الموضوع ورموزه: قراءة في فيلم “السنونوة” للمخرج مانو خليل
“الكل يضربنا، ونحن نضرب بعضنا الآخر”
“منذ عهد صدّام لم يبق شيء كما كان”
(من حوارات الفيلم).
-1-
يُعَدُّ المخرج الكردي السوري المقيم بسويسرا مانو خليل، من الأصوات السينمائية التي تمثل القضية الكردية بكل ثقلها الثقافي وتمزقاتها؛ فبعد أن درس التاريخ والقانون بجامعة دمشق، غادر سوريا نحو تشيكوسلوفاكيا سنة 1987 بغرض دراسة الدراما والإخراج السينمائي ليلتحق بعد ذلك بسويسرا حيث يقيم ويشتغل منذ 1996. تجاوزت أفلامه الوثائقية والروائية، القصيرة والطويلة، السينمائية والتلفزيونية، ما يزيد عن العشرة، وهي مكرسة في مجملها للقضية الكردية.
أتاحت لي الظروف لقاءه والتعرف إليه عن قرب مما جعلني ألمس فيه ذلك الإيمان الصادق بعدالة القضية التي يدافع عنها سيما وأن تكوينه موسوعي في مجال إتقان اللغات، فضلا عن إيمانه بقيم إنسانية كبرى كالتعايش والسلم، وهو الذي يحمل بين جوانحه أسوة ببقية الأكراد المتفرقين في مختلف البقاع والأصقاع حلمه المجهض في تكون دولة مستقلة تجمع الشتات، وإن كانت الظروف الاستراتيجية والجغرافية صعبة للغاية. يشبه الأكراد الأمازيغ والأرمين في توزعهم الجغرافي بين عدة دول كما أن طموحاتهم وأحلامهم ومطالبهم تكاد تنطبق بالرغم من اختلاف وجهات نظر بعضهم البعض تجاه نفس القضية بحكم قرون من التعايش مع أقوام وشعوب أخرى لم تكن، دائما، في أحسن الأحوال، مثلهم، بالنظر إلى القمع الممنهج الذي طال طموحاتها من طرف الجهات المُهَيْمِنَة.
يأتي فيلم “السنونو” أو الخطاف تتويجا لعمل فني دؤوب، يقارب الأشياء وفق منظور جمالي ورمزي مشحون بالثقافة الكردية والعربية والفارسية والأوروبية، فهو يحيل إلى قصة أو أسطورة “فرهاد وشيرين”، النجمان العشيقان اللذان كانت قصة حبهما شبه مستحيلة. ويدعم الفيلم ذلك المنحى الطافح بالإحالات الدالة من خلال تسليط الضوء على نمط عيش الإنسان الكردي ورؤيته لذاته في علاقتها بالكون؛ إذ يرى أن النجوم أرواح معلقة بالسماء مما يدل على أن الحب أبدي في ثقافة الأكراد، فالمُتَحَابَّيْن يظهران (يعودان) مرة في السنة على شكل نجمين في الأعالي، يلتقيان، ويعلنان عن خلود تلك العاطفة الخالدة، فقد تختفي الأجساد، ولكن رمزية الأرواح تتعالى دون وسائط لتخلق حياة أخرى منيرة ومتجددة، يستوحيها الناس في ظلماتهم كي تظل خير منير للعتمة التي يعمهون فيها…
-2-
“الحب أغلى شيء في حياة الإنسان” يقول الميكانيكي ذي اللحية الشيباء بعد أن فرغ من إصلاح سيارة “الميرسيديس” التي تعطلت في الطريق، وهي الدالة في العمق على ما يجمع بين الشابة “ميرا” (مانون بفروندر) [Manon Pfrunder] والشاب “رامو” (إسماعيل زاگروس) [Ismail Zagros] الذي حدثها مباشرة بالألمانية بعد خروجها من المطار، وهو الذي سيخبرها فيما بعد بتعلمه تلك اللغة حين طلب اللجوء السياسي هناك، لكنه لم يفلح في ذلك، وبقيت اللغة ذلك الملجأ الغريب الذي يأويه كلما سنحت له الفرصة بذلك…
في طريق البحث عن الأب “أوصمان حمه خان” يمر الشابان “رامو” و”ميرا” على مخيم للاجئين السوريين غرب كردستان، وقد قَدَّرَا عدد سكانه بحوالي ثلاثمائة ألف لاجئ تقريبا، مصائرهم متلاشية إلى نهاية كابوس الحرب، لو انتهت، وحينها لا يمكن التكهن بما ستؤول إليه الأحوال: إنه ذلك التيه الأبدي الذي يسكننا نحن معشر الرفاق الأشقاء!
