براعة الدراما التقليدية في التجربة السينمائية لأصغر فرهادي


وُلد اصغر فارهادى فى مدينة اصفهان فى عام 1972، وبدأ مشواره السينمائى باخراج افلام قصيرة (سوبر 8) وافلام 16 مللى عندما كان مراهقا ، ثم حصل على ليسانس الفنون المسرحية من جامعة طهران، وماجستير فى الاخراج المسرحى من جامعة تاربيات مودارس.

اثناء دراسته  كتب واخرج مسرحيات عدة، كما كتب الدراما الاذاعية للاذاعة الايرانية، واخرج ايضا للتليفزيون، ومن بين ما اخرجه حلقات من المسلسل الايراى الشهير (حكاية مدينة).

بدأ فارهادى عمله فى السينما الروائية ككاتب سيناريو بمشاركته فى كتابة الفيلم الايرانى الناجح (ذروات منخفضة) عام 2002 قبل ان يقوم بالاخراج السينمائى. وكان اول افلامه (الرقص فى التراب) عام 2003 الذى اتبعه فى عام 2004 بفيلمه (مدينة جميلة) وفيلم (ألعاب الاربعاء النارية) عام 2006، ثم جاء فيلمه (عن ايللى) عام 2009 ثم فيلم (انفصال) عام 2011.

المسرح

شكلت دراسة المسرح للمخرج الايرانى اصغر فرهادى دورا اساسيا فى اختياراته السينمائية التى تبدو شديدة الصلة بالمسرح، وهو فخور بهذه الدراسة المسرحية التى احبها، فغاص فى اعماق ادبيات المسرح وابحر فيها مثل كبار مخرجى السينما العظام الذين لم يكتفوا باخراج النصوص المسرحية مثل بازولينى وبولانسكى، بل اعتمدوا كثيرا على ما نسميه مسرحة السينما مثل اعمال وودى ألن وبعض اعمال رومان بولانسكى، حين يبدو اننا نشاهد مسرحية وليس فيلما سينمائيا.

لكن التجربة السينمائية الفريدة فى فيلم (عن ايللى) تبدو نموذجا على المسرحة السينمائية فى اروع تطبيقاتها، فقد اعجبنى الفيلم كثيرا ولم يغب عنى ولو للحظة واحدة براعة هذا المخرج المؤلف فى استلهام المسرح وتطبيق – حتى الوحدات الثلاثة – التى نادى بها ارسطو فى كتابه (فن الشعر) ذلك الكتاب التنظيرى المرجعى الذى كان وما يزال واحدا من اهم كتب نظرية المسرح عبر العصور.

ان شخصية  ايللى  (تارانا اليدوستى) هى الشخصية المحورية فى هذا الفيلم، انها مُدرسة يتم دعوتها من زبيدة (جولشيفتة فرحانى) التى تريد ان تزوج ايللى من صديقها الجديد المُطلق احمد ( انه الممثل شهاب حسينى الذى قام ببطولة فيلم (انفصال). وكان احمد قد جاء من ألمانيا لكى يحضر هذه الرحلة مع اصدقائه، عندئذ  وفى ظهيرة احد الايام فان ايللى تختفى فجأة، فيستقطبنا الفيلم لمتابعته لمعرفة ما حدث لايللى ونتعرف على جميع الشخصيات وسط مُفاجآت ومؤثرات درامية تُحاك بمهارة طوال الفيلم.

الفيلم يبدأ من احد الانفاق حيث تعبر سيارة يتصايح فيها الركاب ليستمعوا الى صدى صوت صرخاتهم داخل النفق فى حالة من البهجة، هؤلاء الركاب هم مجموعة من الزملاء القدامى الذين اختاروا ان يقوموا باحياء صداقاتهم من خلال رحلة الى شاطئ بحر قزوين لتمضية بعض الوقت فى هذا المكان، وهنا نلاحظ وحدة المكان، فالفيلم لا يغادر هذا المكان تقريبا، ويصح ان نسميه مجازا فيلم المشهد الواحد، ولو تخيلنا ان هذا الفيلم مسرحية، فان المنظر سيكون واحدا وهو عبارة عن الساحة امام الفيلا التى يقيم فيها الجميع على شاطئ بحر قزوين.

