“برتولوتشي عن برتولوتشي”: العبقرية تعلن عن نفسها مبكرا
أمير العمري
في العالم نوع جديد من الأفلام ظهر قبل سنوات، عن السينما وعالم صناع السينما، يتابع مسيرة الفنان، ويوثق لها، ويسلط الأضواء على أهم معالمها، سواء كان هذا مخرجا سينمائيا أو ممثلا أم مؤلفا لموسيقى الأفلام، وغير ذلك، خصوصا من المرموقين الذين حققوا حضورا على الساحة العالمية ورسخوا في ذاكرة عشاق السينما. ومن هذه الأفلام شاهدنا على سبيل المثال أفلاما عن الممثل العملاق “مارلون براندو”، والممثلة الشهيرة “هيدي لامار” ثم “إنجريد برجمان”، كما شاهدنا أفلاما عن كبار المخرجين مثل “أورسون ويلز”، و”سيرجيو ليوني”، و”ستيفن سبيلبرج”.
ومن أفضل هذه الأفلام أكثرها توثيقا لمسار فنان سينمائي، الفيلم الوثائقي “برتولوتشي عن برتولوتشي” الذي توفي في 2018. فهو لم يكن فقط مخرجا سينمائيا أعاج صياغة فن الفيلم، بل ومفكرا سينمائيا يمتلك رؤية وفلسفة خاصة.
إشترك في إخراج الفيلم مخرجان هما لوكا جوادانينو وولتر فاسانو. كان برتولوتشي أحد النماذج السينمائية الأكثر تعبيراً عن الوعي الثقافي الأوروبي، والنظرة لمحيطه المباشر في إيطاليا التي تقع في قلب أوروبا، أو خارجها في المحيط المباشر من حولها وفي علاقاتها بما يجري هناك، أو عن رؤية للعالم تتجاوز حدود القارة العجوز، وهو ما تمثل في مغامرات برتولوتشي الآسيوية، في الصين والتبيت، على سبيل المثال في فيلميه “الإمبراطور الأخير”، و”بوذا الصغير”. كان برتولوتشي فنانا سينمائيا أحب السينما وأخلص لها وأعطاها حياته.
الفيلم الذي يمتد زمنه إلى 105 دقيقة يقدم صورة سينمائية شخصية بليغة أقرب إلى ما يعرف في الفن التشكيلي بـ”البورتريه” أو الصورة القريبة، لبرناردو برتولوتشي الذي ظهرت موهبته السينمائية وتألقت في منتصف: الستينيات كيف كانت البدايات، كيف تطور وعيه وتطورت معه رؤيته السياسية عبر أفلامه، كيف امتد طموحه إلى الخارج، إلى هوليوود التي يسخر منها في أحد حواراته عندما يقول إنه كان سعيدا بأن يحصل على ملايين الدولارات من بعض المنتجين الحمقى في هوليوود، لكي يصنع بها أكبر أفلامه أكثرها تعبيرا عن فكره وهو فيلم “1900” (1976) الذي يروي فيه قصة الصراع الإجتماعي والسياسي في إيطاليا وصولا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال العلاقة بين إبن ينشأ في أسرة من الفلاحين الفقراء في الريف، وابن آخر يولد في اليوم نفسه، لأسرة أرستقراطية من ملاك الأراضي، وكيف تنمو الصداقة بينهما وتستمر وتمتد، رغم الفارق الاجتماعي والطبقي الكبير، بينما يستمر أيضا الصراع بينهما ويتعمق مع ما يحدث من تطورات سياسية في البلاد.
عالم شخصي
فيلم “برتولوتشي عن برتولوتشي” ليس من تلك الأفلام التي يختار مخرجوها عادة تقديم رؤية “موضوعية” تعتمد على السرد التقليدي الذي يأخذ في الاعتبار آراء الفنان السينمائي الذي يوجد في بؤرة إهتمام الفيلم، مع استطلاع آراء كل من عملوا معه وكذلك نقاد عصره، والاستعانة بالكثير من اللقطات والمشاهد من أفلامه.
ما فعله مخرجا هذا الفيلم هو على العكس من ذلك، فقد آثرا أن يقدما لنا عالم برتولوتشي من خلال برتولوتشي نفسه، وفقط، أي من خلال ما يقوله ويرويه عن نفسه وعن أفلامه، ويعلق عليه في مئات المقابلات المصورة التي أجريت معه عبر سنوات حياته منذ أن كان شابا يافعا في الحادية والعشرين من عمره عام 1961، حتى بعد أن تجاوز الثالثة والسبعين من عمره.
