تحليل جمالي لفيلم “ايدا”: البحث عن عالم آخر
ينقلنا المخرج البولندي بافل بافليكوفسكي في فيلمه “ايدا” إلى حالة من التساؤلات والاستكشافات التي على اساسها يتم الاختيار، وذلك عن طريق رحلة ايدا في استكشافها للعالم والوجود، فمن خلال التناقض بين الثنائي ايدا والخالة فاندا نستكشف معهم عوالم مختلفة: عالم متطرف من المثالية الزائدة متمثل في ايدا وحياة الرهبنة المنغلقة، في مقابل عالم اكثر انفتاحاً وحداثة متمثل في فاندا والمجتمع البولندي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، فهو ايضاً عالم متطرف يعاني من العزلة والكآبة التي فرضتها ظروف الحرب.
يبدأ الفيلم بلقطة مقربة لايدا تحتل فيه جزء ضئيل أسفل الكادر، توضح علاقتها بالتمثال والتي تستمر عبر الاحداث، فنظرتها للتمثال واهتمامها به منذ البداية يذكرنا ببجماليون وعلاقته بتمثاله جالاتيا وتطلعه إلى الكمال، حتى يتضح فيما بعد انه تمثال المسيح، فهي تبحث عن الكمال المتمثل في نظرتها لشخص المسيح الذي لا تعرف غيره.
تظهر تلك العلاقة متتالية في اول ثلاث كادرات من زوايا مختلفة، في اول كادر لقطة مقربة عليهما في اسفل اليسار دون سيميترية، ثم لقطة متوسطة لهما في منتصف الكادر، فيرجع بهما بزاوية مرتفعة في اسفل يسار الكادر بتعبيراتها وكأنها تنتظر افروديت كي تعيد له الروح.
اما أثناء نقل التمثال الى الخارج من قبل الراهبات نشاهد ضآلة حجمهم، فيقوموا بتكوين كتلة صغيرة داخل الكتلة الكبيرة المتمثلة في حوائط الدير الضخمة في كادر مغلق الأفق، مما يوحى بمدى وحشية الانعزال عن العالم، يدعمها اللقطات الثابتة وتحركهم بحركة شبه آلية، حتى يضعوا التمثال بمكانه، فيدخلوا تلك الدائرة التي لا ينطلقون خارج اطارها.
بداية الرحلة
يحدث أول تغير عند خروج ايدا من الدير وذهابها للخالة فاندا، فيتحول الايقاع البطيء الى ايقاع اسرع حيث الحركة في المدينة، فنرى اول حركة أفقية panللكاميرا مع حركة الناس والمواصلات، على عكس حالة الجمود داخل الدير، وكذلك اول وجود للموسيقى من داخل الكادر في منزل فاندا، وكأننا انتقلنا لعالم آخر.
وبعد اول اكتشاف لشخصية ايدا بأنها يهودية الأصل، يزداد كبر حجمها داخل الكادر لاظهار رد فعلها، ولكنها تصر على عدم اظهار اي مشاعر، فحياة الرهبنة التي نشأت فيها داخل الدير أجبرتها على الجمود، ولكن الجمود لا يقتصر على المؤسسة الدينية فقط بل يمتد إلى المؤسسات الأخرى، فبالانتقال إلى المحكمة، حيث عمل فاندا كقاضي، نرى حالة أخرى من الجمود تسيطر على الشخصيات ويساعد على ذلك اللقطات الثابتة.
تواصل ايدا استكشافاتها خلال رحلتها مع فاندا، فبعد معرفتها بحقيقة موت والديها، ورغبتها في البحث عنهما، تصل إلى عالم أكثر غرابة بداخل الفندق الذي تقيمان به أثناء بحثهما عن جثث عائلتهم: الأب والأم وابن الخالة الصغير. فنرى عالم في ظاهره أكثر حركة وحيوية، فتصبح هناك علاقة أخرى وهي علاقة ايدا بعازف الساكسفون الذي يظهر اعجابه بها.
