“بيبي درايفر” فيلم الموسم: مزيج من الموسيقى والإثارة والحركة والرومانسية
يحقق المخرج البريطاني إدجار رايت في فيلمه الأمريكي- البريطاني المشترك “بيبي درايفر” Baby Driver أو “بيبي السائق” أرقى مستوى وصل إليه حتى الآن في أفلامه منذ أن بدأ العمل في السينما والتليفزيون. وهو قد كتب سيناريو الفيلم وحصل على ميزانية جيدة لإنتاجه بلغت 34 مليون دولار.
من بين اللقطات الأولى من فيلم “بيبي السائق” Baby Driver، هناك لقطة قريبة لعجلة سيارة، ثم لقطة تالية قريبة لجهاز أيبود في يد بطل الفيلم وهو يختار الموسيقى التي سيستمع إليها قبل أن نرى وجهه في اللقطة التالية والسماعتان في أذنيه وهو يتطلع في قلق من شباك السيارة. يغادر السيارة ثلاثة أشخاص: رجلان وفتاة، هم اللصوص الثلاثة الذين يتجهون صوب مبنى البنك الذي سيسطون عليه على الجانب الآخر من الشارع، بينما ترتفع الموسيقى لتحول بين بطلنا وبين متابعة ما يجري.
وعندما تتعقد عملية السطو إلى حد ما كما يلاحظ السائق الشاب من مكانه، يرفع صوت الموسيقى أكثر إلى أن تطغى تماما على الصورة ويردد في لقطات “قريبة” بينما تقترب الكاميرا في زووم تدريجيا من وجهه، الكلمات التي يرددها مذيع حفل على الشريط الذي يستمع إليه: شكرا أيها السيدات والسادة.. الآن استطيع أن أقول لكم اخرجوا… اخرجوا.. وكأنه يخاطب اللصوص الثلاثة الذين يرفعون بنادقهم قبل أن يهربوا بالمال المسروق.. يبدو “بيبي” كما لو كان يرغب في الهرب من هذا الواقع، يستعيض عنه بالموسقى. وبعد أن يركب اللصوص الثلاثة ويقود هو السيارة بسرعة كبيرة ترتفع الموسيقى أكثر وتتسيد مشهد المطاردة الشرسة التي تعقب ذلك وتستمر لمدة ثلاث دقائق ثم تنزل عناوين الفيلم. هذه المجموعة من اللقطات القصيرة تحدد نوعية الشخصية التي سيكشف لنا الفيلم بعد قليل عن معالمها.
مفتاح الفيلم
التحليل النفسي هو أساس فيلم “بيبي السائق” فليس من الممكن فهم شخصية بطله الشاب “بيبي” ودوافعه سوى من خلال العودة إلى مبادئ علم النفس- حسب فرويد. لقد فقد والديه في حادث سيارة مروع بينما كان يجلس في المقعد الخلفي وهو طفل في السابعة، (نشاهد المشهد أكثر من مرة في الفيلم في لحظات استعادة- فلاش باك). كانت أمه مغنية، وكان يعجب كثيرا بصوتها ومازال يحتفظ بأغانيها.. هذه الخلفية (الأوديبية) لطفل كانت أمه تمثل بالنسبة له نموذج المرأة الكاملة بصوتها وشكلها ومرحها ورقتها وشخصيتها، جعلت موتها المفاجئ بمثابة صدمة كبيرة لم يتمكن من تجاوزها بعد على الصعيد النفسي، أما على الصعيد الجسدي فمنذ الحادث أصبح يعاني من طنين في أذنه اليمنى يتغلب عليه بوضع السماعة في أذنه والاستماع للموسيقى الصاخبة لعلها تقاوم تلك التدفقات المستمرة في طبلة الأذن. إنه يستمع للموسيقى من خلال جهاز الأيبود الذي يمتلك منه الكثير، يختزن عليها مجموعات متنوعة من الأغاني. وقد أصبح أيضا يقوم بتوليف موسيقاه الخاصة على خلفية أصوات وعبارات محددة يقوم بتسجيلها ويعيد استخدامها في سياق موسيقي. يقيم “بيبي” مع أبيه بالتبني.. وهو رجل أسود أصم تولى تربيته بعد وفاة والديه، يتخاطب معه عن طريق الموسيقى والغناء والرقص والإشارات.
