تأملات في الخطاب السينمائي المغربي الجديد

عرفت وتيرة الإنتاج السينمائي المغربي خلال العقد الأول من القرن الحالي تطورا لافتا للنظر برز في التنامي العددي للأفلام المنتجة سنويا إذ انتقل المعدل من أربعة أفلام خلال السنة الواحدة تقريبا خلال تسعينيات القرن المنصرم، إلى ما يناهز اثني عشر فيلما خلال العشر سنوات الأولى من القرن الحالي. كما أن هذا النماء الكمي واكبه تطور نوعي إذ تحسنت الجودة الفنية والتقنية للفيلم المغربي مثلما اتسعت حياضه الفكرية والفلسفية وتنوعت المصادر التي ينهل منها مادته الدرامية. فأصبح المتابع للشأن السينمائي المغربي يلاحظ بوضوح ما عرفه المخرج المغربي من تحول على مستوى الرؤية الإخراجية، ودقة في اختيار المواضيع، ورقي في الصوغ الفني لهذه المواضيع. كما ظهرت أجيال جديدة من المخرجين المغاربة سعت إلى نحت وجودها المتميز من خلال تحقيق سينما مختلفة تنخرط بشكل أعمق في الهم الإنساني، وتقارب بجرأة ما كان في حكم المقدسات، وترنو إلى تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في صنع الإبداع الراقي و اختراق وجدان  المشاهد واستجلاب فكره  وتحريك مخيلته.

وقد صاحب النقد السينمائي المغربي أعمال هذه الأجيال الجديدة تعريفا وتنظيرا وتفكيكا وتقويما فكان بمثابة الموجه لمسارها، والمصحح لعثراتها، والباني لكثير من مفاهيمها وأطروحاتها سالكا طريق النعومة والهدوء  أحيانا، و مبديا كثيرا من القسوة والعنف أحيانا أخرى. في هذا الإطار بالذات يمكن إدراج كتاب أطروحات وتجارب حول السينما المغربية للناقد السينمائي المغربي محمد اشويكة  الذي صدر عن دار التوحيدي سنة  2008 ويقع في مائة وخمس وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط.

أسئلة متجددة

في مقدمة الكتاب حصر الناقد بداية مفهوم السينما المغربية الجديدة في إبداعات جيل السينمائيين المغاربة الذين ينتمون إلى العقد الأول من القرن الحالي. ثم راح بعد ذلك يعدد سمات هذه السينما فوجد أنها تحتفي باليومي، وتتطرق إلى المحظور، وتهتم بالميكروسكوبي، وتحتفي بالجسد، بالإضافة إلى صفاء منتجها، وشعرية سردها وتخلصها من سلطة المكان، ناهيك عن الحركية التي عرفتها حينما شرعت أبوابها أمام مخرجين قادمين من عالم المسرح ومخرجات ولجن عالم السينما لأول مرة.  

وفي الفصل الأول من الكتاب قارب الناقد جملة من القضايا والإشكالات التي طرحها المتن السينمائي المغربي الذي ينتمي للفترة موضوع الدراسة كعلاقة السينما المغربية بنظرية المؤلف التي صاغتها السينما الفرنسية خلال ستينيات القرن المنصرم، وطبيعة تعامل السينمائيين المغاربة مع موضوع الطفل، والخصائص المميزة للفيلم المغربي القصير، والطريقة التي عولجت بها تيمة الهجرة داخل المنتج السينمائي المغربي، والصيغ التي اعتمدها المخرجون المغاربة في تعاطيهم مع موضوع الاعتقال السياسي، والأسباب التي حالت بين صناع الصورة السينمائية المغربية وبين التعامل مع الصحراء كفضاء للتخيل والإبداع، وطبيعة العلاقة القائمة بين الإنتاج الأدبي والإنتاج السينمائي بالمغرب، وأثر تكوين الفاعل السينمائي المغربي على منجزه الإبداعي، وطبيعة حضور الهامش في السينما المغربية.        

