تحفة مهرجان برلين: “بطلة” أو “نوبة متأخرة”

الفيلم الوحيد الذي أعتبره “تحفة” سينمائية فريدة من بين جميع الأفلام التي شاهدتها في الدورة الـ75 من مهرجات برلين السينمائي، هو الفيلم السويسري- الألماني “بطلة” Heldin حسب التسمية الألمانية، أو “نوبة عمل متأخرة” Late Shift حسب التسمية الإنجليزية. وقد عرض الفيلم خارج المسابقة ضمن العروض الاحتفالية الخاصة Special Gala.

لماذا أعتبر هذا الفيلم الذي أخرجته المخرجة السويسرية “بيترا فولب” تحفة سينمائية؟

أولا: لأن هناك “موضوعا” مهما يصوره الفيلم، وأنا أتعمد استخدام كلمة “يصوره” لا “يطرحه” لأن الأفلام – قبل أي شيء- لا تطرح، بل تقدم المواضيع بالصورة والحركة والتمثيل والمونتاج، أي من خلال صور حتى لو تضمنت هذه الصور حوارات. والموضوع الذي يصوره الفيلم هو موضوع إنساني، يهم الناس في العالم كله. صحيح أن للموضوع خصوصيته التي تنبع من البيئة التي تدور فيها الأحداث إن جاز أن هناك أحداثا، ولكنه يلمس النفس البشرية في كل مكان وهذا هو ما يسمى بالبعد الكونيuniversal  أو الإنساني في أي فيلم جيد مهما كان مستغرقا في محليته، وهذا البعد، هو نفسه ما يميز- مثلا- روايات نجيب محفوظ ويجعلها “أكبر” من نطاقها المحلي رغم أنها غارقة في المحلية، وهو نفسه ما ينطبق على أعمال ماركيز في الأدب، وفيلليني وبرجمان وتيرنس ماليك في السينما.

وثانيا: أن الفيلم يعتمد شكلا للسرد يقتضي دقة شديدة في الإعداد الكبير قبل التصوير، ثم التدقيق في كل تفصيل من تفاصيل الصورة خلال التصوير، ثم خلق إيقاع متدفق يقبض على المشاهدين ويجعلهم لا يستطيعون الإفلات من متابعة الفيلم أو الابتعاد ولو لبضع ثوان عن المشاهدة للتطلع في جهاز الهاتف المحمول مثلا. وهذا الشكل السردي أو أسلوب البناء السينمائي، يعتمد على الحركة الطويلة الملتوية للكاميرا في أرجاء الديكور الطبيعي، أي المكان الذي تدور فيه الأحداث، وهو مستشفى سويسري يجمع بين مرضى التأمين الصحي ومرضى العلاج الخاص.

إننا أمام تجربة كبيرة في الإخراج، تتميز بالسيطرة المدهشة، سواء على تفاصيل المكان، أو على الأداء الفذ للممثلة الألمانية الرائعة “ليوني بينيش” (التي سبق أن تألقت في فيلم “رواق المعلمين” The Teacher’s Lounge. فهي تقدم هنا دورا شديد الصعوبة، هو دور ممرضة تذهب إلى نوبة العمل التي تبدأ بعد الظهر أي النوبة المتأخرة، لتجد أن زميلة متغيبة لسبب قهري، وبالتالي يتعين عليها أن تحمل وحدها أعباء رعاية المرضى في قسم الجراحات بالمستشفى مع زميلة واحدة فقط.

هذه الممرضة هي “فلوريا” التي تتحرك وتنتقل بكل حيوية ورشاقة من مكان إلى آخر، ومن طابق إلى طابق آخر، تستجيب للحالات الطارئة، تعرف كيف تمزج الدواء وتستخدم الأجهزة، وتجيب على الهاتف، وتطمئن المريض الذي يشعر بالقلق بل وتهديء من روع أقارب المرضى الذين يلحون عليها بالأسئلة الصعبة.

هناك مريضة السرطان التي تعرف Hن لا شفاء لها، ورغم ذلك تشعر فلوريا بالألم الشديد عندما تتوفى جراء جلطة في الجهاز التنفسي، لم تستطع أن تنقذها لا هي ولا زميلتها بعمل تنفس اصطناعي لها، يتجمع حولها أبناء المريضة الراحلة الثلاثة، والواضح أنها من الجالية التركية، يعبرون عن ألمهم وغضبهم عليها، لكن لا ذنب لها في الواقع.

