تحطيم “ركبة عهد” التميمي في مهرجان كان
عرضت شاشات المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في مساء يومها الثاني، الأربعاء 7 يوليو/تموز، الفيلم الإسرائيلي “ركبة عهد” للمخرج المثير للجدل ناداف لبيد وهو إنتاج إسرائيلي فرنسي مشترك. يحيل عنوان الفيلم على قضية الناشطة الفلسطينية عهد التميمي وعلى تناقضات المجتمع الإسرائيلي وتطرفه وجنوحه إلى العنصرية وتكميم أفواه المعارضين.
من منا لا يذكر عهد التميمي، تلك الفتاة الفلسطينية الناشطة ابنة قرية النبي صالح في الضفة الغربية المحتلة والتي خطفت أضواء وسائل الإعلام العالمية في 19 من ديسمبر/كانون الأول عام 2017 عندما صفعت جنديين إسرائيليين أمام كاميرات التلفزة أثناء مسيرة مناهضة للاستيطان في قريتها.
بالطبع لم يمر فعل عهد مرور الكرام فقد ألقتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في السجن لمدة ثمانية أشهر هي وأمها، لكنها خرجت منه أقوى مما كانت لتتحول إلى أيقونة فلسطينية وعالمية لمقاومة الاحتلال والاستيطان.
ليس عنوان فيلم المخرج الإسرائيلي المثير للجدل ناداف لبيد “ركبة عهد”، الذي عرض في اليوم الثاني من أيام مهرجان كان السينمائي في مسابقته الرسمية، إلا واجهة، وقمة جبل الثلج التي تخفي تناقضات المجتمع الإسرائيلي التي أراد أن يزيح عنها الغطاء لتعريَ هذا المجتمع الذي هجر المثاليات التي كان يدعي أنه يريد تحقيقها على “أرض الميعاد” – أرض إسرائيل الموعودة.
غضب ضد من اختطفوا الحلم
هذا الفيلم كما يصفه مخرجه بنفسه في حديثه لمجلة فارايتي الأمريكية، هو مثل حركة موسيقية واحدة أو ضربة واحدة من فرشاة على لوحة تشكيلية. فنص الفيلم كاملا كتب في أسبوعين ونصف فقط لا غير، وهو دليل على قدر ما كان يموج في صدر المخرج من مشاعر الغضب ضد من اختطفوا حلمه وحلم المواطنين الإسرائيليين الآخرين وصادروه لمصلحة أطماعهم التوسعية.
“ركبة عهد” رابسودية سوداء قاتمة تضع المجتمع الإسرائيلي وجها لوجه أمام مرآة الضياع والعنف وكراهية الآخر ومحاولة استئصال شأفته. يبدأ الفيلم بجملة قالها نائب في الكنيست الإسرائيلي عن حادثة صفع عهد للجنود الإسرائيليين وحكم القضاء بسجنها ثمانية أشهر. يقول النائب: ثمانية أشهر فقط! كان عليهم أن يطلقوا الرصاص على ركبتها لتصبح عاجزة طيلة حياتها!
وهي الجملة التي بنى عليها لبيد حبكة فيلمه وتسلسل أحداثه، فعهد التميمي حاضرة في الفيلم ولو من وراء ستار، حاضرة بوصفها الآخر الذي لا نريده ولا نطيق وجوده أو سماع صوته. وهنا يصطف مخرجنا مع هذا الآخر الأجنبي عنه، ولكن بوصفه هو أيضا آخر من الداخل، إسرائيلي مثله مثل الإسرائيليين الذين يريدون تكميم أفواه معارضيهم وفرض رؤيتهم هم لإسرائيل ومستقبلها ومواصفات مواطنيها المثاليين. يشير لبيد بكل وضوح إلى وزيرة الثقافة الإسرائيلية في حكومة نتانياهو ميري ريغيف القادمة من مؤسسة الجيش العسكرية.
تجري أحداث الفيلم في منطقة وادي عربة الصحراوية على الحدود الأردنية وتحديدا في قرية سابير، تلك القرية التي لا يتعدى عدد سكانها خمسة آلاف شخص وشبه المقطوعة عن العالم. لكن الفيلم يبدأ بمشاهد متلفزة عن واقعة القبض على عهد ومحاكمتها قبل أن ينتقل إلى مشهد يتحدث فيه البطل مع عهد في غرفة استجواب ويرفع بنطالها عن ركبتها ثم يأتي بمطرقة حديدية يهوي بها على ركبة الفتاة الشابة مؤذنا ببدء أحداث الفيلم، كما لو كان قاضيا يأمر ببدء جلسة المحاكمة.
