بطل أسامة فوزي الباحث عن الخلاص
مازن حلمي
مشوار قصير ومجد كبير حققه المخرج “أسامة فوزي” خلال رحلته القصيرة، صانعًا لغة سينمائية فريدة وقيمًا جمالية وإنسانية عليا.
سينماه لا يمكن تصنيفها ضمن مدرسة معينة. هو يتبع النوع ويتجاوزه، أي يضم أشكالًا وأساليب تعبيرية عدّة دون أن يخلّ بوحدة الأسلوب. لذا يمكن الولوج إلى عالم “فوزي” السينمائي عبر شخصياته وأزماتها، وتحول مسارها الدرامي.
أبطال “فوزي” لا يتغيرون، فهم تقريبًا شخصية واحدة، ليس لأنه تعمّد أن يكون الممثل “محمود حميدة” بطل ثلاثة من رباعيته السينمائية، وحاملا لخطابه السينمائي؛ بل لأن شخصية البطل تحمل ملامح متشابهة إلى حد كبير، تمرّ بمنعطف جذري، فتتحول إلى النقيض، أي من التحرر إلى الامتثال، ومن الانفتاح إلى الانغلاق والرجعية.
يُعدّ “سيد” السائق، بطل فيلم “عفاريت الأسفلت” (1996)، صورة مُصغّرة من “طبل” العربيد في فيلم “جنة الشياطين” (1999) كلاهما بوهيمي، شهواني، عبثي بلا أحلام أو تطلعات طبقية. يُمارسان حريتهما بالإشباع الجنسي، ويحققان رغباتهما المكبوتة.
يراعى” سيد” قوانين وأصول البرجوازية الصغيرة، فينال حريته في الخفاء بالتواطؤ بين أفراد محيطه من خلال دائرة الخيانات الجنسية، قانعًا بمساحة صغيرة من الانعتاق الجسدي، علامته على مجابهة الواقع الخانق. حياته ستدور على تلك الشاكلة. في حين يضرب “طبل” بكل قيم وتقاليد المجتمع الزائفة عرض الحائط، فعوضًا عن الحرية المنقوصة في الخفاء، فقد أعلن تمرده على طبقته، مهنته، عائلته. اختار لنفسه اسمًا جديدًا هو “طبل” بدلًا من “منير رسمي”، وأصدقاء جُددًا من الصعاليك. إنه يعمّد نفسه بماء التّشرد والمجون، خالقًا ذاته بإرادته. لذا كان ثمن حريته باهظًا. سار خطوة أبعد في طريق الحرية، مضحيًا بماضيه المشرّف إلى مستقبل غامض، لكنه ملئ بالمفاجآت؛ ليصل إلى معنى وجوده الحقيقي.
اختار المخرج أن يبدأ السرد من لحظة موت البطل في مغامرة فنية جريئة؛ ليعيد إحياء أسطورته عبر الحكايات المتواترة عنه؛ كي يصير “طبل” أيقونة للتمرد. ولا يقتصر تمرده في حياته، بل يسخر من الموت فيُخرِج له لسانه، لا يكف عن الشراب، واللعب مع العاهرة “صفوة”، ترنّ ضحكاته في خلفية المشاهد في جو واقعي سحري ليوصِّل لنا رسالة واضحة أنه أكثر حياة من الجميع؛ فالأحرار لا يموتون. لذا يُكمل رحلته مع أصدقائه بالسيارة في نفق أشبه بالبرزخ بين الحياة والموت.
نلاحظ أن الشخصيات في مرحلة تحرر البطل بلا تمايز، بل لها نفس السمات، فالجميع لديه نفس الهاجس الجنسي، تنحصر أزمتهم في تحقيق الرغبة الجنسية خاصة في فيلم “عفاريت الأسفلت”، حيث كل رجال ونساء الحي مشاركون في فعل الخيانة الجنسية، فضلًا عن “طبل” ورفاقه الغارقون في الملذات الحسية.
إنها نظرة فرويدية في تفسير أفعال الفرد وفقًا لمبدأ الجنس؛ جعلت رؤية الفيلم ذاتية، أحادية بعيدة عن تنوع الأنماط الإنسانية. فمن المستحيل تأويل الفعل البشرى فقط طبقًا للدافع الجنسي.