يسعى الفيلم في البداية إلى استعراض تاريخ برتولوتشي السينمائي حسب الترتيب الزمني لأفلامه من أول فيلم روائي طويل أخرجه عام 1962 وهو فيلم The Grim Reaper ثم التوقف معه والانتقال بين مقاطع من أهم ما أجرى معه من مقابلات (بالأبيض والأسود أو بالألوان، وفي مراحل مختلفة من عمره حتى بعد سنوات طويلة من ظهور الفيلم الذي يجري الحديث عنه) وبلغات مختلفة أيضا، فبرتولوتشي يجيد الإيطالية والفرنسية والإنجليزية. ولكنه يقول في إحدى المقابلات المصورة معه إنه كان متعصبا للسينما الفرنسية كثيرا إلى حد أنه كان يفضل الحديث بالفرنسية مع الصحفيين الإيطاليين الذين كانوا يسألونه بدهشة” لماذا وأنت إيطالي تتكلم الإيطالية؟ وكان يجيبهم بقوله إن الفرنسية هي لغة السينما!
ويعرب برتولوتشي عن ولعه الخاص بالفيلم الفرنسي ويتوقف بوجه خاص أمام جان رينوار الذي يعتبره الشاعر السينمائي الأول. ولكنه يتحدث أيضا عن جان لوك جودار بإعجاب شديد ويصفه بالمعلم. ويتخذ من فيلمه “على آخر نفس” أحد أوائل افلام حركة الموجة الفرنسية الجديدة عام 1959 الذي تأثر به كثيرا، علامة على بداية الثورة في السينما، ويترحم في مقاطع مسجلة مبكرا معه، على غياب حركة سينمائية موازية للموجة الجديدة في إيطاليا بعد نهاية حركة الواقعية الجديدة، ويبرر بذلك إتجاهه إلى تصوير الأفلام خارج فرنسا مثلما حدث مع فيلم “التانجو الأخير في باريس” (1972) الذي صوره في فرنسا. ويرى برتولوتشي أيضا أن روسيلليني هو أهم المخرجين الإيطاليين، ويقول إنه لم ينل ما كان يستحقه من تقدير وفهم في إيطاليا.
يتحدث برتولوتشي عن علاقته بالممثلين، وكيف كان يرغب في إسناد الدورين الرئيسيين في “التانجو الأخير” إلى الممثلة الفرنسية دومنيك ساندا (التي قامت بعد ذلك ببطولة فيلمه “1900”) والممثل الفرنسي جان لوي ترنتنيان، لكن الأخير رفض متعللا بأنه لا يمكنه السماح بظهور الجزء السفلي من جسده عاريا في الفيلم، ويشرح كيف تمكن من إقناع مارلون براندو بالقيام بالدور بعد أن كان لا يتصور أبدا أن يعمل مع هذا العملاق.
ويروي برتولوتشي بعض تفاصيل العلاقة المعقدة مع براندو أثناء التصوير الي يقول إنه “لم يكن فقط ممثلا عاديا بل مفكرا وصاحب فلسفة خاصة”. وعن ماريا شنيدر التي قامت بدور الفتاة في الفيلم يقول إنها وافقت على الدور الجريء لأنها كانت ترغب بشدة في إثبات نفسها كممثلة، لكنها أخذت بعد ذلك، أي بعد ظهور الفيلم وانتشاره، تهاجمه في كل تصريحاتها الصحفية وتتهمه باستغلالها.
ويعترف برتولوتشي بأنه “سرق مشاعر ممثليه واستخدمها في الفيلم” لكنه يصر على أنه كان يعبر عن رؤية سياسية ولم يكن فيلمه من ذلك النوع الإباحي، ولم يكن يستحق ما تعرض له في إيطاليا من هجوم عنيف وصل إلى القضاء الذي حظر عرض الفيلم في سابقة يعتبرها الأولى في تاريخ السينما الإيطالية.
