“بيرد” فيلم أندريا أرنولد في كان.. حصاد الهشيم!
أمير العمري
انتظرت في تشوق، مشاهدة الفيلم الجديد “بيرد” Bird، للمخرجة البريطانية أندريا أرنولد الذي عادت به إلى مسابقة مهرجان كان بعد ثماني سنوات من الغياب، أي منذ عرض فيلمها السابق “عسل أمريكي” American Honey (2016) الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم.
إلا أن كل التوقعات والآمال باءت بالفشل. فها هي أرنولد، تحاول أن تلعب على نفس الثيمة التي سبق لها أن عالجتها بنجاح في فيلمها الأول “حوض السمك” Fish Tank ولكن مع فشل تام في تقديم أي رؤية تتمتع بالصدق الفني، أو بالتماسك من حيث البناء وسياق السرد والشخصيات، فكل شيء في هذا الفيلم مصطنع تماما، ومبالغ فيه كثيرا، بغرض تحقيق “الصدمة”، بدعوى أن هذه أصبحت صورة الواقع في إنجلترا المعاصرة كما تراها المخرجة، من خلال تصوير حفنة من الشباب العابث الضائع.
إنها تحاول، دون أن تقترب كما كان ينبغي من سبر أغوار موضوع فيلمها، تجربة فكرة تنزلق على السطح، هي تارة أزمة الهوية، وتارة أخرى، الشباب الذي يغرق نفسه في المخدرات والموسيقى الصاخبة والوشوم الجسدية العبثية، والأبناء الذين لا يعرفون من هم ومن أين جاءوا، وتارة ثالثة، فكرة معاناة فتاة خلال عبورها من الطفولة إلى الأنوثة.. وكلها أفكار تمر سريعا دون أي تعمق.
الأسلوب الذي أصبح عرفا متبعا في أفلام أندريا أرنولد، هو أسلوب الواقعية الجديدة الذي عفا عليه الدهر، وأصبح في حاجة إلى التطوير، فهي تستخدم الكاميرا المحمولة الحرة، تتابع بواسطتها بطلة فيلمها، فتاة الثانية عشرة “بيلي”، في سيرها وانتقالها من مكان إلى آخر، هائمة على وجهها، ترقد حينا في العراء، أو تصور بهاتفها المحمول كل من تقابلهم من شخصيات غريبة، غير أن تركيزها الأساسي على الطيور، وكأن الفيلم يقول لنا إن بيلي تبحث عن الحرية، عن التحليق الحر في الفضاء مثل الطيور وهي فكرة نمطية ساذجة!
“بيلي” فتاة سوداء من أصول افريقية، لكنها ابنة لرجل أبيض ذو عينين زقاويتين هو “باغ bug” (حشرة بق الفراش!)- يقوم بالدور الممثل الأيرلندي الصاعد بقوة في سماء الدراما الإنجليزية، “باري كيوغان”. ورغم حرصه على الفتاة ورعايتها، إلا أنك تشعر أنه في حاجة إلى الرعاية هو نفسه، فهو مهووس بالوشوم التي تغطي جسده كله، وكلها رسوم لحيوانات وزواحف وطيور مفترسة، وبالموسيقى الصاخبة والرقص المجنون مع عصبته من الأولاد الأشقياء، وهو يأمل في أن يجني ثروة بعد أن يبيع المادة المخدرة التي يفرزها ضفدع من نوع خاص جدا. ولكي يفرز هذا الضفدع تلك المادة الثمينة، يجب أن يتم إزعاجه بالإيقاعات الموسيقية والدقات العنيفة التي لا تتوقف طوال الفيلم في الحقيقة.
سنعرف أن بيلي لها أم ( من أصول إفريقية مثلها، تقيم في مكان آخر بعيد، مع ابنتيها من باغ، مع شاب عنيف مدمن، يضربها باستمرار ويفتك بها فتطرده، ثم يعود لكي يتوسل من أجل أن يعود إليها.
