بيتزا سينمائية: عن الفيلم الأمريكي “متهم ظلما”
في أولى تجاربه كمخرج، يتقهقر بات بروفت عن مكانته في عالم الكوميديا خطوات للوراء. فقد عرفناه كاتباً كوميدياً منذ نهاية السبعينيات، لمع اسمه بقوة في سلسلتي Naked Gun المعروفة في مصر بـالشرطي الجهنمي في أفلام من إنتاج 1988، 1991، 1993، وHot Shots المعروفة في مصر بـ”ـمواقف ساخنة”، في فيلمين من إنتاج 1991، و1992، كمشارك في التأليف والإنتاج؛ وكلاهما حقق نجاحا كبيرا، صنع مجد العصر الذهبي لأفلام المحاكاة الكوميدية الأمريكية، والتي تسخر من أفلام سينمائية عديدة، أثناء تعاونه مع ثلاثي المحاكاة الأنجح ديفيد زوكير، جيري زوكير، وجيم إبراهامز؛ وهم الأشبه بمؤسسة تأليف، وإنتاج، واخراج تخصصت في هذا المجال.
بروفت المنتسب لثلاثي المحاكاة منذ المسلسل الكوميدي Police Squad أو قوة الشرطة 1982، كتب سنة 1984 مع نيل إزرائيل فيلما كامل الهزلية والكارتونية هو Police Academy أو “أكاديمية الشرطة”والذي فجّر نجاحه 6 أجزاء مكملة ومسلسل كارتوني وآخر sitcom، ليؤسس مع نشاط الثلاثي وفيلمهم القنبلة Airplane!أو الطائرة 1980، والمعروف عندنا بـمجانين في الجو، ملامح تيار كوميديا سينمائية مجنونة؛ تتميز بالمحاكاة الساخرة، والمفارقة اللفظية / البصرية السريعة، والإخلاص للإيقاع الكارتوني اللاهث، والكوميديا البصرية الخالصة في الأفلام الصامتة؛ حيث يتصاعد الموقف الضاحك لأقصي طاقات خبله، في تمسك أبدي بشعار الضحك للضحك.
مثّل هؤلاء الفرسان الثلاثة، مع رابعهم بروفت، الحلقة الثالثة للمحاكاة الكوميدية في تاريخ هوليوود؛ بعد كوميديات بليك إدواردز العبثية، ومغامراته مع الفهد الوردي، ثم سخريات ميل بروكس من أنواع الأفلام. لذلك يجئ تفتت فريقهم منذ منتصف التسعينات محزناً أكثر من تفتت فريق البيتلز، إذ تراجعت كل الملامح البديعة لسينماهم في أفلامهم منفردين، مثل فيلم جيم إبراهامز Jane Austen’s Mafia أو مافيا جين أوستن 1998، وفيلم ديفيد زوكير Basket Ball أو كرة القاعدة-السلة 1998. وذلك قبل أن تُترك الساحة لفرق تأليف وإخراج آخري؛ كفريق الأخوة واينز أصحاب الجزءين الأولين من سلسلة Scary Movieأو فيلم مخيف من إنتاج 2000، و2001، أو فريق الثنائي جيسون فريدبرج وأرون فليتزر أصحاب أفلام Epic Movie أو فيلم ملحمي 2007 وDisaster Movie أو فيلم كارثي 2008، وهي فرق كان العيب الأكبر لأفلامها، غير الميل للبذاءة المفرطة، الإنشغال اللحوح بالتهكم علي أفلام آخري… فحسب!
هذه البذرة السيئة ستلمحها مبكراً في الفيلم موضع الحديث. فبعد تفتت فريقه، عاد بروفت كمؤلف ومنتج ومخرج لفيلم Wrongfully Acusedأو “متهم ظلما” 1998، والذي عُرض في مصر بعنوان “متهم بالعافية”، مُصراً علي تفصيل عمل من قصاصات أفلام، بعد إدخالها في ماكينة سخريته، مستلهماً من فيلمين للنجم هاريسون فورد المدخل والمنتهي.
ففي البداية يهرب البطل (ليزلي نيلسون؛ نجم المسلسل التلفزيوني Police Squadثم سلسلة أفلام Naked Gun لنفس المؤلف) بعد إتهامه ظلماً بجريمة قتل، كبداية فيلم هاريسون فورد The Fugitiveأو “الهارب” 1993، وفي النهاية تنكشف براءته في مشهد مأخوذ من مذبحة المحققين الفيدراليين من فيلم فورد Clear and Present Danger أو “خطر واضح وداهم” 1994، وما بينهما ليس إلا هراء سينمائيا بحتا، شمل التهكم علي أكثر من 15 فيلما، ومسلسلات تلفزيونية، وبعض الإعلانات، لنري نيلسون يصرخ صرخات الحرب كميل جيبسون في Brave Heart أو القلب الشجاع 1995، ويتسلل لحجرة محصنة كتوم كروز في Mission: Impossible أو مهمة صعبة 1996، وتنقذه فتيات مسلسل Bay Watch أو مراقبة الخليج، وصولاً للحظة التي يقف فيها وراء حبيبته وقد مدا ذراعيهما لتخبره في نشوة: أشعر أني أطير.. كبطلي Titanic أو تيتانيك 1997 والذين نجيا من الكوبري العلوي الذي يطيح بنيلسون وحبه هذه المرة !
