“بركة يقابل بركة”.. الولادة الحقيقية للسينما السعودية
أمير العمري
كان ظهور فيلم “بركة يقابل بركة” عام 2016 مفاجأة مدهشة، عندما عرضه مهرجان برلين السينمائي، ثم أصبح الفيلم المرشح رسميا لتمثيل السعودية في مسابقة الأوسكار. ورغم مرور سنوات، وظهور أفلام أخرى قادمة من المملكة بفضل الأجواء الجديدة والانفتاح الكبير الذي تشهده المملكة، يظل هذا الفيلم علامة مميزة، بل ويمكن اعتباره “مانيفستو” يؤرخ لمولد سينما جديدة في السعودية، لم يكن أحد يتخيل أن تظهر بكل هذه القوة ووضوح الرؤية والقدرة على تقديم النقد اللاذع، والسخرية، في سياق فني متماسك.
جرأة الفيلم من ناحية الأفكار والرسائل القوية التي يتضمنها، لا تطغى على المستوى الفني للفيلم، أو أسلوب مخرجه وكاتب نصه السينمائي، محمود صباغ، فهو ينجح في رواية قصة تبدو بسيطة، لكنها محملة بدلالات عديدة، تدور أحداثها في مجتمع مدينة جدة في الزمن المضارع، وفي إطار كوميدي لطيف، يجعل الفيلم يجد له صدى لدى الجمهور داخل وخارج السعودية. وهو ما تُرجم بالفعل في كل ما حققه الفيلم من نجاح.
محمود صباغ يعرف كيف يصوغ فكرته، وكيف يدعمها بالتفاصيل الصغيرة، وكيف يتوقف أمام شخصيات كثيرة على الهامش، ثم كيف يدفع الحبكة إلى الأمام، ويستولي على مشاعر المشاهدين، مسلطاً الأضواء على الكثير من السلبيات، لافتا النظر إلى القيود المفروضة على العلاقة بين الرجل والمرأة، عابرا على مشاكل الشباب الذي يتطلع إلى إقامة علاقات عاطفية على أرضية الحب الحقيقي والمكاشفة، لكنهم يدارون مشاعرهم، أو يجدون أنفسهم عرضة للقمع، سواء من داخل البنية العائلية التقليدية المتزمتة، أو من جانب بعض القوانين الموروثة التي تفرض سطوتها على الجميع، التي بدأت الدولة وبوتيرة سريعة، بالتخلص منها تدريجيا. ومن دون شك، ومنذ أن عرض الفيلم في 2016، شهدت المملكة تطورا كبيرا في جميع المجالات، على رأسها، إلغاء شرطة الأخلاق التي ينتقدها الفيلم ويسخر منها في مشاهد عديدة.
بطل الفيلم شاب يدعى “بركة” (هشام فقيه) موظف في البلدية، مسؤول عن ضمان الانضباط في الشارع، فهو يمر بسيارته كل صباح ليحرر المخالفات لمن يرى أنهم يخالفون النظام: مقهى مد مقاعده واختل مساحة من الشارع، شخص وضع أكواما من مستلزمات البناء في الطريق العام مما يهدد السلامة العامة، أو فريق تصوير يقوم بتصوير فيلم دعائي عن الأزياء يقول لهم “بركة” إن الترخيص الذي معهم صادر عن وزارة الإعلام، ويلزمهم ترخيصا من البلدية، ولكن تتصادف أن تكون الفتاة الجميلة “بيبي” (فاطمة البنوي) هي نجمة هذا الفيلم الدعائي، فهي موديل تستعرض الأزياء، سنعرف أنها ابنة بالتبني لامرأة تدعى “ميادة” تستغلها في الدعاية لمنتجات شركتها للأزياء ومستحضرات التجميل، وزوجها “حمزة” الذي يمارس سطوته الذكورية كلما أتيحت له الفرصة.