ان وحدة الزمان تبدو ايضا واضحة ولكنها ليست زمنا متصلا مثل زمن مسرحية اوديب ملكا، ولكن وحدة الزمان فى الفيلم تبدو من خلال تواصل الاحداث وعدم اختراقها بازمنة دخيلة سواء مستقبلية او فى الماضى.

اما وحدة الموضوع فهى واضحة ايضا حيث يتحول الفيلم الى فك اسباب اختفاء شخصة ايللى، بعد ان تعرض احد الاطفال الى الغرق فحاولت ان تساعده لكنها اختفت ولم يشهد احد ذلك ولا حتى الجمهور باستثناء الاطفال الذين تبدو شهادتهم ضبابية ولا تحسم الامر.

وثمة امر على غاية الاهمية فى طريقة الكتابة الدرامية لهذا الفيلم، فنوعية هذا الفيلم تنتمى الى ما نسميه عادة افلام الحبكات الصغيرة او الاسكتشات، حيث ينتهز مؤلفو هذه الافلام الفرصة لتقديم كل شخصية على حدة من خلال مونولوجات وفلاش باكات بهدف اغناء الدراما الاجمالية للفيلم، مثل افلام كوارث الطائرات فى السينما العالمية او بعض الافلام المصرية مثل فيلم (بداية) لصلاح ابو سيف او فيلم (امريكا شيكا بيكا) لخيرى بشارة، فجميع شخصيات الفيلم يتعايشون معا فى ظرف استثنائى، فعلى حين يتحدد صراعهم جميعا ضد شئ يكون هو الموضوع الرئيسى للفيلم، فان درامات صغيرة تتخلل هذا الفيلم من خلال ازمة كل شخصية على حدا كحبكات صغرى.

لكن فيلم (عن ايللى) لا يهتم كثيرا بهذ الحبكات الصغرى، اننا نتعرف على الشخصيات من خلال الحبكة الرئيسية للفيلم  وهى اختفاء ايللى وعلاقة كل منهم بها، اذ يبدو ان اصغر فرهادى لا يعول كثيرا على الحبكات الصغرى ولا يعنى بها ويراها اخلالا بحبكة الفيلم وايقاعه، فجاء فيلمه برغم ذلك اكثر ثراءا من هذه الافلام واكثر وحدة.

ان ما نسمية الغنى الدرامى ليس معناه احتشاد الحبكات وانتهاز الفرصة لتقديم اكبر عدد من الموضوعات فى الفيلم، ولكن الغنى الدرامى عند فرهادى يأتى متلازما بوحدة الموضوع وعدم الحيد عنها ، ان الغنى الدرامى للفيلم يأتى من براعة التأليف الدرامى للفيلم، وكأننا ازاء كاتب ستينى مثل ارثر ميللر، فنجوم التأليف المسرحى فى الستينات كانوا آخر عهدنا بالمؤلفين المسرحيين، فالمسرح قد ترك ساحة صراعه منهزما امام السينما، لكن فرهادى يعود بالمسرح مرة اخرى ليس على خشبة المسرح ولكن فى افلامه السينمائية.

ان اصغر فرهادى واحدا من اهم كتاب الدراما على الاطلاق بعد جيل الستينات العظيم، انه كاتب درامى تقليدى يعنى بالمؤثرات الدرامية مثل المُفاجأة والمُفارقة والانقلاب الدرامى ، ويصيغ هذه المُؤثرات ببراعة واقتدار.

الدراما التقليدية

هنا نجد انفسنا امام قضية اخرى، فالدراما التقليدية لم يكن مُرحب بها كثيرا فى النقد السينمائى المعاصر، وان الفيلم الحداثى – مثل افلام عباس كياروستامى – لا درامي بطبعه، فعلى حين حقق كياروستامى شهرته نتيجة الا درامية، فان اصغر فرهادى حقق سبقه بسبب الدراما التقليدية، لكنها على اي حال ليست افتعالية، ان موضوعات افلامه تنساب بتلقائية فيقع المتفرج اسيرا لموضوع الفيلم غير قادر على الانشغال بغيره. ويستثمر فرهادى ذلك من اجل الغوص فى قضايا المجتمع الايرانى مثل القضية الاجتماعية وتوصيف الطبقة المتوسطة الغنية والطبقة الفقيرة مثل فيلم (انفصال) الذى يُعرى المجتمع الايرانى ويدين قضية التفاوت الطبقى بصورة تبدو تحريضية.

