الناقد كمال رمزي يكتب عن المخرج الراحل رأفت الميهي
فى إحدى أمسيات شتاء 1968، تقابلت لأول مرة مع ذلك الشاب النحيل، صاحب الابتسامة الودودة، يضع نظارة طبية شفافة على عينيه، توحى أن صاحبها من المثقفين، طراز تعرفه فى تلك الأيام من نظرة واحدة، يتأكد حين يتحدث بعبارات دقيقة، واضحة الأفكار، تنتمى لروح اليسار، يمتزج فيها الأمل مع لعزيمة، وبدا كما لو أنه على عجلة فى أمر ما، أخذ ينهى حديثه بانفعال ساخن، عارضًا وجهة نظره بوضوح وحماس. بعد أن غادر المكان، عاد سريعًا باحثًا عن نظارة القراءة التى نسيها، بحثنا معه أخيرًا، وجدها فى الجيب الداخلى لجاكتته.
كان اللقاء فى شقة عمنا عبدالرحمن الخميسى، الكائنة فى العمارة المجاورة لمحل «جروبى عدلى»، لمن آلت هذه الشقة، حيث تشهد تجمعًا فريدًا من المثقفين، من السودان وسوريا ولبنان وفلسطين، فضلا عن المصريين محمد عودة، رجاء النقاش، محمود السعدنى، بالإضافة إلى الشباب، أيامها، إبراهيم الموجى، أسامة أبوطالب، معدى الحسينى.
فى ذلك العام، شهد العالم ما اصطلح عليه بثورة الشباب، اندلعت فى الكثير من عواصم العالم، منها القاهرة، ربما تكون دوافعها مختلفة فى مصر، حسب رؤية كل قطاع من قطاعات الشباب. فى مجال السينما، احتدمت معركة بين الجيل السائد والأجيال الجديدة، الباحثة عن مكان فى عالم الأطياف.
رأفت الميهى، طبعًا، من الوجوه الغاضبة فى تلك الأمسية، قال إن المهيمنين على صناعة السينما يشيعون أننا لا نفهم مفرداتها، وكأنها الغاز وطلاسم، وإنها أقرب للكهانوت، لا يعرف أسراره إلا هم. تحدث عن ضرورة تكتل الشباب لنزع حقوقهم فى العمل، وإبداع سينما تختلف عن السائد، الذى آن الألوان لانزوائه.
بعد عدة شهور، أعلن عن تكوين «جماعة السينما الجديدة»، وكان الميهى من أبرز وجوهها، جاء فى بيانها الأول الصادر فى يوليو 1969 «إن الذى نريده سينما مصرية. أى سينما تتعمق حركة المجتمع المصرى وتحلل علاقاته الجديدة، وتكشف معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات، ولكى تكن لدينا سينما معاصرة لابد أن نمتص خبرات السينما الجديدة على مستوى العالم كله».
لم يتزاحم الميهى كى يحصل على نصيبه من «جماعة السينما الجديدة»، بل على العكس، وقف إلى جانب الآخرين، الذين حققوا «أغنية على الممر» لعلى عبدالخالق 1972، و«الظلال فى الجانب الآخر» لغالب شعث 1974. مثبتا فى هذا أنه رجل السينما بحق، يهمه إنتاج الأفلام ذات القيمة، حتى لو لم يكتب اسمه عليها. لاحقا، حين أنشأ شركته الخاصة، أتاح الفرصة الأولى للمخرج مجدى أحمد على، كى يحقق فيلمه الجميل الأول «يا دنيا يا غرامى» 1995.
اتجه الميهى فيما يشبه المفارقة نحو التعاون مع كمال الشيخ، برغم تباعد الأفكار بينهما، المخرج الكبير كمال الشيخ، من أجيال سابقة، أميل إلى الرؤية المحافظة. الميهى محمل بتوجهات ذات طابع يسارى.. لكن الاثنين يتمتعان بسمات ردمت الهوة الفاصلة بينهما: الجدية، المقابرة، الإتقان، القدرة على الإصغاء والتفاهم، التقدير المنصف للآخر. سويًا، قدما «غروب وشروق»، «شىء فى صدرى»، «الهارب»، «على من نطلق الرصاص»، وهى من عيون السينما المصرية.
فى العام 1981، يدخل الميهى عالم الإخراج، بفيلم مدهش من تأليفه، بعنوان، «عيون لا تنام»، وبرغم صعوبة اكتشاف مصدر القصة، فإن رأفت الميهى بنزاهته، كتب فى العناوين، أن عمله مأخوذ عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» للكاتب الأمريكى يوجين أونيل.
الفيلم يرصد، بنفاذ رؤية ما يعتمل فى قلب الواقع المصرى. اختار الميهى ورشة إصلاح سيارات، تقبع فى قلب القاهرة، عند كوبرى أكتوبر. الورشة يهيمن عليها الأخ الكبير الظالم إبراهيم، بأداء فريد شوقى، يستولى على عائدها، لا يعطى إخوته إلا أقل القليل، لدرجة أنهم غادروا المكان فيما عدا «إسماعيل» ــ أحمد زكى ــ الراغبة الجنونية فى الملكية تستحوذ على الأخوين الكبير، يريد ابنًا يرثه، يتزوج من فتاة غلبانة، جميلة محاسن «مديحة كامل»، لا يتوقف عن إهانتها، تنشأ علاقة بين المضطهدين إسماعيل ومحاسن التى تغدو حاملا. تتعثر ولادتها، الطبيب يخبر إبراهيم، إما إنقاذ الأم أو الوليد بلا تردد، يختار الوليد، فالتوريث عنده أهم من أى شىء آخر». يثور «إسماعيل»، وفى مشهد عاصف، ينهال على أخيه المهيمن بعمود من حديد فيرديه قتيلا، وقد خضب الدم جبينه وسال على قميصه.
عرض الفيلم يوم الاثنين 5 أكتوبر 1981، وجاء يوم الثلاثاء 6 أكتوبر، ليفاجئنا بزن الواقع، على نحو ما، يحاكى ما جاء فى «عيون لا تنام»: رب الأسرة، الميهمن على الأمور، الرئيس، الذى زج بكل ألوان الطيف السياسى، فى السجون، يتهاوى قتيلا وقد تدفق الدم على سترته.
فى اليوم التالى 7 أكتوبر، أغلقت كل دور العرض، بما فى ذلك تلك التى تعرض الفيلم النبوءة، المثير للتأمل، بما فى ذلك نهايته الفاجعة، حين يؤول الوليد، والورشة، إلى المرأة المشبوهة، الشرهة، «أم البتعة»، نعيمة الصغير، التى تلتمع عيونها بالجشع.
فيما بعد، حقق الميهى المزيد من الأفلام، تندرج فى باب الكوميديا والفانتازيا، وأنشأ أكاديمية لتعليم السينما، وأعاد تشغيل ستوديو جلال.. وقف إلى جانب الموهوبين الجدد، مما يثبت أنه رجل السينما بامتياز. كل هذا فى كوم، ويبقى، بالنسبة لى «عيون لا تنام»، عملا فريدا، بالغ الثراء، يحتاج لمشاهدة أخرى، تفصيلية وفى العمق، رأفت الميهى، طاقة ضياء، لا تخفت بغيابه.
عن “الشروق” بتاريخ 28 يوليو 2015