حاول بروفت رسم لوحة كاريكاتيرية كالمعتاد، لكن المشكلة أنها تجئ أضعف من هذا المعتاد ذاته. فالفيلم يكاد يكون ميتا درامياً، حيث لن تجد القصة المتماسكة، الشخصيات المميزة، الصراع المتصاعد، وهو ما ميز أفلام Naked Gun، ولن تجد التتابعات المبهرة بصرياً التي ميزت نفس السلسلة، أو ذكاء الفكرة الرئيسية ووحدة المضمون؛ كالسخرية من الأفلام الحربية بل وأطراف حرب الخليج الثانية فيHot Shots بجزئيه، أو حتي إستضافة نجوم كضيوف شرف لإكساب فكرة المحاكاة ضميراً فنياً، وجعل الفيلم جذاب جماهيرياً، ليتقلص الأمر إلى مجرد إسكتشات تليفزيونية مشتتة، تلهث فيها وراء محاولات تخمين اسم الفيلم المأخوذ عنه هذا المشهد، أو هذا الأداء، أو هذا الكادر، وهنا – للتميز – وصل الحال لهذه الجملة !، ويُرهَق العمل بالتداعيات التي تقتحم الحدث، وتصبح هي الدراما الفعلية، في فصول دخيلة تعرقل المتابعة، وجو مرتبك، دمر نفسه تقليداً. مما حوّل الفيلم لتعبئة متعجلة لأحداث من أفلام آخري، كـ “فيلم بالأفلام”، أو فطيرة البيتزا التي توهمك أنها تحوي مكونات عديدة؛ بينما هي صور باهتة لهذه المكونات، كما أنها – غالباً – ليست مشبعة كفيلمنا هذا.
ليزلي نيلسون يبدي دوماً حيوية لا تُصدَق مع حقيقة كونه من مواليد 1926، ميلندا ماكجرو كانت لطيفة بلا تفرد. أما ريتشارد كرينا فخطف الأضواء، تاركاً بصمة ملونة في محاكاته الساخرة لشخصية الضابط التي إضطلع بها الممثل تومي لي جونس في فيلم الهارب.
قدم جلين ماكفيرسون تصوير تقليدي، ضيق، بلا إبهار، وبرع مونتاج جيمس سيمونز في جمع شتات الفيلم. لكن الرائع بحق هو قيام مؤلف الموسيقي التصويرية بيل كونتا، بتحية الأصول السينمائية المُستخدَمة في الفيلم، ليعرض موسيقي ماكس ستاينر من Casablanca أو كازابلانكا 1941، عند الصدمة العاطفية للبطل، ثم يُحيي الثنائي برنارد هيرمان- ألفريد هتشكوك، بأن ينشر موسيقي Vertigo أو “دوار” 1958 علي خلفية الإعادة التهريجية لمشهد محاولة الإغتيال بطائرة رش المبيدات من North by Northwes أو شمال الشمال الغربي 1959، ثم يتحول لجيمس هورنر وهو يدق أجراس القيامة في إعادة مذبحة خطر واضح وداهم. كما عززت موسيقاه، الأصلية وليست التقليد، من قيمة الفيلم، مُضيفة له رونق أجمل مما كانت تضفيه موسيقي روبرت فولك علي سلسلة أفلام أكاديمية الشرطة، والتي رغم إجتهادها كنت تنساها بسهولة – هي والفيلم – عقب خروجك من دار العرض.
لم يخلو الأمر – علي سيئاته – من بضع ضحكات إستثنائية، تذكرنا بأيام فوران الكوميديا المجنونة، كالمحاكاة الساخرة لمشهد المذبحة: سيل الصورايخ يهاجم سيارة البطل لكنه ينشغل بمسح زجاجها، الشرطة تهاجم الإرهابيين فيستغرقوا في الرقص ! وعلي الرغم من جمال صخب المشهد، إلا أنه التتابع الوحيد طموح الإمتداد، وسط حشد مشاهد آخري بدت ضحكاتها إستهلاكية جداً، أو بالأحري تيك أواي!
بروفت يصمم علي تحويل تاريخ السينما الأمريكية لخيمة سيرك، أو وصلة نكت، لهذا يعلن صراحة في لوحة البداية أن “هذا الفيلم يقوم علي قصص حقيقية.. وقعت في أفلام أخري” كشريعته في صناعة السينما قبل 20 عاماً، وإن كانت تكتسب مذاقاً أقل جودة، بعد إنفراده بالتأليف والإنتاج والإخراج، حيث عاني من ركاكة الخيال، وتسرع البناء، ومن ثم فقدان الخصوصية، منفذاً عمله بروح صانع بيتزا، وليس صانع سينما؛ يرجو لفيلمه ولو نفحة من الوحدة، والإتساق، والأصالة.