تجارب متنوعة

في الفصل الثاني قارب الناقد مجموعة من الأفلام والتجارب السينمائية فوقف عند تقنية الهدم والبناء في سينما مصطفى الدرقاوي، والعلاقة بين الحكي الفيلمي والحكي المنقبي في شريط جارات أبي موسى لمحمد عبد الرحمن التازي والرؤية الفوتوغرافية في سينما داوود أولاد السيد وماهية الفيلم المغربي في شريط في بيت أبي لفاطمة الجبلي الوزاني، وموضوعة الألم الفني في شريط السمفونية المغربية لكمال كمال، وعلاقة الموضوع والتقنية في شريط على ربيعة والآخرون لأحمد بولان، وإشكالات مؤجلة في شريط صلاة الغائب لحميد بناني، ومسألة الممثل في شريط وبعد لمحمد إسماعيل، وتيمة اللذة في شريط ريزيس دم الآخرين لمحمد لطفي، وتيمة التستر في شريط شاطئ الأطفال الضائعين للجيلالي فرحاتي، ومسألة الاحتفاء بالجمال في شريط لعبة الحب لإدريس اشويكة ،وقضايا الطفولة في شريط ألف شهر لفوزي بنسعيدي والرؤية الديماغوجية في شريط ماروك لليلى المراكشي، والبنية الإيديولوجية في شريط انهض يا مغرب لنرجس النجار، والعودة إلى الأصول في شريط الرحلة الكبرى لإسماعيل فروخي، وسؤال الإنساني والحيواني في شريط على جناح السلامة لعزيز السالمي، وتقنية الصمت في ثلاثية نور الدين لخماري القصيرة، والمخيال السينمائي في شريط البيضة والحلم لمحمد مفتكر.  

وفي خاتمة الكتاب أكد الناقد على ضرورة تدريس مادة السمعي البصري داخل المدرسة المغربية حتى يتأتى للمتعلم المغربي التعامل مع الصورة السينمائية وفق وعي عميق بمكوناتها ووظائفها. واقترح في هذا المجال تصورا لمنهاج دراسي يحدد أهداف تدريس المادة ومحتوى هذا التدريس. ثم ختم بالإشارة إلى بعض من الحلول التي بإمكانها أن تحد من ظاهرة قرصنة المنتج السينمائي.

رهانات مختلفة

يبدو من خلال هذا العرض الموجز لمحتويات الكتاب أن الناقد قد سعى إلى ملامسة بعض القضايا التي أثارها الخطاب السينمائي المغربي خلال العقد الأول من القرن الحالي، والكيفية التي عبر بها هذا الخطاب عن نفسه داخل المشهد الثقافي العام. فالسينمائيون المغاربة الذين وقعوا أعمالا خلال هذه الفترة الزمنية ينتمون بحكم الاضطرار إلى سينما المؤلف، يتعاملون مع موضوع الطفل بشكل عارض، يستلهمون مادة اشتغالهم من الهم المغربي، تتباين تصوراتهم حول مسألة الهجرة، يخضعون للرقابة الذاتية في تناولهم لموضوع الاعتقال السياسي، يتعاملون مع الصحراء كفضاء للتزيين والتأتيت، يفضلون كتابة أعمالهم بأنفسهم بدل الانفتاح على الإنتاج الأدبي، يمارس بعضهم مهنته استهداء بالتجربة ودون تكوين أكاديمي رصين، يلامسون موضوع المسكوت عنه بكثير من النعومة والخجل والتردد. وقد استحضر هؤلاء السينمائيون في أعمالهم جملة من التيمات ذات الاتصال الوثيق بفكر المشاهد المغربي ووجدانه، كالبكارة والموسيقى والجنس والسياسة والهجرة واللذة والوطنية والآخر والحب والصداقة. وقد تنوعت المعالجة الدرامية لهذه التيمات بين أسلوب كلاسيكي يعتمد الحكي الخطي والنبرة الخطابية  (غراميات الحاج المختار الصولدي لمصطفى الدرقاوي) وأسلوب جديد يحتفي بتعبيرية الصورة  ( لعبة الحب لإدريس شويكة ) وأسلوب توفيقي يحرص على وضوح الحكاية وجمالية البناء (السمفونية المغربية لكمال كمال). وتتمتع بعض هذه الأفلام بعناصر قوة مثلما تعاني من جوانب ضعف، فمن مظاهر قوتها الجرأة في طرح بعض المواضيع التي تم السكوت عنها طويلا، والجودة التقنية، والاختيار الموفق للممثلين، وتنويع إطارات الصورة، والتشكيل البصري المتجانس، وتقديم خطاب عميق حول التيمات المطروحة. ومن مظاهر ضعفها المعالجة الإيديولوجية للتاريخ، و النشاز بين التقنية والموضوع، و الرؤية التحقيرية للشعوب الأخرى، و التعامل السطحي المباشر مع الخطاب، وطغيان الموضوع على حساب الجماليات البصرية، و المقاربة الديماغوجية التعميمية لقضايا الهجرة، و سلك طريق الموضة في ملامسة المسكوت عنه.   