من هذا العالم الجسداني السحري ينقلب بطل “فوزي” على نفسه، ليدخل مرحلة الانغلاق الكهنوتي، ساجنًا ذاته في تعاليم مسيحية مغالية، وأسوار الطبقة المتوسطة المحافظة. هذه الردّة الفكرية ليست على مستوى الفردي، بل على المستوى المجتمع.
شخصية البطل تعكس صورة تحولات المجتمع المصري المتجه صوب التطرف الديني. فلا شك أن انسداد الأفق السياسي يفتح المجال تلقائيًا للتوغل الديني كسبيل للهروب من الاستبداد، وملجأ للمهزومين من الحياة. المفارقة تأتى هذه المرة، من اتساع عوالم واتجاهات وشخصيات فيلم “بحب السيما” (2004)، الذي يستعرض شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى، يأتي على رأسها “عدلي” الأخصائي الاجتماعي الأخلاقي المتزمت دينيًا، النموذج الوحيد المنغلق.
إنه ليس شريرًا، فهو رجل يعبد ربه من منظوره الضيق، كما أنه ذو طابع إنساني، يصل أحيانًا حد الساذجة. مأساة “عدلي” أنه يُعلى من قيمة الروح، متناسيًا احتياجات الجسد. لذلك تقع الزوجة نعمات (ليلى علوي) فريسة سهلة في حبال زميلها الفنان ” زكى فطين”؛ ويصاب الابن بالمرض من تداعى منعه الذهاب إلى السينما.
سلطة الأب ذات الوجه الديني لا تدمر نفسها فقط، إنما تحدّ من أحلام ومصائر أسرة ووطن كامل. تتماهى صورة السلطة الأبوية مع السلطة السياسية لحظة سقوطهما عبر خطاب التنحي الشهير، وغروب شمس المشروع الناصري القومي. لم تتحطم هذه السلطة السياسية إلا بحدوث هزيمة مروّعة من ثمّ يحدث انفتاح نسبى في المجال السياسي مثلما يتحوّل “عدلي” إلى نموذج ُمقبل على الحياة، حين يعلم حالته المرضية واقتراب موعد موته، فالموت والجنس هما مُحرّكا أبطال حكايات “أسامة فوزي”.
“عدلى” لم يجد خلاصه في الدين، فقرر أن يتصالح مع ذاته، والآخرين. لأن الحرية الممنوحة من السلطة البطريركية في لحظاتها الأخيرة لم تكن أصيلة؛ لذلك عندما ترحل تترك الأم خليفة لها، حيث تتقمص الأخيرة دور الأب السلطوي لتستمر طاحونة التسلط بكل أشكاله ورموزه تطحن الشعب المصري.
يعود البطل شابًا مرة أخرى في الفيلم الأخير “بالألوان الطبيعية” (2009) لكن ليس البطل المتمرد الثائر، الذى يرتكن إلى قيم وتقاليد باتت مستقرة، بل يُمثّل الجيل الحالي المتخبط فكرياً، الباحث عن هويته. فهو تنويعة أخرى على مرحلة انغلاق البطل، وتسلط الفكر الديني على مناحي الحياة، محصورًا في الفيلم على قضية تحريم الفن وبالأخص الفن التشكيلي.
صحيحٌ أن يوسف “كريم قاسم” طالب كلية الفنون الجميلة يطرح أسئلته عن الدين ومدى حدود علاقته بالفن، ويتجاوز في النهاية محنته بالانتماء للفن الحر من أي قيد، إلا أنه يحرث في قضايا محروثة سلفًا وفات أوانها وتجاوزها الفكر الإنساني. شخصية “يوسف” هي الأضعف فنيًا في شخصيات “فوزي” السينمائية، لم تؤسس كفاية من الناحية الإنسانية والاجتماعية، كانت حيلة أكثر منها شخصية حية من لحم ودم. جاء الفيلم حوارية طويلة عن هيمنة الفكر الديني على الأنشطة الإنسانية وفى مقدمتها الفن.
مع ذلك استطاع “فوزي” أن يخلق شخصيات درامية حقيقية، ستقف بجانب نماذج سينمائية تاريخية في ذاكرة الفن المصري مثل “السيد عبد الجواد” ذو الوجهين و”محجوب عبد الدايم” الانتهازي عديم الشرف و”عيسى الدباغ” المناضل بائع القضية، وغيرها من شخصيات حفرت ووجوهها في سجل السينما.