“تأتون من بعيد”.. النِّضال يُعانق الرُّومانسيَّة

تتشابه المُدُن وقت القصف؛ سواءً كانت صورتها بالأبيض والأسود أو مُلوَّنةً.. الصوت نفسه، والضوء الذي ينير السماء. هذه هي الكلمات التي ستستمع إليها مع اقتراب الثلث الثاني من الفيلم؛ والأكيد أنَّك ستستمع إلى الكثير غيرها الذي سيروق لك وستكون هذه الكلمات هي الألصق بأذنَيْك ووعيك بعد تجربة المشاهدة الكاملة. كما ستعلق بك كلمات صادقة أخرى من مثل: تتشابه الناس وهي خائفة تهرب، تتشابه وجوههم وخسارتهم، ومثل: كمْ شجرة زيتون قطعها الصهاينة! كمْ شجرة سيقطعونها! لماذا يكرهون شجر الزيتون؟!

كل هذه الجُمل ساقها إلينا صوت دافئ على شريط الفيلم التسجيليّ “تأتون من بعيد” الذي تمَّ إنتاجه عام 2018. كتبتْه وأخرجتْه وقامت بتحريره الفيلميّ أمل رمسيس، وقام ببحثه الأرشيفيّ ساندرين منصور، وسُمِّي باسم قصيدة “تأتون من بعيد” للشاعر الإسبانيّ رفائيل ألبيرتي. وشاركتْ فيه الفنانة “ريم بنا” بصوتها المُنشد لقصيدة “الأُمميَّة”. وهو من نوع الأفلام التسجيليَّة الطويلة. وقد حاز على عدد من الجوائز.

ولا تعني تلك الجُمل المقتبسة من الفيلم أنَّه فيلم سياسيّ، كما لا يعني ابتداء الفيلم بغزو أمريكا للبلاد العربيَّة العراقيَّة عام 2003 ذلك. فالفيلم فيلم عميق؛ وكأيّ عمل عميق يصعب تصنيفه ويصعب كذلك تحليله. لكنْ لا بأس من المحاولة فمثل الأعمال العميقة فقط هي الجديرة بالمحاولة الدائبة لسبر أغوارها.

فيلم “تأتون من بعيد” يتناول قصة يغزل خيوطها أبطال فيلمنا لقطةً بعد لقطة. قصة المناضل الفلسطينيّ “نجاتي صدقي” الذي عاش بين عامَيْ 1905، 1979. يرويها لنا أبناؤه الثلاثة الكُبرى دولت، وهند، وسعيد. دولت تعيش في روسيا وتُسمَّى “دوليا”، وهند تعيش في اليونان، وسعيد يعيش في البرازيل. يبدأ الفيلم بدولت -وهي الشخصيَّة الأبرز في الفيلم- وهي تروي أشتاتًا من حياتها التي تودي بنا إلى قصة أبيها، ثم تظهر هند -وهي الشخصيَّة الثانية في الفيلم- مع صورها التذكاريَّة لتُرينا شخصيَّة الفيلم التي تُعدّ حبكته “نجاتي صدقي”. وأخيرًا مع نهاية الفيلم يظهر لنا الابن الأخير سعيد ضيفًا يُكمل عقد الأسرة. وآخر أبطالنا هو الراوي أو الراوية -إن أردنا الدقة- وهي صاحبة الفيلم الأستاذة أمل رمسيس -وتعد هنا شخصيَّة لأنه فيلم تسجيليّ ولو كان فيلمًا روائيًّا لما صحَّ اعتبارها شخصًا-.

المخرجة أمل رمسيس

و”نجاتي صدقي” الذي يدور حوله الفيلم هو مناضل عربيّ فلسطينيّ شيوعيّ، انضمَّ للتنظيم الشيوعيّ عنصرًا فاعلاً فيه. وقد أثبت كفاءة وفاعليَّة للدرجة التي جعلت الكيان الشيوعيّ يعتمد على جهوده في نشر الوعي الشيوعيّ في عدد من الدول الأوربيَّة. هذا المناضل كان يناضل بقلمه وفكره الحرّ؛ حيث كان كاتبًا وأديبًا، وسيجد القارئ بعض كتبه إنْ بحث عنها على الفضاء الإلكترونيّ.