الطفولة ومعارك الشباب
يعود الفيلم إلى علاقة برتولوتشي بأهم شخصين تركا تأثيرهما عليه وهما: والده الشاعر الإيطالي المرموق أتيليو برتولوتشي، والمخرج الإيطالي الراحل بيير باولو بازوليني الذي كان شاعرا أيضا، وصديقا مقربا من والده، ويروي عن قصة لقائه الأول ببازوليني ولم يكن برتولوتشي وقتها يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ويقول إن الإنطباع الأول الذي تركه عليه بازوليني عندما رآه برتولوتشي أنه “لص”، ثم يقول إنه ربما يكون قد “سرق مشاعره وعقله”. وفيما بعد، عمل برتولوتشي مساعدا لبازوليني في البداية، ثم أخرج فيلمه الأول عن قصة من تأليف بازوليني.
وفي أح المشاهد النادرة بالأبيض والأسود، نرى احتفالا ثقافيا في الجامعة ببرناردو الشاعر الموهوب وهو في الحادية والعشرين من عمره. وكان والده حاضرا ذلك الحفل إلا أنه يرفض الصعود وتوارى عن الأنظار بعد أن أعلن مقدم الحفل عن وجوده وطلب منه التقدم إلى المنصة. لكن برتولوتشي يقول إن الشعر لم يكن هاجسه الأول بل كانت السينما. لقد كتب الشعر فقط تأثرا بوالده ورغبة في محاكاته. وفي مقابلة في زمن آخر متقدم يقول إنه عندما جاء إلى السينما في الستينيات كان يرى أن الفيلم يجب أن يكون مثل القصيدة ولكنه أدرك خطاه فيما بعد!
ولا يعتمد الفيلم في استخدامه لمقابلات برتولوتشي وتصريحاته ومناسبات ظهوره في الإعلام المصور على منطق التراتبية الزمنية chronology بل يقفز من زمن إلى آخر، حسب منطق الفيلم في سبر أغوار مفهوم برتولوتشي للسينما وتوقفه أمام بعض التجارب المحددة في مسيرة عمله. ورغم أنه مثلا يشير إلى فيلمه “تراجيديا رجل سخيف” (1982) إلا أنه لا يتوقف أمامه بل ولا يهتم بمتابعة تجربته فهو أحد الأفلام التي لا ترسخ في ذاكرة جمهور برتولوتشي ونقاده.
برتولوتشي مثلا يتحدث في الثلث الأخير من الفيلم، عن أفلامه التي يعتبرها الأقرب إلى نفسه فيقول إنه يأسف لأن يقول إنها تلك التي حققت نجاحا جماهيريا، أي ليست بالضرورة تلك الأفلام التي يشيد بها نقاده بل ربما تكون قد تعرضت للهجوم مثل “الإمبراطور الأخير”!
وعن علاقته بجودار يقول إنهما اشتبكا بعد 1968 في جدال شديد بشأن ما يجب عمله سينمائيا وسياسياً، وإن جودار إتهمه وقتذاك بالانحراف عن السينما الثورية وإنه أصبح يصنع أفلاما بورجوازية. وكان جودار قد اعتنق الماوية (نسبة إلى الزعيم الصيني ماوتسي تونج) وأخذ يصنع أفلاما يصفها بالمنشورات، ويضيف إنه قرر وقتها الالتحاق بالحزب (المناهض للماوية) كرد فعل على موقف صديقه جودار الذي يراه موقفا متطرفا.
ويقول برتولوتشي إن فكرة (الكاميرا سلاح) التي كانت تلح على أبناء جيله من السينمائيين المتمردين في تلك الفترة، لم تكن واقعية. وفي مقابلة نادرة بالأبيض والأسود يقول بوضوح، إنه أدرك أنه سينمائي فقط وليس من الممكن أن يصبح مناضلا سياسيا، وإن الفيلم لا يمكنه أن يغير الحكومة ولا أن يتحكم في نتائج الانتخابات وإنه أصبح عندما يصنع أفلامه (في مقابلة أخرى تلحق بسابقتها) فإنه لا يفكر في الجمهور، وليس معنى هذا أنه لا يحترم الجمهور بل يفكر فقط فيما يود التعبير عنه، وما يريد الحصول عليه من الممثلين ووضعه على الشاشة.
خضوع برتولوتشي للتحليل النفسي في مرحلة لاحقة في حياته (بعد طرده من الحزب وتشككه في الكثير من الأفكار الأيديولوجية القديمة) في حقبة الثمانينيات وهي الفترة التي يرى أنها جاءت بعد اختفاء السينما السياسية الايطالية التي أبرزت صورة إيطاليا السينمائية في العالم لسنوات، إنعكس على أفلامه اللاحقة وخصوصا فيلم “لالونا” (أو القمر) الذي أخرجه عام 1979 وتعرض للكثير من الهجوم، وفشل تجاريا رغم أنه كان قد حصل على تمويل من هوليوود.