باغ يريد أن يتزوج من فتاة يحبها هي الآن حامل منه. ولكن بيلي غاضبة من مسلكه هذا وترفض أن تجرب الفستان الذي اشتراه لها لكي ترتديه في حفل الزفاف. وتفر خارج البيت الذي لا يملكه باغ، بل هو عبارة عن مأوى جماعي متدهور تم الاستيلاء عليه بموجب العرف الإنجليزي العتيق.
تلتقي بيلي بشاب ألماني غريب الأطوار، يرتدي تنورة، يدعى “بيرد” جاء إلى تلك المنطقة من ريف مقاطعة كنت في جنوب شرقي إنجلترا، للبحث عن أبيه، تتطوع بمساعدته، ويتوصل الاثنان بالفعل الى مكان الأب (لا نعرف كيف فليس مهما) لكن الأب يرفض الاعتراف بابنه، فهو متزوج من امرأة أخرى وقد نسى تماما أمر زوجته الأولى وابنه منها. لكن بيرد يتمتع بميزة أخرى خطيرة الشأن هي أنه يستطيع الطيران بجناحين من الريش على غرار عباس بن فرناس (!) هنا يغادر الفيلم واقعيته، أي واقعية “حوض المطبخ”، ويتجه إلى “الواقعية السحرية”!
الفكرة التي جذبت المخرجة هي تصوير تلك الشخصيات التي لا تقنع أحدا، تريدنا أن نصدق أن باغ (الأب) أنجب ابنته بيلي وهو في التاسعة من عمره، فهو يقول لها إنه الآن في الحادية والعشرين بينما هي في الثانية عشرة، ثم تريدنا أن نصدق أيضا أن أخاها من أم أخرى ومن نفس الأب باغ، ويدعى “تايجر” (أي نمر) وهو في الرابعة عشرة، أنجب طفلا من فتاة في الثانية عشرة ولكن أهلها منعوها من مقابلته، وهو يريد أن يلقاها بمساعدة بيلي وأن يحظى برعاية أبنه. ولكن من أين تعيش هذه الشخصيات الهامشية المغيبة؟ لا أحد يعرف، ولا أندريا أرنولد نفسها!
يعاني الفيلم مثل أفلام كثيرة تصنع بالنوايا الحسنة، من غياب الحبكة، أي القصة التي تسير في سياق درامي محدد تجمع بين هذه الشخصيات، وترسم مصائرها، وتنتهي إلى فكرة تثير اهتمام المتفرج، لكننا أمام فيلم أقل ما يقال عنه أنه عمل مفكك سطحي وصفي كئيب لا يثير سوى الكآبة.
هناك رتابة في السرد، وشخصيات كرتونية سطحية، وفتاة لا نعرف ماذا تريد وما الذي يجعلها غاضبة باستمرار، تؤديها ممثلة مبتدئة، متجهمة، باردة لا يغادر وجهها تعبير واحد جامد طول الفيلم.
وعلى الرغم من الإيحاء بالواقعية في التصوير، ومن الكاميرا المحمولة الحرة التي توهمنا بأننا نشاهد شيئا قريبا من “سينما الواقع وسينما الحقيقة”، إلا أن الفيلم يمتنع عن الإقناع، بل ولا تبدو التفاصيل الكثيرة التي ينضح بها (قصة الضفدع الغريب مثلا) مثيرة للاهتمام، ولا ولع الأب الشاب الذي لم يتخلص هو نفسه من مراهقته بعد، ورغبته في الزواج من فتاة أخرى، أمرا يثير أي اهتمام فهو لا يساهم أصلا في تطوير الموضوع، ولا أحد يعرف لماذا يرتدي “بيرد” تنورة، ولماذا يظهر في مشاهد عديدة دائما وهو يقف فوق الأسطح مثل “سوبرمان” كما لو كان يستعد للطيران، ولا ماذا سيفعل بعد أن رفض أبوه الاعتراف به.
إن أجواء الضياع والتشرد والتشرذم وغياب الانتماء أو الإحساس بالآخرين هي أجواء مصنوعة تماما ولا صلة لها بالحقيقة، وأي مقارنة مع أفلام كن لوتش الواقعية التي تصور بكل صدق ومهارة الواقع البريطاني، هي مقارنة عقيمة.