ان افلام فرهادى – على هذا النحو – تبدو ثورية فى قالب تقليدى، فافلامه ليست تطهيرية، رغم ان الدراما التقليدية بطبيعتها تطهيرية، وهذا ما يجعلنا نتفهم لماذا حصل فيلم (عن ايللى) على دب برلين الفضى عام 2009، وحصل فيلم (انفصال) على اوسكار احسن فيلم اجنبى والجولدن جلوب لعام 2012.

ان الوحدات المسرحية الثلاث التى وضعها ارسطو ومشى على نهجها مسرح اوروبا حتى هنريك ابسن، تبدو الآن محض تقييد لكتاب المسرح المعاصر الذين يستلهمون تقنية الفيلم السينمائى بتعدد مشاهده فى كتاباتهم المسرحية اعتمادا على القدرات التقنية فى المسرح المعاصر الذى يسمح بتغيير الديكورات واستخدام تقنيات الاضاءة والصوت وعناصر السينوغرافيا الاخرى للاكثار من المشاهد.

ولعل مسرحية (روض الفرج) التى تم عرضها فى القاهرة فى منتصف الثمانينات، للمؤلف سمير سرحان والمخرج  كرم مطاوع واحدة من افضل التطبيقات لما نسميه فلمنة المسرح، فقد قام المخرج بتقسيم المسرح الى قسمين احدهما علوى والآخر سفلى، وكان يتنقل بالاضاءة بين المستويين فتتغير المشاهد بسرعة كبيرة كسرعة الانتقال فى المشاهد السينمائية ، انها واحدة من افضل الامثلة على فلمنة المسرح ولعل التجارب المصرية فى هذه التقنية شديدة الندرة باستثناء هذا العرض المسرحى العظيم  الذى بدا متأثرا تقنيا بمسرحية ايفيتا وهى واحدة من مسرحيات الثمانينات الناجحة فى كل من لندن وبرودواى  وهى تتناول حياه ايفا بيرون باسلوب المسرح الشامل ، فى وقت كان المسرح العالمى يحاول ان يستكشف طرقا جديدة لاستعاده جمهوره من السينما عن طرق فلمنة المسرح .

لكن اصغر فرهادى يقلب الآية رأسا على عقب محاولا الالتزام بتلك الوحدات – على سبيل التحدى – فجاء فيلمه (عن ايللى) تحديا واُفقا جديدا لمسرحة السينما، لكن الامر لا يبدو سهلا فلولا براعته ككاتب درامى عظيم ما استطاع ان ينتزع جوائز عالمية عن افلامه التى تبدو محكمة كسيناريوهات وودى ألن واكثر تحديا منها، فوودى ألن يتنقل بين ازمنة مختلفة ومشاهد مختلفة وتتعدد موضوعات الفيلم الواحد ضمن حبكات افلامه التى تتناول شخوصا متعددة لكل منها موضوع مستقل ضمن اسلوبه الساخر فى اصطياد هذه الشخوص على خلفيه موضوع فيلمه.

ان عشق المسرح يبدو ايضا واضحا فى فيلم (انفصال) ، فلو تخيلنا انه مسرحية فسوف تقتصر على منظرين، هما قاعة المحكمة ومنزل الاسرة، فالفيلم يكاد لا يخرج عن هذين الديكورين – مع استثناءات قليلة – بل ان بعض الاحداث – مثل – تعرض الخادمة الى الاجهاض بسبب اصطدام سيارة بها فى الشارع – هذا الحدث كان من المنطقى ان نشاهده فى مشهد خارجى – ولكن فرهادى ينقل لنا هذه الحادثة اثناء الحوار واعتراف الخادمة بذلك.