ازدحام في المعروض

لقد كانت هذه بعض من الرهانات التي حاول الناقد أن يفصح عنها في هذا الكتاب ويعرضها بين صفحاته. وهي كما هو ملاحظ كثيرة ومتفرعة ومتداخلة لدرجة يصعب معها إيفاؤها ما تستحقه من اهتمام. ففي الفصل الأول الذي شغل حيزا ورقيا من أربعين صفحة، تعرض الناقد لتسع  قضايا كبيرة أي بمعدل أربع صفحات لكل قضية. كما تضمن الفصل الثاني تسع عشرة مقاربة نقدية في حيز ورقي لا يتجاوز سبعين صفحة أي بمعدل ثلاث صفحات ونصف لكل مقاربة. بما يفيد أن المعروض كان اكبر من الحيز الذي خصص له  والنتيجة أن هذا الكتاب ظهر عاجزا عن استيعاب كل القضايا والمقاربات التي طرحت بداخله. لذلك كان من الأفضل أن يتم اختيار القضايا شديدة القرب من المتن الفيلمي الذي ظهر خلال الفترة موضوع الدراسة كمسألة المسكوت عنه وقضية الاعتقال السياسي وموضوع الطفولة وتطويرها بما تستحقه من المناقشة والتحليل والتقويم. كما أنه كان من الأفضل في القراءة الفيلمية التركيز على النماذج التي لها علاقة بما تم طرحه في الفصل الأول كفيلم في بيت أبي لفاطمة الجبلي الوزاني وفيلم ألف شهر لفوزي بنسعيدي واختيار نموذج تمثيلي لسينما الاعتقال السياسي كجوهرة بنت الحبس لسعد الشرايبي. وبذلك يتم استبعاد بعض القضايا التي لازمت السينما المغربية منذ نشأتها كنظرية المؤلف، وإهمال بعض الشرطة التي تعود إلى فترة غير مشمولة بالدراسة كفيلم صلاة الغائب لحميد بناني الشيء الذي يمكن من ضمان حد أدنى من الانسجام بين فصلي الكتاب.    

لقطة من فيلم “ألف شهر” لفوزي بن سعيدي

انتقائية في العرض

وقد تنوعت قراءة المنتج السينمائي الذي انتقاه الناقد موضوعا للتأمل النقدي بين التركيز على التجربة السينمائية في شكلها العام  ( البناء والهدم في سينما مصطفى الدرقاوي، السينمائي والفوتوغرافي في سينما داوود أولاد السيد) و التركيز على منجز سينمائي بعينه (ألف شهر لفوزي بنسعيدي، سارق الأحلام لحكيم نوري، ماروك لليلى المراكشي).  كما تنوعت قراءة هذا المنتج السينمائي بين مقاربة موضوعاتية  تعنى بالكشف عن التيمة المهيمنة في الشريط ( تيمة اللذة في فيلم زيروس دم الأخرين ) ومقاربة فنية تهتم برصد الجوانب الجمالية في الشريط (المخيال السينمائي في شريط البيضة والحلم) ومقاربة جامعة تسعى إلى القبض عن البنى الدالة في الشريط والصيغ الفنية التي تكشفت من خلالها هذه البنى (سوناتة الألم الفني في فيلم السمفونية المغربية). ويبدو من خلال هذا التنوع المقارباتي للأشرطة السينمائية موضوع التأمل أن الناقد لم يتبن مسلكا معينا في التحليل واضح المعالم ثابت الخطوات، بل كان ينتقي لكل شريط عنصرا معينا من عناصر القراءة الفيلمية يشمله بالعناية ويلغي من اهتمامه بقية العناصر. وأعتقد أنه كان من المستحسن – بغض النظر عن النقاش الدائر حول جدوى المنهج في القراءات الفيلمية – أن يرسم الناقد لنفسه خطة واضحة ينطلق منها في تأملاته لا ترتمي كثيرا في أحضان المضمون  ولا تبالغ في الاحتفاء بالتقنية وإنما تركز بالدرجة الأولى على ما يضمن للفيلم شرعية الانتماء للفن السينمائي.     