تطور الشخصيات
على مدار الأحداث نرى تطور في شخصية ايدا والخالة فاندا أيضاً، فبعد اكتشاف بقايا الاجساد ودفنها، ترجع ايدا إلى الدير بينما تظل فاندا في وحدتها، وبعد اكتشافها لتلك الحياة الجديدة بعد خروجها من الدير، تختلف علاقة ايدا بالتمثال فتخبره انها ليست مستعدة بعد للرهبنة في مشهد خافت بزاوية مرتفعة، ثم نرى اختلاف تلك العلاقة بوقوف ايدا في عكس اتجاه التمثال ناظرة للأسفل داخل نفس الدائرة وبنفس الحجم الضئيل من الكادر.
أما الخالة التي عاشت عالمها بطريقتها الخاصة، تقرر أن تنهيه أيضاً بطريقتها، فيبدأ مشهد الخلاص بالموسيقى الداخلية مع فتح فاندا للنافذة في لقطة ثابتة واضاءة ناعمة soft lighting، فتتصاعد الموسيقى مما يزيد من توتر المشهد، تخرج فاندا من الكادر مرتين مع ثبات الكاميرا، وفي المرة الثانية ترتدي البالطو بدلاً من قميص النوم، فتستعد لمواجهة تلك الحياة القاسية، ومع خفوت الصوت تلقي بنفسها من النافذة بكل هدوء مع استمرار الكادر وموسيقى موتسارت.
اكتشاف حياة أخرى
تأتي ايدا في المشهد الذي يليه في نفس المكان بلقطة متوسطة على يمين الكادر، وتستمع إلى نفس الموسيقى التي انتحرت عليها فاندا، تمهيداً لاختيارها حياة الخالة وتقليدها فيما بعد في اسلوب حياتها، حتى تلتف حول الستار وتقع بها، وهو ايحاء بإضطرابها ووقوعها في حياة آخرى لم تعتاد عليها.
ثم يأتي مشهد الرقص مع عازف الساكسفون، فيظهران في خلفية الكادر بينما مقدمة الكادر فارغة، ويعمل الحائط على فصل الكادر وكأنهما في عالمين منفصلين، وكذلك اختلاف زاوية الكاميرا أثناء الرقص وكأنهما يريدان الاختفاء عن أعين الناس ويسرقان بعض اللحظات الخاصة من الحياة.
أما المشهد الذي يليه، فيبدأ بلقطة مقربة من ايدا تحتل فيها مساحة أكبر من الكادر واضاءة خافتة، ولم تعد ترتدي السلسلة التي بها صورة المسيح والتي لازمتها طوال الأحداث، وشكلت جزء كبير من شخصيتها عبر الفيلم في دلالة سميولوجية لذلك العالم الذي تنتمي إليه، ونستكشف معها العالم الآخر الذي ينتمي اليه عازف الساكسفون حين يسألها أن تذهب معه فتسأله وماذا بعد؟ فحين يجيبها بأن يتزوجا وينجبا وما إلى آخره من روتينيات الحياة، تكون اجابتها ايضاً وماذا بعد؟ فهي تركت حياة الجمود والروتين في الدير، ولكنها اكتشفت ان الجمود يحاصر الجميع.
نصل إلى النهاية حين يحدث تغير آخر في حياة ايدا، فتسير في مقدمة الكادر وكأنها ادركت أن حياة الدير وحياة الخالة وعازف الساكسفون لم يختلفا كثيراً، فنرى تحرك الكاميرا معها لأول مرة، ونشعر بنبضات قدميها على الأرض في حالة من التوتر، حتى ينتهي المشهد دون أن نعرف من اختارت في النهاية؟ فتتركنا في حيرة الاختيار: هل الحياة تتوقف على تلك الحالتين فقط؟ أم أن هناك خيار آخر يستطيع الانسان أن يصله؟