فى فيلم (انفصال) نرى زوجة تشكو زوجها الى القاضى فى بداية الفيلم، فهى تريد الهجرة الى خارج ايران لكى تتيح الفرصة لابنتهما ان تحظى بتعليم مناسب غير متوفر فى ايران، اننا لا نرى القاضى طوال هذا المشهد الذى يتكون من لقطة واحدة ، وهذا قد يكون تأثرا بالسينما الحداثية التى تتقشف كثيرا فى المونتاج والتى تميل الى اللقطات العامة بديلا عن اللقطات المقربة لمنع تعاطفنا مع الشخصيات.

ومن هذا المشهد الافتتاحى نلج الى الطبقة المتوسطة الغنية فى ايران من خلال تفاصيل حياة الزوج الذى يعيش ببزخ فى شقة فاخرة ويرعى والده مريض الزهايمر، ويضطر هذا الزوج الى استئجار خادمة لترعى والده اثناء غيابه فى العمل وغياب ابنته فى المدرسة.

الطبقات

ان الخادمة تنتمى مع زوجها المتعطل عن العمل الى الطبقة العاملة ، التى يقدمها اصغر فرهادى كطبقة مهملة ، لم تحقق الثورة الاسلامية فى ايران اى مكاسب لها، وهكذا نرى الفوارق الطبقية الايرانية والظلم الاجتماعى ، ودائما يضعنا اصغر فرهادى فى حالة من اليقظة الفكرية اثناء مشاهده فيلمه، فعندما تأخذنا الشفقة على الخادمة نظرا لحالة الاجهاض، فاننا نعود ونسحب تعاطفنا معها عندما نعرف ان اجهاضها ليس بسبب بطل الفيلم ولكن بسبب حادثة سيارة، ثم يصدمنا فرهادى مرة اخرى بخصوص الخادمة عندما نراها تتزمت اخلاقيا وترفض الحصول على ترضية مالية من الزوج الغنى، ان نفس الحال مع زوج الخادمة ،  فنحن طوال الفيلم نستشعر انه يتآمر على هذا الزوج الغنى للخروج بمكاسب مادية لكى يدفع قيمه القرض الذى لا يستطيع الوفاء به، ونرى فى نهاية الفيلم ان زوج الخادمة لم يكن مُتآمرا.

يستخدم الفيلم المُؤثرات الدرامية كثيرا وخاصة المُفاجأة ليصدمنا بحقائق طبقية وهو يعرف ان مواقفنا ونظرتنا الى الغنى والفقير يحددها انتمائنا الطبقى ويفرض علينا تحيزا مسبقا ، ان فرهادى يُصحح نظرتنا وهو لا يدين قضية التفاوت الطبقى فى ايران فقط ولكنه ايضا يدين نظرتنا كجمهور اذا كانت مبنية على اساس الولاء لطبقتنا الاجتماعية.

ليست براعة اصغر فرهادى الدرامية هى السبب الوحيد فى اهمية افلامه، ولكنها على ما يبدو سبب فى اقتصادية افلامه ايضا، فقلة عدد الديكورات تؤدى الى خفض تكلفة الفيلم، ففيلم (عن ايللى) على سبيل المثال يبدو قليل التكليف الى حد كبير وكذلك فيلم ( انفصال) وهذا قد يكون درسا لصناع فيلم الديجيتال، فبمقدورهم صنع افلام عظيمة تقليدية بميزانيات منخفضة او بدون ميزانية على الاطلاق اذا كانت لديهم موهبة الكتابة الدرامية ويعرفون مثل فرهادى كيف يقدمون القضايا الكبرى فى اطار غير تطهيرى – اذا كانوا من عشاق الدراما التقليدية – ويرغبون فى توسيع دائرة المشاهدة لافلامهم.

ان عبقرية اصغر فرهادى من وجهة نظرى هى انه مؤلفا دراميا من الطراز الاول وهى تطغى على قدراته كمخرج ، انه يرصف الطريق لنوعية من السينما – غير الحداثية – ولكنها تحريضية وثورية كالسينما الحداثية.

Visited 41 times, 1 visit(s) today