عمومية في الأحكام

ويحفل هذا الكتاب في فصليه بمجموعة من الأحكام العامة التي لها كامل الشرعية في أن  تطلق ويثار حولها النقاش، ولكنها تحتاج إلى السند الموثق والدليل الملموس، من ذلك مثلا ما ورد في مبحث ( الطفل الغائب في السينما المغربية) من أن الطفل المغربي حضر في السينما المغربية في صور شتى سوسيولوجية ونفسية وبيداغوجية وتقنية دون الإشارة من قريب أو بعيد إلى فيلم ما من الأفلام المغربية تعرض إلى صورة من هذه الصور. وما ورد أيضا في مبحث (السينما المغربية والأدب: العلاقة المتنافرة) من أن بعض الأفلام المقتبسة من الأدب للسينما أساءت إلى المصدر الذي اعتمدته  دون تقديم دليل على ذلك من المنجز السينمائي المغربي التي اعتمد فيه أصحابه على الأدب المغربي كمصدر لاستلهام مادتهم الدرامية. وما ورد كذلك في مبحث (تمظهرات الهامش في السينما المغربية ) من أن الأفلام المغربية قد قدمت صورا متعددة لشخصيات هامشية في البنية الاجتماعية المغربية من ضمنها صورة العاهرة  وصورة الشيخة  دون الإحالة على أعمال سينمائية مغربية قدمت هاتين الصورتين. وبالموازاة مع ذلك استحضر الناقد أقوالا وآراء لمجموعة من الفلاسفة والنقاد كجيل دولوز بخصوص مفهوم الفلسفة ( ص5) ورولان بارت بخصوص ما قاله بشأن سلطة اللغة (ص 101) دون تحديد المراجع المعتمدة في عملية الاستحضار سواء على هامش الصفحة أو عند نهاية المبحث.

توتر في التركيب

ويشكو هذا الكتاب – كما أكثر الكتب التي اعتمدت في بنائها على تجميع ما نشر من مقالات – من اضطراب في التركيب. وغير خاف أن هذا الاضطراب مرده إلى أن المقالات المعتمدة في بناء هذا الكتاب لم تخضع بما فيه الكفاية  للتشذيب والفحص والغربلة وإعادة النظر حتى يتم تمتين الخيط الرابط بينها فيتم الاستغناء عن مقالات، وتعديل أخرى استهداء بالأطروحة التي يسعى الناقد الدفاع عنها. وأعتقد أنه كان من الأجدى احتراما لمنطق الدراسة العلمية أن يتم تقسيم هذا الكتاب إلى مقدمة وفصلين وخاتمة. تعنى المقدمة بالتركيز على الهدف من الدراسة ومحتوياتها وهو ما سعى الناقد للقيام به في مقدمة الكتاب، ويحاول الفصلان- من خلال تقسيمهما إلى مجموعة من المباحث –  طرح القضايا ذات الصلة الوثيقة بالسينما المغربية الجديدة واختيار عينة من الأفلام التي تجسد بوضوح ملامح هذه السينما مع الحرص على أن يكون الحوار قائما بين القضايا النظرية والمقاربات النقدية. ونجد في فصلي الكتاب مادة غنية للوفاء بهذا الهدف.

أما الخاتمة فينبغي أن تكون تركيبية في المقام الأول وهو ما لم يفعله الناقد حيث بدا الموضوع الذي تم اختياره للختم – على أهميته – شاردا لا علاقة له بأهداف الدراسة. فتدريس الصورة في المدرسة المغربية كان ولازال مطلبا مشروعا لأن التطورات التي شهدها عالم الصورة هو الذي حدا بالمنشغلين بالميدان السمعي البصري والميدان التربوي للإلحاح على تجسيد هذا المطلب على أرض الواقع ولا صلة للسينما المغربية الجديدة بهذا الأمر.

  وبعد، فإن هذا الكتاب قد جاء غنيا بمادته وبمعلوماته، وعكس بشكل دقيق المعرفة الدقيقة لصاحبه بتقنيات العمل السينمائي واستلهامه الواعي لبعض المقولات الفلسفية والنقدية والتربوية  بما يفيد أن النقد السينمائي المغربي بدأ يشق طريقه نحو تأسيس منهج في الكتابة له من الإمكانيات ما يجعله مستقلا عن أنواع النقد الأخرى ومتفاعلا معها في آن معا.      

Visited 59 times, 1 visit(s) today