حادث السيارة الذي أدى إلى فقدانه أمه وهي تقود السيارة دفع “بيبي” أيضا- إلى إجادة القيادة بدرجة كبيرة. والآن يتعين عليه أن يوظف موهبته في القيادة لخدمة “دوك” (كيفن سبايسي) وهو زعيم عصابة والعقل المخطط لعمليات السرقة والسطو المسلح. يجعل المخرج – المؤلف إدجار رايت شخصية “دوك” شبيهة بعض الشئ بشخصية “جو كابوت” زعيم العصابة في فيلم تارانتينو”كلاب المخزن” (1992). كما يستلهم تفاصيل أخرى صغيرة من فيلم تارانتينو الشهير “خيال رخيص”Pulp Fiction.
بيبي مضطر للعمل مع دوك وفاء لدين قديم عليه بعد أن سرق سيارته الفاخرة في الماضي. تنجح العملية الأولى، وتواجه العملية الثانية بعض المتاعب لكن بيبي ينجح في انقاذ اللصوص. ويتصور أنه قد أوفي بالدين كما وعده دوك، لكنه يفاجأ بدوك يطالبه بالاشتراك في عملية يقول إنها ستكون “الأخيرة” وهي عملية سرقة أذون صرف من مكتب بريد في أطلانطا حيث تدور احداث الفيلم. ويرضخ بيبي الذي يتطلع الآن للتفرغ لحبيبته “ديبي” (ليلي جيمس) التي وقع في غرامها والتي تعمل في خدمة الزبائن في مطعم على الطريق.. والأهم أنها تشاركه حبه للموسيقى والغناء وتحلم معه أن يركبا سيارة فخمة (لا يملكان ثمنها) ويقطعان الطرق في عموم أمريكا، يستمعان الى الموسيقى.
طابع الفيلم
الفيلم مزيج من أفلام الجريمة والإثارة والتشويق والرومانسية والموسيقى، وفيه جرعة كبيرة من العنف، كما لا تغيب الموسيقى وكل أنواع الأغاني (البوب والروك والديسكو والبلوز)عن شريط الصوت لحظة واحدة، فهي الأساس العضوي الذي يقوم عليه بناء الفيلم. ومن دون الأغاني والموسيقى تفقد الصورة ملامحها الأساسية. يستخدم رايت قطعات المونتاج في الصورة على إيقاعات الموسيقى، ويجعل البطل الشاب لا يمكنه قيادة السيارة سوى بعد تشغيل شريط يعجبه ويرضي مزاجه ويكفل له الإثارة المطلوبة خاصة في مشاهد المطاردة التي يمتلئ بها الفيلم على نحو غير مسبوق منذ “بوليت” (1969)، وبما يتجاوز كثيرا فيلم “درايف” (2011). لكن الإفراط في تصوير المطاردات وما ينتج من مواقف شبه مستحيلة خاصة في المشاهد النهائية من الفيلم، يقلل من تأثير هذه المشاهد، ويجعلها تقترب من مشاهد الكارتون أي تفقد واقعيتها وقدرتها على الإقناع، دون أن تفقد سحرها وجاذبيتها بالطبع. ورغم تعقد الموقف في العملية الأخيرة التي يشارك فيها بيبي مع العصابة، وما تنتهي إليه من اضطراب ووقوع بيبي في أيدي الشرطة إلا أن الفيلم ينتهي نهاية سعيدة أقرب إلى النهايات الخيالية في الأفلام الرومانسية الكلاسيكية.
رومانسية الأحلام المشتركة
يبدو الوجه الطفولي للممثل أنسيل إلغورت الذي يقوم بدور “بيبي” مناسبا تماما للدور بالاضافة إلى ما يتصف به من برود وهدوء أعصاب وقدرة على ضبط الانفعالات بملامحه الاسكندنافية (ينتمي إلى أب روسي وأم نرويجية).