يذهب بطل الفيلم ياء، آفشالوم بولاك، المخرج السينمائي المعروف المقيم في تل أبيب إلى قرية سابير ليعرض أحد أفلامه في مكتبة القرية العمومية. يصل هناك ليجد بانتظاره ياهالوم (نور فيباك) المديرة المساعدة لقطاع المكتبات في وزارة الثقافة والتي أتت بنفسها لاستقباله لأن هذه القرية هي مسقط رأسها أيضا.
حطم ناداف لبيد في هذا الفيلم كل أعراف التصوير السينمائي، فكاميرته مهتزة طول الوقت وكأنما يريد أن ينقل للمشاهد شعور بطل الفيلم بالغثيان مما حوله. وتتعدد المشاهد التي تدور فيها الكاميرا دورات كاملة وبسرعة كبيرة لتتوقف فجأة على وجه البطل، كما أن اللقطات المقربة وبخاصة في بداية الفيلم على ركبة الممثلة التي تقوم بدور عهد تلعب دور المذكر بعنوان الفيلم وبرسالة المخرج.
الوطن فقط لا غير… فأين الحب والجنس؟
لا يخفي ياء، بوجهه الحديدي المجرد من المشاعر، تقززه واشمئزازه من وزارة الثقافة الإسرائيلية ووزيرتها منذ بداية وصوله إلى سابير، تخبره ياهالوم بأن عليه توقيع استمارة من الوزارة تخول له الحصول على أجر من عرضه فيلمه في مكتبة القرية، فيسأل ياء عن ماهية هذه الاستمارة ولماذا يجب أن يوقعها، فتخبره الفتاة بأن الجميع يوقع دون طرح أسئلة حتى يحصلوا على النقود كما أنها ضمانة لالتزامه بالحديث عن أحد الموضوعات المقترحة فيها. يتساءل ياء وما هي هذه الموضوعات، فترد هالوم: الوطن، الأسرة، اليهودية، الصهيونية، الكتاب المقدس، المحرقة، الأخوة… فيبادرها بالقول: وأين الحب؟ أين الجنس؟
يتأكد لدى ياء ما يعرفه بالفعل، من أن وزارة الثقافة أو بالأحرى وزيرة الثقافة تريد أن تكمم أفواه الكتاب والمفكرين ولا تريد لأحد أن يتحدث إلا بما تريده هي. يدخل في مونولوغ مع نفسه يحلم بحدوث معجزة تغير المجتمع وتفتح العيون على الحقيقة، بيد أنه لا يتوقف طوال الفيلم عن ترديد سؤال: أمعجزة هي؟ في إشارة إلى انتهاء زمن المعجزات. فلا معجزة تنقذ أمه المصابة بالسرطان، ولا معجزة تعيد الحلم بإسرائيل الحرة للجميع، ولا معجزة… ولا معجزة…
لا يجد حلا إلا في فضح تلك الطغمة الحاكمة، فيقرر مع صديقه الصحافي الذي يحدثه في الهاتف، تسجيل رأي ياهالوم، تلك الفتاة المثقفة، في وزيرتها وسياساتها القمعية في اختيار ما يقرأه الناس وما يؤمنون به. وفي مشهد شكسبيري كمشاهد هاملت أو الملك لير، ينطلق ياء في خطبة عصماء انفعالية وسط الصحراء بحضور هالوم، زادتها حركة الكاميرا عنفوانا على عنفوانها، عن الحرية والثقافة والاختيار لينتهي والدموع الغزيرة تسقط من عينيه مرتميا في أحضان ياهالوم قائلا: أليست هذه هي الحقيقة؟ ما هي الحقيقة؟ حتى ينجح في انتزاع الكلمات من شفتي ياهالوم، الحقيقة هي أن وزارة الثقافة والفنون تكره حتى الموت الثقافة والفنون، ولا تتوقف وزيرتها عن ترديد جملة “فليمت من الجوع كل أولئك الفنانين الحمقى الذين يدنسون نقاء وطهر إسرائيل”.
يقول ياء لجمهوره الذي أتى لمشاهدة فيلمه بأنه يصور فيلما عن ركبة عهد التميمي، وهو عمل لن تفهمه وزارة الثقافة العنصرية ولن يفهموه هم أنفسهم لأنه تمت قولبة عقولهم في قوالب مغلقة من العنصرية ورفض الآخر وسينتهي بهم المطاف إلى التلاشي لأنه وكما تقول أمه الحاضر الغائب في الفيلم “الجغرافيا هي من يربح دائما في النهاية” ولكن ليس بالمعنى الذي تريده إسرائيل. فينهال عليه الجميع بالضرب المبرح ويتهمونه بالخيانة.
“ركبة عهد” فيلم جدير بالمشاهدة لمخرج، ناداف لبيد، الذيقرر بمحض إرادته ترك إسرائيل والهجرة منها ليستقر في فرنسا لأنها لم تعد تمثل حلمه ولأنها لم تعد، حسبه، البلاد التي تينع فيها زهرة الحرية.
عن فرانس برس