“تحت شمس توسكان” ستعود إليك الحياة

إنَّه ليس فيلمًا؛ بل أُنغُومة الحياة التي لا بُدَّ أنْ تدبَّ في قلبك.. فيلم ينطق بمعاني الحياة جميعها؛ المعاني السيئة ليتصالح معها، والمعاني المُشرقة ليتركك فيها متأملًا ببهجة وسعادة. كلُّ ما في الفيلم ينضح بالسعادة والجمال والرِّقَّة والعُذُوبة. يتناول قصة امرأة تعمل كاتبة أدب وناقدة، تعرَّضت لخيانة زوجيَّة، وتدهورت بها الأحوال كثيرًا، واختنقت من معيشتها؛ فرحلت بعيدًا.

الفيلم أمريكيّ، أُنتِج عام 2003. من تأليف وإخراج “أودري ولز”. فيلم بهذا الإشراق في المعاني يكون غالبًا عن نص أدبيّ. وهو عن كتاب يحمل اسم الفيلم نفسه “تحت شمس توسكان” لسيدة أيضًا هي “فرانسيس مايز”، وهي كاتبة أدب وشاعرة وأستاذة جامعيَّة. والكتاب نوع من السيرة الذاتيَّة للتجربة الحقيقيَّة التي خاضتها هذه الكاتبة، ورحلتها من “الولايات المتحدة الأمريكيَّة” إلى إقليم “توسكان”، وما لاقته فيه، وما عَرِكَتْه من تجربة رُوْحيَّة وفكريَّة. وقد قامت ببطولته امرأةٌ ثالثة هي المُمثِّلة الأمريكية “ديان لين”. فهو فيلم نسائيّ بامتياز. و”توسكان” هذا -أو توسكانا- إقليم في إيطاليا، تدور فيه أحداث الفيلم. وهو إقليم واسع. يمتلك طبيعة قادرة على أنْ تنسيك كلَّ ما حولك، وقادرة أنْ تحيي فيك الآمال الناضرة والناطقة بالسِّحر الآسِر.

ولأنَّ مُخرجة الفيلم هي المؤلفة تميَّز الفيلم بتماسك رصين لكلِّ مُكوِّناته. فقد جاء الإخراج رافعًا شعار “افعلْ ما عليك وحسب”. وقد فعلت ما عليها وحسب؛ وراحتْ تروي لنا قصَّة دراميَّة إنسانيَّة تحت شمس توسكان الأخَّاذة. لمْ تعمد إلى التفلسُف والحذلقة؛ فقط تركت الأمور تسري في خطوطها الطبيعيَّة. واستفادتْ من إمكانات وآفاق الكتاب الذي اقتُبس منه الفيلم معنويًّا، واستفادتْ كلَّ الاستفادة بإمكانات هذا الإقليم في غالب دقائق الشريط السينمائيّ من جانبَيْنِ: الأوَّل تصوير لقطات دراميَّة من تكوين القصَّة في تلك الأماكن، أو تصوير “لقطات جماليَّة” أدخلتها في تكوين الفيلم كُلِّيًّا.

والمُخرجة محظوظة جدًّا بالمكان الذي ألزمتْها به الرواية؛ حيث سهَّل عليها محلُّ التصوير أمر إخراج كلّ هذه اللَّوحات الفنيَّة التي يمتلأ بها الفيلم. وكلُّها من الطبيعة، وجميعُها حقيقيَّة. لمْ يكن هناك من خُدع إلا مرتَيْن، في مَشهدَيْنِ هامشيَّيْنِ (مشهد الصاعقة، ومشهد الزجاجة)؛ وكلاهما جاء سيئًا بائن التزييف. وهذا أمر غير قادح بالنسبة لطبيعة العمل. لكنَّ الفيلم ليس فنًّا تشكيليًّا، وليس اختبار تصوير. إنَّه دراما؛ فما هي دراما العمل؟

الفيلم من تصنيف دراما وكوميديا. وهنا أؤكد على ميزة وحدة الصانع؛ حيث النمط نفسُه في الإخراج نراه في التأليف. لا تعقيد، لا فلسفة في تأسيس البناء؛ إنَّها البساطة والمُضيّ في الرواية. تمحور الفيلم حول تلك الكاتبة -والتي كان اسمها في الفيلم هو اسم الشخصية الحقيقيّة “فرانسيس مايز”- ورحلتها إلى إقليم “توسكان”، والتغيُّرات التي تحدث لها جرَّاء هذه الرحلة التي أضافت لها الكثير.