يتمتع إنسيل إلغورت وليلي جيمس التي تقوم بدور فتاة المطعم، بانسجام هارموني، ووجهين يمتلئان بالتألق والرغبة في معانقة الحياة والانطلاق المجنون للنهل منها. إن “ديبي” هي التعويض المباشر عن أمه. ولاشك أن هذه الصورة الرومانسية البسيطة تلقى صدى كبيرا لدى جمهور الشباب الذي يتوجه إليه الفيلم في المقام الأول. لقد عثر بيبي في “دبي” على الأم البديلة بعد أن كان قد عثر على الأب البديل. أما باقي أفراد العصابة فيغلب عليهم الطابع النمطي.
عنوان الفيلم مأخوذ من اسم أغنية تتردد في نهاية الفيلم أثناء نزول العناوين النهائية. وعلى شريط الصوت في الفيلم نحو ثلاثين أغنية.
يستخدم المخرج حركة الكاميرا بكثرة خاصة الحركة الدائرية حول الشخصيات مع الموسيقى الصاخبة كما في مشهد المواجهة بين أفراد العصابة وجماعة من تجار الأسلحة الذين يتضح انهم من الشرطة، وهو مشهد شديد العنف. في المشهد الأول بعد نجاح العملية الأولى ومع نزول عناوين الفيلم الأساسية على الشاشة، تهبط الكاميرا من أعلى مبنى إلى “بيبي” وهو يخرج من الباب ثم يضع النظارات السوداء على عينيه والسماعتين في أذنيه، يسير على الرصيف وهو يتمايل ويهتز مع نغمات الأغنية والكاميرا تتابعه من أمام، ثم يعبر الشارع وهو يتمايل ويشير بيده للسيارات لكي تعبر، ثم يواصل سيره المترنح على الرصيف المقابل.. هناك فتاة ترقص على الرصيف.. يقفز في الهواء يقلد بحركة يديه صوت آلة البوق النحاسية التي يرتفع صوتها.. يعبر بسرعة من تحت عمود خشبي يحمله رجلان، الكاميرا في أثره، تهبط حينا لتصور قدميه ثم ترتفع مجددا لنراه وهو يدلف من باب محل حيث تدلف الكاميرا معه إلى الداخل..
يتوقف أمام شاب أسود جالس.. يسأله الشاب عن إسمه.. لقد جاء “بيبي” لالتقاط أربعة كؤوس من القهوة كان قد طلبها قبل أن يأتي لرفاقه اللصوص.. يستغرب الشاب اسم “بيبي”.. الكاميرا تدور حولهما على إيقاعات الموسيقى، ثم يلتفت والساقي ينادي اسمه ثم يناوله الكؤوس الأربعة في حامل صغير.. يخرج من المحل وهو مازال يتمايل على صوت الموسيقى، يعبر الرصيف إلى الرصيف المقابل، يلتفت خلفه، ثم يواصل السير، يكاد أحد راكبي الدراجات يصطدم به، ثم يعبر الشارع ويواصل السير والكاميرا تتبعه من ظهره.. على الرصيف يقف رجل أسود ينفخ في بوق.. يتوقف صاحبنا ويلتفت ويتطلع من تحت نظارته السوداء ليتأكد من أن أحدا لا يتبعه قبل أن يدلف من باب المبنى الذي خرج منه في بداية المشهد.
هذا المشهد مصور في لقطة واحدة تستغرق نحو ثلاث دقائق دون أي قطع، والمقصود أن يرسخ هذا المشهد علاقة “بيبي” وولعه بالموسيقى واستغنائه عن الواقع بالعيش في الغناء. ورغم أنه يقود سيارة اللصوص لكنه مختلف عنهم.. وهو لا يحصل مقابل عمله الشاق كما سنرى بعد ذلك، سوى على ربطة صغيرة من الدولارات. أما في “المكتب” فهو الولد الذي يحضر القهوة!
تصميم المشاهد والحركة على مستوى رفيع بالطبع، والتآلف بين الموسيقى والصور والايقاع يخلق جوا خاصا “خياليا”.. فنحن في النهاية أمام فيلم أمريكي من أفلام المتعة والإثارة، يبرز فيه الحوار العبثي، ودور المؤثرات البصرية والعدد الهائل (95) من الممثلين البدلاء. ولاشك أنه سيصبح أحد أكثر أفلام العام شعبية ونجاحا.