بعد أن يشاهد “بركة” “بيبي” وينبهر بجمالها وشخصيتها وحضورها، يقرر التغاضي عن عمل محضر بالمحالفة!
ما يلفت النظر إلى هذا الفيلم أن المرأة السعودية التي نراها من خلال شخصيات نسائية متعددة، هي امرأة عصرية، وأولهن بالطبع “البنوي”، التي ترتدي ثيابا عصرية، مكشوفة الوجه، قوية الشخصية، جميلة، واثقة من نفسها ومن جمالها، بل تبدو المرأة في الفيلم عموما، أقوى من الرجل، سواء نساء الطبقة الشعبية التي ينتمي إليها “بركة” حيث توجد الخالة “سعدية” زوجة العم “دعاش”، وهي نموذج الصورة القديمة للمرأة، فهي تخضع للمعتقدات العتيقة، يشكو منها زوجها، ويهرب منها للاستغراق في أحلامه الخاصة، بل يحاول أن يدفع “بركة” إلى عدم تكرار أخطاء الزواج، لكنه تدريجيا يبدأ في توجه النصائح إليه حول كيف يمكنه أن يجد طريقه إلى قلب الفتاة التي أسرته بشخصيتها الجذابة.
أما “ميادة” امرأة العائلة الثرية التي تنتمي لها “بيبي”، فهي شديدة القوة والتسلط، تفرض سطوتها على الجميع، وتتحكم في حياة “بيبي” وتستغلها أسوأ استغلا دون أن تسمح لها بممارسة حقها في الحياة بما في ذلك ارتداء ما تريده، فهي تريد أن تسخر كل شيء لخدمة مصالحها الاقتصادية. وسوف يؤدي هذا الشقاق المستمر، إلى قرار بيبي بالاستقلال عن هذه الأسرة التي تبنتها، وتقبل العمل لدى شركة ترغب في ظهورها في سلسلة إعلاناتها، مقابل مبلغ كبير من المال.
في أحد المشاهد نرى “بيبي” تقود سيارتها ضاربة عرض الحائط بالحظر المفروض على قيادة النساء للسيارات (قبل الغاء هذا القيد)، كما يتمرد بركة، على وظيفته، ويصبح أكثر تسامحا مع الباحثين عن فرصة لتقديم عمل فني في مكان عام، فلا يعاقبهم بمخالفة القانون، خصوصا أنه عضو في فرقة مسرحية يتدرب مع أفرادها، لكن المفارقة المضحكة أنهم أسندوا إليه دور “أوفيليا” في مسرحية شكسبير الشهيرة “هاملت”، إمعانا في السخرية من الرفض الاجتماعي لظهور ممثلات على المسرح.
ينتقل الفيلم من أجواء المرح والكوميديا الاجتماعية الخفيفة في الثلث الأخر، للتطرق إلى الماضي الذي كتنت تعيشه البلاد، والمقارنة مع ما أصبح الحال عليه، كيف كانت هناك دور للسينما، وكيف كان الناس يمارسون حياتهم دون قيود قبل ظهور موجة التشدد الديني، وكيف كان جيل والده، يعيش حياته، يستمتع بالموسيقى والغناء، ويحضر الحفلات العامة ويذهب إلى دور السينما.
ومن براعة السرد في هذا المشهد استخدام الكثير من الصور الفوتوغرافية الموثقة لمناظر حقيقية من الماضي القريب في السعودية، ومقارنتها بمشاهد ومناظر وصور أخرى، لما أصبحت عليه منذ أوائل الثمانينيات، مع بداية التضييق العام على النشاطات الاجتماعية، في مجالات التعليم والرياضة والمرأة، وحظر نشاطات الفنون والموسيقى والمسرح والسينما، وما لحق من تغير حتى على الشكل المعماري، وكيف زحفت قيم جديدة مع تلك القيود التي فرضت على المجتمع.