ولد في فلسطين لكنْ لمْ يكتبْ له القرار في أيّ بلد؛ فكانت حياته سفرات بعد سفرات وظلّ جوالاً في البلاد إلى يوم موته. انتقل إلى فرنسا ليعمل مع موجات نهوض الشيوعيَّة في الثلاثينيات، ثم إلى إسبانيا ليقاوم المستبد “فرانكو” بتفتيت جبهته التي يتكون جزء منها من جنود عرب مغاربة. ثم طُرد من التنظيم الشيوعيّ لإصراره على التعبير بحريَّة فيما يخالف فيه رأي التنظيم. وعاش فترة طويلة في بيروت.

تزوج صدقي من امرأة أوكرانيَّة تعرَّف عليها في القدس، واكتشف الأولاد جميعًا بعد عقود طويلة أنَّها كانت يهوديَّة. وأنجب منها ابنته الكبرى دولت والتي إثر اقتياده وزوجه إلى السجن هرَّبها التنظيم الشيوعيّ (الكومنترن) إلى روسيا، وأودعها أحد الملاجئ لتكون هذه الحادثة حدًّا فاصلاً في حياتها حيث صارت الوحيدة التي تعتبر أجنبيَّة والوحيدة التي لا تتحدث العربيَّة. ثم أنجب هندًا وسعيدًا فيما بعد وقد قامت دولت بزيارتهم جميعًا عدة زيارات وكأنَّها غريبة عنهم. واستطاع الفيلم أنْ يصور اجتماع العائلة الصغيرة المكونة من الثلاثة في ثلثه الأخير.

فيلم “تأتون من بعيد” فيلم صُنع بدقَّة ورهافة، ولعلَّ أبرز ما فيه هو الحسّ الإنسانيّ الذي بثَّتْه فيه صانعته. ولا عجب في أن يكون الفيلم مُحمَّلاً بكل كميَّة المعاني الجديَّة الممزوجة بمسحات رومانسيَّة إنسانيَّة صرفة إذا عرفنا أنَّ الفيلم يختمر منذ عام 2003، ومع طلقات المدافع والطائرات التي غزت العراق تُفجِّر الأرض وتقلبها رأسًا على عقب، كذا قلبت المُخيَّلة الإبداعيَّة العربيَّة رأسًا على عقب لتبثّ فيها فكرة ستبدأ في التطور، وأسلوبًا واضحًا فيه التركيز والترتيب والإخلاص. فعند الملاحظة نرى أنَّه عرض حياة مناضل، وقصصًا بالغة الإنسانيَّة، وربط غزو الأمس بغزو اليوم، واستنهض العروبة للتقدم من جديد في نسق واحد. ولا يتأتَّى مثل هذا الجمع من الأهداف إلا بالتأنِّي الشديد.

وصف الفيلم بكونه فيلمًا رومانسيًّا لا يترك في ذهن المشاهد غرابةً من كم المعاني الرومانسيَّة (والرومانسيَّة لا تعني الحبّ، بل هي كل عاطفة إنسانيَّة إطلاقًا) التي تبدأ مع اسم الفيلم نفسه، مع أولئك الذين يأتون من بعيد في رحلة دائمة عبر البلاد، وعبر القارَّات، وعبر الأهوال والصعاب من أجل المقاومة، ومن أجل الإنسانيَّة التي تعذَّب تحت وطأة الحروب والمستبدين، ومن أجل الكلمة الحُرَّة التي لا يمكن أن تُكتم تلك الكلمة التي عبَّرتْ لها هند بتعبير: أحسَّ كأنَّه مات، مات جزء من أبي عندما مُنع من التعبير. ولا يكتفي الفيلم بهؤلاء الآتين من بعيد بل حقق اللقاء بين الإخوة الذين أتوا من بعيد؛ كلُّ واحد منهم من قارَّة ليجتمعوا بأمل اللقاء الذي يُحيي فينا آمالاً أخرى رُبَّما تنطفئ من قسوة الحياة.

هو فيلم رومانسيّ وستدرك ذلك عندما تترك كل ما يدر في خلفيَّة الأحداث لترقب من قريب تلك المشاعر الرقيقة النبيلة التي عبَّرت عنها دولت وهي تصف مشهد الوداع بينها وبين أمِّها حيث تركتها الأمّ في ملجأ بعدما ألهتْها بفتاة صغيرة مثلها، وعادت دولت لتجد أمَّها رحلت بلا كلمة وداع؛ حينها أحسَّتْ لوهلةٍ بالخداع، وأحسَّتْ بلوعة الفراق لسنوات طويلة. ستدرك كمَّ رقته عندما تجد أدقّ تفاصيلها تعبِّر عن فرحتها بصور كان أبوها يبعثها لها كل فترة بتوقيع عليها، عندما تجدها تعبِّر عن لقائها الأول بهذه الأسرة التي هي أسرتها لكنْ الحيرة تتملكها بين شعورَيْ الانتماء والغربة، عندما تتحدث عن اختلاف اللغة بينها وبين أسرتها رغم أنَّها من لحمهم ودمهم.