قبل أن يلتحق الشاب بالفتاة التي هَمَّت بالدخول إلى البيت المُخَرَّبِ الذي كان يقطنه والدها، انحنى كي يلتقط عَقِب بندقية الكلاشينكوف التي كانت على مقربة من بابه، وهي دلالة موحية على المآل والحال والأحوال. دلفت الفتاة بداخل البيت فوجدت عش طائر السنونو، وهو ثاني لقاء لها مع الطيور حيث صادفت بضع حمامات ببيت والدها المهجور في “أربيل” حين دخلتها أول مرة. وإذا ما كانت رمزية الحَمَام راسخة في الذاكرة الإنسانية، فإن للسنونو ذِكْرٌ ورمزية في الأسطورة فضلا عن اختلاف تأويلاتِ قُدُومِه أو بنائه لعشه في منزل معين، فهو جالبٌ للسعادة ومبشر بها تارة، وحامل للنقمة ومبشر بها تارة أخرى إلا أن رمزيته ارتبطت بالهجرة والوحدة والفراق.
تتحدث الفتاة لمرافقها عن شح المعلومات التي تمتلكها عن أبيها المفقود نتيجة بخل أمها في ذلك إلا أن خصلة العناد مشتركة بينهما، فقد كانت تحرص على تذكيرها بتلك “المثلبة/الخصلة” المشتركة كلما حدثت مشاداة كلامية بينها وبين أمها. تستمر الرحلة، ويلتقي الشابان بشيخ مقاتل ضمن ألوية البشمرگة، وهو يضع قفص حجلته فوق شجيرة صغيرة كي تغرد. يطلعونه على صورة المبحوث عنه، فينهال بالسب على صاحبها الذي يصفه بالجحش نظرا لموالاته للرئيس المعدوم “صدام حسين”. ويستمر الشيخ في تأويل تغريد الحجلة بدعوى أنه دعوة مفتوحة لمناداة من “ينكحها” على حد تعبيره. وسرعان ما يشكك في انتماء الشاب الحقيقي إلى البشمرگة ما دام يرافق ابنة خائن في البحث عن أبيها “الجحش الخائن” و”زعيم الجحوش”: الخونة من البشمرگة الذين قاتلوا لصالح النظام البائد.
انعطف الشاب نحو عمارات خالية لم يكتمل بناؤها، فانتابته نوبة هستيرية بعد أن أفصح يائسا للشابة الكردية السويسرية عن قصة أبيه الذي مات بعد أن اقتحم أفراد الجيش العراقي بيت الأسرة وقاموا بتصفيته، وقد تركه طفلا لم يبلغ السابعة من عمره بعد. سيحطم بعنف بندقيته على حديد آلة “بيلدوزر” مركونة بورش البناء غير المكتمل: إنه توصيف نفسي ومجازي لحال الناس وأحوال البلد ككل!
سيتابع الإثنان رحلتهما عبر طريق شبيهة بتلك الطرق الجميلة التي صورها الراحل المبدع عباس كياروستامي؛ إذ ستستمع الفتاة بالسباحة في بحيرة جميلة على جانبها فيما يشبه التطهر الروحي من كل ما سمعته وعايشته، ولو أن الماء لا يعني دائما التطهر، بل عدم الثبات، والتجدد والحماية من الأشرار، وهو إكسير الحياة.
-3-
كتب المخرج “مانو خليل” فيلمه بطريقة بسيطة وعميقة شبيهة بسينما المؤلف الإيرانية، فضلا عن تصويره لجل المَشَاهِد واللقطات بالخارج مما أتاح له إطْلاَعَ المتلقي على جمال الطبيعة بكردستان العراق، وإظهار مهاراته السينمائية فيما يتعلق بتصوير الوجوه والفضاءات إضافة عن توليد الإيهام الذهني والبصري عبر جعل الكاميرا تتراوح بين الذاتية والموضوعية. أما من ناحية البناء الدرامي، فقد اعتمد السيناريو على شخصيتين رئيسيتين لسرد الأحداث مما جعل الانتقالات سهلة، وولوج (اقتحام) الطبقات الاجتماعية المشكلة للبنية السكانية للإقليم واضحة. اختار المخرج سينما الطريق لرصد أحوال الأكراد بعد سقوط النظام السابق بالعراق، وما تلاه من مخاضات لا تزال تبعاتها مستمرة حتى اليوم.