هذه مقارنة صادمة، وجريئة، والمونولوج الذي يصدر عن بركة خلال تعليقه على الصور، يشي بالحزن والأسي. وهو يعتبر أن هذا التراجع الذي وقع، كان السبب في ظهور التطرف والإرهاب، وهو هنا يتحدث بلسان الفيلم نفسه.
لاشك أن الفيلم يتعامل بجرأة شديدة مع كل هذه التفاصيل، ولكن ذكاء شديد من جانب الكاتب والمخرج محمود صباغ، الذي يضعها في سياق كوميدي خفيف أولا، لكنه لا يخلو قرب النهاية من الحزن والأسى والتحسر، الذي يكثفه “بركة” وهو يستعرض حياته، وكيف أن السنة التي تزوجت فيها أمه أباه، أغلقت فيها دور السينما، وتراجع التليفزيون، وبينما نسمع إلى هذا “المونولوج” الذي يردده بكل مشاعره الممثل هشام فقيه، نرى لقطات للصفحات الأولى من الصحف التي تعلن القبض على جهمان العتيبي وجماعته، وهي الجماعة التي اقتحمت الحرم المكي عام 1979. ثم يواصل بركة، أنه ولد بعد عشر سنوات، ثم بعد عشر سنوات أخرى، ماتت أمه.
إننا أيضا أمام فيلم يعبر بوضوح عن جيل الألفية الثالثة، جيل الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والتليفون المحمول، والرسائل النصية، والانستجرام.. فبطلتنا “بيبي” تعرض الأزياء عبر انستجرام وتحظى بأكثر من مليون متابع، رغم أنها لا تظهر وجهها (!)، وهي تتبادل الرسائل مع بركة، وكلما حاول الاثنان التواجد معا في مكان عام يواجهان مشكلة الحظر الذي كانت تفرضه جماعة الأمر بالمعروف (شرطة الأخلاق)، مما يدفع بيبي إلى الشكوى بصوت مرتفع: يا لها من حياة فقيرة.. ليس فيها رومانسية”.
وفي أحد المشاهد، يحلم بركة بوجوده حرا مع بيبي، إلا أن “بيبي” تتخيل ما يمكن أن يقع من مشاكل إذا ما قرر الاثنان أن يلتقيا في أماكن عامة مختلفة، ثم تعلق: “إننا نعيش في منفى”!
ومن أكثر شخصيات الفيلم حيوية وبراعة في الأداء شخصية العم “دعاش” وهو رجل ينتمي للماضي، لكنه متمرد على الزواج والحياة الرتيبة، وهو الذي يوجه النصائح لبركة فيما يتعلق بعلاقته مع “بيبي”، ولا يكف عن التعليقات الساخرة، بل إنه يصل في النهاية إلى التمرد بطريقته الخاصة أيضا. وقد برع الممثل سامي حفني.
الأداء في الفيلم عمومً، بارع ومدهش، فالممثلون يعيشون داخل الشخصيات التي يؤدونها، ينفعلون بانفعالاتها، من السخرية إلى المرح إلى الشكوى، إلى الرفض. هشام فقيه، بملامحه المميزة، يمكن أن يصبح نجما من نجوم الكوميديا في السينما السعودية، وفاطمة البنوي، بقوة شخصيتها، هي أفضل تعبير عن صورة المرأة في السعودية الجديدة، باستقلاليتها، وبساطتها، وقوة شخصيتها، ورغبتها في العثور على ما تحب وترتبط ولكن من دون وصاية أو تسلط. وقد أصبحت بالفعل، بعد دورها في هذا الفيلم، النجمة الأولى في السعودية.
سنعرف ما يعنيه اسم الفيلم “بركة يقابل بركة”، عندما تصرح “بيبي” لبركة في النهاية، بأن “بركة” هو اسمها الحقيقي، وينتهي الفيلم بالإثنين وهما يجلسان حائرين دون أن يبدو أنهما قد وجدا حلا للمشكلة، فالحل يبدأ في أرض الواقع أولا، وليس على شاشة السينما!