وهناك رجل مسن يعرب باستمرار عن رغبته في مغادرة المستشفى، لا يريد أن ينتظر وصول الطبيب في اليوم التالي لكي يخبره عن طبيعة مرضه، فهو يحتاج الى أن يكون بالقرب من كلبه.

هناك عشرات الأسئلة التي تتلقاها فلوريا ولا يمكنها الرد عليها، فهي تختص بعمل الأطباء، وأما الطبيبة التي تجري العمليات الجراحية فهي تفضل الذهاب مباشرة الى منزلها بعد انتهاء يوم شاق قضت فيه ساعات طويلة داخل غرفة العمليات، رافضة الاستجابة لفلوريا التي تريدها أن تفحص أحد المرضى وتخبره بحالته بعد أن ظل ينتظرها من الصباح. وهنا يرصد الفيلم أيضا التوتر الذي يمكن أن ينشأ بين عمل الطبيب وعمل الممرضة.

إنها تغني في قبول ورضا وسعادة أغنية أطفال لمريضة مسنة تعاني من مرض الخرف، لا تدري أين هي، وربما أنها لا تتذكر من الحياة سوى هذه الأغنية التي كانت أمها تغنيها لها وهي في المهد. وهي تخفف في كل ود إنساني عن شعور مريض من بوركينا فاسو بالوحدة الشديدة في سويسرا، ورغم انشغالها الكبير في رعاية المرضى، ودفع النقالات، وقياس الضغط والنبض والحرارة للمرضى، وتحضير الأدوية بيدين خبيرتين، وتسجيل الأدوية في دفتر الأحوال حسبما تقضي أصول المهنة، والتعامل مع أجهزة الكومبيوتر المعقدة، لا تتردد عن الاستجابة لسيدة اتصلت هاتفيا تطلب منها العثور على نظاراتها التي تركتها وراءها عندما كانت تزور أمها المسنة العاجزة.

إلا أن هناك مريضا خاصاـ وليس من مرضى التأمين الصحي، غاضب، حانق كثير الطلبات، يتعامل بخشونة بالغة مع فلوريا، وقد طلب أن يأتونه بقدح من الشاي الأخضر لكن الأمر تأخر وعندما تدخل فلوريا عليه يصب جام غضبه عليها، وهو يمسك بساعة يده، ويحسب زمن التأخر في الاستجابة لطلبه، وسيأتي وقت مع ارتفاع حدة الضغط عليها، تفقد فلوريا أعصابها وتنتزع منه الساعة وتلقي بها من نافذة الحجرة، لكنها سرعان ما ستشعر بما ارتكبته من خطا، وتهبط للبحث عن الساعة التي يقول لها الرجل إن ثمنها 24 ألف يورو.. لكنه يلين تدريجيا ويضعف وينهار ويبكي حاله، وكيف أنه وهو مازال في عمر الشباب أصيب دون غيره من أفراد عائلته، بمرض السرطان وأنه لم يبق أمامه في الحياة سوى أقل القليل. لكنه يخفي مرضه عن زوجته وعائلته، ويتحدث إليهم هاتفيا باعتباره في رحلة عمل، كما لو كان يقيم في أحد الفنادق!

وسنرى أيضا سيدة مصابة بالسرطان لا تكف رغم ذلك عن التدخين في الشرفة بينما جهاز المحاليل مركب في ذراعها، وستنهرها فلوريا وتنتزع منها علبة السجائر، لكن هذه المرأة تحديدا ستتعاطف مع فلوريا في أزمتها وهي التي ستعثر على ساعة الرجل وتعيدها إليها. ولكن هل يحتاجها الرجل حقا وهو الذي يعرف أن حياته مقضي عليها سريعا؟

ليست كل هذه التفاصيل هي المهمة فقط في سياق السرد. صحيح أننا نرى من خلالها صورة مصغرة دقيقة لمجتمع سويسرا المعاصرة، مرضى من جميع الأشكال والأصول: الأكراد والإيرانيون والأتراك، البيض الأوروبيون وذوو الأصول الأفريقية والهنود، وغير ذلك.. وجميعهم ينتهي إلى واحدة من المستشفيات الجيدة المجهزة في أرقى نظام صحي أوروبي، ورغم ذلك، يرصد الفيلم ما يترتب على العجز في عدد الممرضات وبالتالي التقاعس عن تقديم الخدمة الصحية المنتظرة الأمر الذي يهدد حياة الكثير من المرضى.