ويدافع برتولوتشي عنه دفاعا مريرا ويقول إن الكثيرين لم يفهمونه. وفي معرض الحديث عن نقاد السينما يقول برتولوتشي في لقاء آخر معه إن أفلامه تعرضت للهجوم دائما من نقاد إيطاليا رغم إشادة نقاد فرنسا وأمريكا بها، كما حدث في مهرجان كان عندما عرض هناك فيلمه الأول عام 1962 وكتب أحد النقاد الإيطاليين يقول إنه يتعين على برتولوتشي “تغيير مهنته”.. كما يتحدث عن فشل أفلامه في الحصول على اي جائزة في مهرجان فينيسيا وتعرض هذه الأفلام لهجوم نقاد ايطاليا هناك باستمرار.
وينتقل الى بحثه عن العالمية من خلال الانتاج الضخم في “الامبراطور الأخير” بدعم من المنتج البريطاني جيريمي توماس، الذي أنتج له أيضا أفلاما تالية بعيدة عن الواقع الإيطالي مثل “السماء الواقية” عن رواية بول باولز الأمريكي الذي كان يقيم في طنجة بالمغرب (في الفيلم لقطات نادرة لبرتولوتشي مع باولز).
مفترق الطرق
يقول برتولوتشي إنه كان شديد الإعجاب باللقطة المتحركة الطويلة في فيلم أوروسون ويلز “لمسة الشر” (1958) وإنه أراد وهو يصور فيلمه الثاني “قبل الثورة” أن يتفوق على ويلز ويقدم لقطة متحركة tracking أطول من اللقطة الافتتاحية في بداية فيلم ويلز، لكن اللقطة التي تظهر على الشاشة وهي متحركة وطويلة بالفعل، هي لقطة لبرتولوتشي مع بازوليني وهما يسيران ويعبران الشوارع ويضحكان في حين تتابعهما الكاميرا. ويقول إنه يعتبرها أول لقطة “تراكنج” في تاريخ السينما!
برتولوتشي ينتهي إلى الحديث عن مرضه وعن العملية الجراحية التي أجريت له في العمود الفقري وتسببت- بسبب خطأ من جانب الجراحين- في إصابته بالشلل والعجز. وقد ظل لسنوات، يتحرك على مقعد خاص للمعاقين. ويقول برتولوتشي ضاحكا إنه أعتبر في البداية أنه “عقاب إلهي” لأنه ربما يكون قد أفرط كثيرا في تصوير اللقطات المتحركة الطويلة. وكان عجزه عن الحركة السبب في توقفه لسنوات عن الإخراج منذ فيلم “الحالمون” عام 2003، لكنه تغلب على شعوره بالإحباط واليأس وعاد في 2012 بفيلم “أنا وأنت” الذي صوره في شقة في روما. ولكن من بعده لم يقدم شيئا.
لا يشعر المشاهد لهذا الفيلم بالإرهاق رغم تلك الانتقالات المتعددة في الزمن، بل على العكس، تبدو هذه الانتقالات بين الأزمنة وبين مراحل العمر المختلفة ضرورية لخلق ذلك البناء الجدلي الذي يعبر عن مراحل تطور السينما عند هذا الفنان ونظرته للسينما وللعالم، كما تتوقف أيضا، على نحو ما، أمام بعض المحطات البارزة في تاريخ السينما.
فيلم “برتولوتشي عن برتولوتشي” متعة خاصة لمن يعرفون ويتابعون منذ البداية أفلام هذا المخرج الكبير. لكن فيه أيضا الكثير من المتعة لمن لا يعرفون الكثير عنه وعن أفلامه، من الباحثين عن المعرفة السينمائية.
من المدهش أننا نرى برتولوتشي عندما كان لايزال بعد في الرابعة والعشرين من عمره عندما أخرج فيلمه الثاني “قبل الثورة”، يتحدث في الفلسفة والشعر والفن والسياسة ومفهوم الشكلانية في السينما وجدل الواقع في بلاده، حديث رجل ناضج بفضل ما يتمتع به من ثقافة عميقة بدأت معه منذ وقت مبكر في حياته بتأثير من والده. ولا يملك المرء سوى أن يقول لنفسه: حقا إن العبقرية تولد في ربيع العمر… أليس كذلك!