تلك الأشياء ببعضها فيجعلك تغوص مستمتعا بسحر الثمانينات.. سحر المقهى والطاولة والأغاني القديمة والشخصيات التي نسيها المجتمع وظلت تبحث عن بارقة أمل مثل الاستاذ اسماعيل والكابتن مورو، ناهيك عن موسيقي هاني شنودة المصحابة لمشاهد الشوارع.
من فيلم “أحلام هند وكاميليا”
إن فيلم “الحريف” هو عمل وثائقي سينمائي درامي عن القاهرة القديمة، علي الرغم من انتقاد الكثيرين له وفشله الذريع في دور العرض عام 1983 فان ذلك لا يؤكد أبدا فشل الفيلم فثقافة المشاهدين عموما لدينا لا تستوعب مشاهد الفيلم ولا المغزي منه، والأهم أنه قُدم بواسطة ممثل لم يكن يعرف الجمهور عنه آنذاك سوى أنه يستطيع أن يولد الضحك والكوميديا (عادل امام( علما بأن الدور كان من الممكن ولو بمقدار قليل، أن يجعل للفيلم طعما آخر لو قام بببطولته العبقري أحمد زكي، ولكن اصراره علي عدم قص شعره واختلافه مع خان أسند الدور لعادل امام ولكن علي العموم البطل الحقيقي في فيلم “الحريف” هي الحواري والازقة. إنه أشبه بروايات النجيب محفوظ مع إختلاف المجال فمن لم يستوعب عبقرية محفوظ الأدبية خصوصا في ثلاثيته التاريخية لن يستوعب سحر وجمالية ونوستالجيا (الحريف) فمحمد خان هو نجيب محفوظ السينما.
عمل مع خان أصدقاؤه ورفاق دربه (بشير الديك، سعيد شيمي) اضافة الي الاسم الثابت (احمد زكي) وقبل “الحريف” قدم هؤلاء الصحبة واحدا من أفضل أفلام الرومانسية في تاريخ السينما المصرية هو فيلم “موعد علي العشاء” 1982 وتدور قصته حول امرأة (سعاد حسني)تكره زوجها (حسين فهمي) وتطلب منه الطلاق فيطلقها ولكنه مازال يحبها. وبعد فترة تقع في حب مصفف شعرها (أحمد زكي) فينتقم طليقها من حبيبها في النهاية بقتله تلك النهاية الكلاسيكية، فتذهب لالقاء نظرة عليه في ثلاجة الموتي وكان يجب علي زكي الخضوع لسينما خان بضرورة وجوده في ثلاجة الموتي والتي رفضت مبدئيا سعاد أن تُلقي نظرة عليها حسب سيناريو الفيلم، ولكنها خضعت ايضا كي تبهرنا ببكائها الحقيقي في مشهد محفور في ذهن الكثيرين بأداء متميز تماما كما أراده خان، والفيلم يجذبك لعالم خيالي مليء بالرومانسية والتضحية والتراجيديا ولعله الفيلم الرومانسي الوحيد لخان.
من فيلم “مستر كاراتيه”
يتجه خان فيما بعد لعالم السيكولوجي والنفسية المنكسرة عندما يصور انكسار ضابط أمن الدولة بعد أن كان يأمر وينهي في فيلم “زوجة رجل مهم” 1987 هذا الضابط المجروح نفسيا بعد أن وجد نفسه خارج الوزارة بعد ما كان يتمتع به من سلطة فيضطرب ويجنّ جنونه مما أدى في النهاية لقتل حماه (علي الغندور) وفي النهاية قتل نفسه. إنه عمل ميلودرامي رائع آخر يحسب لخان في قائمة أفلامه.
عمل خان فيما بعد علي تقديم صورة القهر والذل في المجتمع الفقير ومال باحساسه بالفقر والفقراء وبدا واضحا وجليّا في تحفته “أحلام هند وكاميليا” 1988 فهما امرأتان فقيرتان تعملان في بيوت الطبقة الوسطى كخادمات. ومرة اخري ينزل خان للشارع ويتجول في المناطق البسيطة ويشعرك بمدي قهر هؤلاء الفقراء وغلبهم (أحمد زكي، نجلاء فتحي، عايدة رياض) هؤلاء منّا.. ممن نراهم يوميا في مجتمعنا الغائب عن الوعي وهم ممن لا يهمه سوي كسب قوت يومه.
جسّد خان هذا الألم مجدداً في “مستر كاراتيه” 1993 مرة اخري مع احمد زكيالشاب الفلاح الذي يترك بيته وأرضه للعمل مكان ابيه المتوفي، سايس الجراج بالعاصمة ويمزج ذلك بإنبهار المصريين مطلع التسعينات بشرائط فيديو الكاراتيه خصوصا أفلام بروس لي. وكعادته يمزج الاشياء ببعضها دون أن يشعر المشاهد فتلك هي العبقرية تماما.
ان سينما محمد خان هي “سينما الاستثنائية” فبدون خان كان من الممكن حرماننا من طرح فكرة جديدة علي السينما المصرية وهي السينما الواقعية لكن بزيّ آخر علي غرار سينما صلاح أبو سيف، وكان خان أستاذاً في اختيار موسيقاه التصويرية في جميع افلامه وتجد الموسيقي لدي كل فيلم كأنها فُصّلت له تماما وكأنها (صدفة العبقرية) الصدفة التي جعلت موسيقي “الحريف” لا يطرحها إلا وسط المباني كيّ تشعر بسحر النوستالجيا، وموسيقي البيانو الغريبة في “موعد علي العشاء”، وموسيقي القهر والفقر في “أحلام هند وكاميليا”، وموسيقي القوة والحماسة مفّعمه بالاثارة في “مستر كاراتيه”.
إنها سينما المزج بين المواضيع ، سينما طرح المعاناة والألم، سينما الحقيقة الكلاسيكية بين الحواري والأزقة. هي سينما محمد خان.