لتكتشف فيها معنى الأمل بعد انهيار كلّ شيء، وتعرف أنَّ العائلة قد لا تكون زوجًا، وأنَّ الأُلفة قد تأتي من الغرباء، وأنَّ الغرباء ليسوا غرباء في حقيقة الأمر. وهي التي كانت علمانيَّة، والآن بدأت تشعر بالدين المسيحيّ يدخل في قلبها (هذا الأمر ذُكر نصًّا في الفيلم على لسان الشخصية)، وبدأت تدخل في الإيمان بالأقدار. كلُّ هذه التغيُّرات النفسيَّة والفكريَّة بدأتْ مع شرائها لقصر صغير عريق في الإقليم نظير ما معها من أموال، وفي أثناء رحلة ترميمه.

مع مجموعة من الشخصيَّات التي كان لها تأثير كبير في تطور الأحداث، بل إلى توجيه مسار الشخصية الرئيسة؛ مثل “كاثرين” السيدة التي تحمل خبرات زوجها السابق، وتنقل لشخصيتنا خلاصة هذه الخِبرات. “مارتيني” ذلك المعجب بها المُحافظ على عهد زوجته، و”مارشيللو” الشاب الذي أعاد تجربة الخيانة وشعورها في ضميرها وجُوَّانيَّتها، و”باتي” تلك الشابة من أقاربها. كلُّ هذه الشخصيَّات التي شكَّلت شبكة علاقاتها، وشبكة تحريك دراما العمل.

أمَّا عن الكوميديا في الفيلم فقد جاءت لطيفة جدًّا، نابعةً من العمل، خاليةً من أيِّ إقحام أو تزيُّد أو افتعال. وكانتْ غالبًا كوميديا موقف، أو كوميديا حركة من المُمثِّلة “ديان لين” التي كان لها ولإمكاناتها التمثيليَّة وللُطفِها البيِّن دورٌ كبيرٌ في إنجاح دراما العمل، وتوليد الكوميديا فيه. وقد كانَ اختيارًا مُناسبًا إلى أبعد الحدود.

ليس معنى القول: إنَّ الفيلم كان بسيطًا أنَّه ليس فلسفيًّا، أو لا يحتوي على الأفكار. إنمَّا القصد بساطة التصوُّر التنفيذيّ لهذه الفلسفة، مِن جانبَيْ التأليف والإخراج. ولمْ يخلُ الفيلم من الرمزيَّات؛ التي تمثَّلت في صُنبور المياه العتيق بالقصر، والرجل العجوز المارّ من الطريق يوميًّا.

وقد جاءت موسيقى الفيلم داعمةً لرُوح الأمل. والحقُّ أنَّها كانت مُلائمةً بذكاء ومُجاريةً للفيلم. فضارعتْ بلُطفها لُطف الفيلم، وصاحبتْ في اقتصار لحظات الأمل القويَّة، وبعض لحظات فقدان الأمل أيضًا. ولعلَّ الذكاء في عدم الإكثار من استخدامها في كامل لحظات الانفعال، ودخولها المُتدرِّج غير الملحوظ مثَّلَا الأثر المُلائم لها. وكأنَّ المُخرجة أرادت أنْ يكون الانفعال نفسه -في لحظات الانفعال- هو موسيقاها الخاصَّة، والتي كانت أبرع من الموسيقى الصِّرفة في كثير من الأحيان. فليس أبدع من الموسيقى إلا عازف هذه الموسيقى؛ وهو الإنسان!

ولأنَّ الفيلم مُعالَجَة عن كتاب أدب من نوع السِّيرة الذاتيَّة؛ فطبيعيٌّ أنْ يمتاز بعبارات من خُلاصة التجربة الشخصيَّة، وقد تكون معبَّرة عن مُجمل الفيلم في نظر الكثيرين. اخترتُ لكم هنا حفنة من تلك العبارات المُؤثِّرة والدالَّة في الفيلم: “بين النمسا وإيطاليا جزء شاهق من جبال الألب قاموا ببناء خطّ قطار قبل أنْ يكون هناك قطار؛ لأنَّهم كانوا يعرفون أنَّه ذاتَ يوم سيكون هناك قطار” .. “شيء جيِّد أنْ تعيشَ حياةً جامحةً، لكنْ أبدًا لا تفقد حماسَك الطُّفُوليّ” .. “ذاتَ يوم ظلَلْتُ أبحث عن الخنفساء المُرقَّطة بالأحمر، وتعبت كثيرًا في طلبها حتى نمت في طلبها مُستسلِمةً. ولمَّا استيقظتُ وجدتُ الخنفساء تمشي على جسدي”.

إنَّه فيلم يُلهِمُ الكثير أثناءَ مُشاهدته؛ فحتمًا ستجد ما يُعيد إليك الحياة، إنْ أنت تعمَّقت في معانيه، أو اكتفيت بالنظر إلى الطبيعة الساحرة الخلَّابة التي تُسيطر على غالب مَشاهده، أو رأيت النماذج الإنسانيَّة التي صنعتها مُؤلِّفتُه.

Visited 89 times, 1 visit(s) today