ولكن الأهم من “الرسالة” التي تتلخص في النهاية في كارثة تتمثل في هجرة الممرضات من البلاد وتناقص أعدادهم بدرجة تنذر بالخطر، واعتزال الكثيرات منهن، ورفض غيرهم العمل بسبب تلك الضغوط النفسية والجسدية التي تقع على عاتقهن، فجمال الفيلم ينبع أساسا من المزج بين التسجيلي والروائي، واستنباط الدراما ليس من خلال قصة سطحية مثيرة، بل من بين طيات تلك القصص الإنسانية البسيطة، التي ربما تكون أولها أيضا، قصة فلوريا نفسها، التي سنعرف خلال التقدم في السرد، إنها امرأة مطلقة وأن لديها ابنة تقيم بعيدا عنها، وربما تكون طبيعة عملها وراء ذلك الطلاق والانفصال.. والفيلم يبدو في طابعه العام مخلصا حد الحرفية، لتقاليد الواقعية السينمائية التي تصف لكنها تشرح وتحلل وتتوقف أيضا أمام المواقف الإنسانية، وتصور الشخصية الرئيسية في نبلها وغضبها، وفي قدرتها المهنية المشهود لها، وفي الوقت نفسه عجزها عن السيطرة بالكامل على محيط أكبر من قدرة أي ممرضة بمفردها في تلك النوبة الطويلة التي ينتهي الفيلم مع نهايتها، ومع مغادرة تلك الممرضة المستشفى وركوبها الحافلة تحلم بأن تجد الأم التي تسند رأسها على كتفها.

دقة السيناريو بكل تفاصيله هي أساس قوة الفيلم، إلا أن ما يجعل الفيلم يقبض على المشاهد ويدفعنا للمتابعة هو المونتاج الدقيق الذي يخلق ذلك الإيقاع اللاهث الذي يشي بإمكانية وقوع أي خطأ في أي وقت يمكن أن يتسبب في كارثة مهنية بالنسبة لفلوريا.

ولعل ما يضفي سمات الواقعية على الفيلم إعادة تجهيز فريق الديكور والتنسيق الفني، مستشفى فارغا بكل ما يلزم، مع المزج البارع بين الممثلين المحترفين وبعض المرضى الحقيقيين. وإلى جانب الإخراج الواثق لمخرجة تعرف أهمية كل لقطة في بناء الفيلم بشكل متصاعد، في بناء لا يروي قصة درامية بقدر ما يتوقف أمام ما يصلح لأن يكون عشرات القصص الإنسانية، بدلالاتها الدرامية والعاطفية التي تبدو محكومة ولا تنزلق إلى المبالغة الميلودرامية.  

تقوم الممثلة ليوني بينيش بدور الممرضة بكل دقة وتألق وحيوية، فهي تنتقل بكل ثقة بين ردهات المستشفى، في لقطات طويلة تجعل المشاهد المختلفة تبدو كما لو كانت تمضي من دون أي “قطع” وتجعل الفيلم بالتالي يبدو كما لو كان مصورا في لقطة واحدة تمتد بطول تلك النوبة المليئة بالمفاجآت والمتاعب. ولكي تقوم بهذا الدور كان يتعين عليها أن تقضي فترة في التدرب على العمل في إحدى المستشفيات السويسرية، وتدرس كل تفاصيل عمل الممرضة، وتعرف كيف تمزج المحاليل والأدوية وكيف تحقن بالإبرة، وكيف تدفع النقالات وعربات الأجهزة، وتفتح الأدراج، وتغلق مخزن العقاقير المخدرة المسكنة بالمفتاح ثم تعلقه في رقبتها، وتمارس عملها باستمرار تحت كل هذه الضغوط وهي تبتسم وتستجيب في رقة للمرضى ومطالبهم، تداعب الأطفال أقارب المرضى، وتدلل العجائز. إننا أمام أفضل أداء في أي فيلم لممثلة ألمانية خلال السنوات الأخيرة. إنها “البطلة” الحقيقية في هذا العمل.