لقطة من الفيلم

وفي حديث الذكريات ستجد الصورة تنتقل ما بين الوجوه والأماكن وكأنَّها تختبر الأماكن على الوجوه لتضع أمامك ثنائيَّة من مشاهد الآلام والبرودة في المكان إلى مشاهد الدفء المرسوم على خريطة وجه دولت، وعلى ابتسامة هند التي تداري بكاء عميقًا من القلب. وما يزيد من تأثُّرك بهذه المشاهد النبيلة أنَّه ليس تمثيلاً ما أمامك، بل هي الحقيقة عندما تكشف عن جسدها.

ومما سيلفت انتباهك أنَّ ذاكرة العجوز دولت أشدّ استدعاء لتفاصيل المشاهد والأحداث من ذاكرة أخويها الأصغر سنًا. وما ذلك إلا لدرجة تأثير تلك المشاهد والأقوال والأحداث على نفس دولت فقولة أخيها لها: العربيَّة الحمراء قد لا تمثّل له الشيء الكبير لذلك لم يتذكرها سعيد، لكنَّها بالنسبة لدولت كل ذكراها مع أخيها الذي هو جزء كبير من عائلتها، ولمْ تبقَ هذه الكلمة في ذهنه إلا أيامًا لكنَّها بقيت في ذهنها طوال هذه العقود تتدفأ بها في صقيع الغربة العائليَّة.

سيروقك أيضًا مفهوم الوطن، وحديث الشخوص في الفيلم عن الانتماء والغربة. وجميع من بالفيلم غُرباء طوال أعمارهم دولت تعيش في آسيا، وهند تعيش في أوربا، وسعيد يعيش في أمريكا الجنوبيَّة؛ رغم أنَّ الجميع عربيّ فلسطينيّ. ولن تترك ذاكرتك بسهولة قولة دولت من أنَّها أوصتْ بدفنها في القدس لأنَّها تشعر أنَّ روحها سوف تستريح في القدس.

الأسلوب الإخراجيّ في هذا الفيلم واضح وبارز للغاية. الفيلم اعتمد -كما هو متوقع في نوعه- على لقطات أرشيفيَّة كثيرة طبيعيَّة وفنيَّة مصنوعة، وكذلك على مجموعة من الصور الثابتة. لكنَّ المميز ليس هو إدراج هذه العناصر في فيلم يتناول حقبة تاريخيَّة، بل كيفيَّة هذا الإدراج. لقد أصرَّت صانعة الفيلم على المزاوجة بين لقطات الحاضر ولقطات الماضي المُؤرشفة لدرجة صنعتْ بها تماهيًا -أيْ خليطًا تذوب عناصره حتى لا يمكنك التعرُّف عليها فيه- بين هذين الحدّيْن الحاضر والماضي بشكلٍ واعٍ ومُكثَّف. يهدف هذا الأسلوب لتغذية الجانب البصريّ في التجربة عمومًا، وكذلك لإحداث تأثير أعمق وأشدّ في نفس المشاهد وانفعالاته.

أيضًا تميَّزت في الأسلوب بمحبَّة الاقتراب مما تريد تصويره أو تجليته وهذا الأسلوب من الاقتراب كان واضحًا طوال دقائق الفيلم، وقد أثَّر على اختيار أحجام لقطاتها بشدة. ولعلَّ هذه الميزة لا تنفصل عن الروح الرومانسيَّة العامَّة في الإخراج، وعن البُعد الدراميّ في جو الفيلم عمومًا.

ولا نهاية أبلغ من نقل أبيات شدت بها ريم البنا تستحثُّ فيها النفوس وتعبِّر بصدق عن روح الفيلم كله بعد حديث عن الثورات على الظلم:

هُبُّوا ضحايا الاضطهادِ، ضحايا جُوعِ الاضطرار

بُركانُ فكرٍ فيْ اتِّقادِ، هذا آخرُ انفجار

هيَّا نمحقُ الظلامَ، نحطِّمُ القيودْ

شِيدوا الكونَ جديدًا حُرًّا، كُونُوا أنتُمُ الوجودْ

بجُمُوعٍ قويَّةٍ هُبُّوا لاحَ الظَّفَر

غدُ الأُمميَّةِ يُوحِّدُ البَشَر

Visited 97 times, 1 visit(s) today