يطرح الفيلم مسألة الهوية لدى الشابة، فحينما تفصح عن بعض أسرار علاقتها مع صديقها السويسري نكتشف أنه يراها سويسرية ولا علاقة لها بالأكراد، وتقر هي بدورها بأن الشاب عقلاني، ينظر للحياة والأشياء بطريقة منظمة، وله إرادة وتصميم جليان. وتعزيزا لتلك الرؤية، يشكل البحث عن الأب المختفي، الغائب، الملعون.. الوعاء الفلسفي للفيلم، فهو ليس مجرد أب رمزي تريد الفتاة التعرف عليه كي يرتاح ضميرها، بل هو أب “خائن” في نظر محيطه، و”وطني” في قرارة نفسه لأنه يسهم في إعادة بناء ما تحطم، وإن كانت المقارنة لا تفيد في معادلة صلابة الإسمنت بصلابة النفوس التي تحتاج إلى تطهير خاص كما ورد على لسان الشاب قبل وفاته.
يتردد طنين البعوضة من حين لآخر بشكل مسموع مما يدل على قصديته؛ إذ تتعدد الدلالات الرمزية للبعوضة في عدة مجالات كالوشم والجيش، فهي تحيل على الحيوية والحماس والحركية فضلا عن الأحاسيس الطافحة والعواطف الجياشة. وتطغى هاته الخصال على الشابة التي تبدو صارمة وحاسمة في التزاماتها، صريحة وجريئة في علاقاتها، ولا تتردد في نقد ذاتها والآخرين: إنها تفيض طاقة وحيوية.
لم تكن الرحلة رحلة تعاسة وحزن، بل تخللتها لحظات جميلة، أَطَّرَتْهَا والتقطتها كاميرا المخرج بطريقة مناسبة لكل لحظة فيلمية كالحركات المصاحبة للشابين، وهما يجريان وسط حقول الربيع اليانعة، وقبلها لقطات الشابة وهي تلهو بِشَالِهَا من نافذة السيارة المسرعة، فتتركه يطير في الهواء. بعد وصول المسافرين إلى منطقة “لالش” المقدسة لدى الإيزديين، سيختفي الشاب عن ناظري الشابة كي يلتقي برجل يظهر ويختفي ليذكره بهدفه الأول المتمثل في البحث عن شخص مجهول معلوم، قد يكون، ربما، الأب الذي تبحث عنه الشابة. ستضيع الفتاة وسط جماهير الحجاج الإيزديين، فيسلمها رجل آخر مجهول ورقة تحمل عبارة: “أوصمان حمه خان، شركة رسول آغا.. دهوك”.
ستغادر “ميرا” بيت أسرة “رامو” قلقة بعد أن كشفت لها أخته حكاية “قائد الجحوش”، وذلك بعد أن التقى الرجل الذي وضع “رامو” في طريقها، أُمَّهُ وهو يكشف لها عن صورة لأب الفتاة أثناء توشيحه بوسام من لدن الرئيس الراحل، فتطرد الأم الفتاة التي تغادر البيت مصدومة من تصرفات مرافقها. تستقل سيارة أجرة صوب “فيلا/قصر” أبيها الذي ستكتشف بأنه غير اسمه كي يصبح “رسول”، وسيدور حوار متشنج بينهما سرعان ما سيؤدي بالبنت إلى قطع خيط العقد الذي تركه وجدته في إحدى رسائله إليها، وهي الرسائل التي كانت بمثابة خريطة الطريق صوب مقر أبيها الذي صار أحد بناة “كردستان الجديدة”.
-4-
تدخل الفتاة الحمام للاغتسال، وهو ثاني استحمام لها في الفيلم بعد البحيرة، وكأنها تتطهر من جديد بعد الحديث الذي دار بينها وبين أبيها؛ إذ سيأتيها “رامور” مباشرة بعد خروجها ثم يقضيان بعض الوقت مع بعضهما البعض، وذلك قبل أن يعترف لها بشيء ما في خاطره، سيجيب على هاتف يدعوه للالتحاق بمكان معين. لكنه سرعان ما سيقاد من قِبَلِ الشخص الذي سَخَّرَهُ لمصاحبة الفتاة، سيأخذه إلى أبنية مهجورة فَيُصَفِّيهِ رميا بالرصاص بدعوى الخيانة. ستخبر “ليلى” أخت “الضحية” الفتاة بالخبر المفجع، وينتهي الفيلم بمغادرة “ميرا” لكردستان بعد أن ركبت المراجح الهوائية لوحدها، رامية ببطاقة “دهوك” السياحية من أعلى في إشارة واضحة إلى فعل السقوط.
بعد أن وضعتها سيارة الأجرة أمام المطار، وأراد السائق أن يعيد لها النقود الكثيرة المتبقية ستجيبه بنفس العبارة التي أجابها بها ذلك الشيخ السائق الذي حملها حين استقلَّت سيارته لأول مرة، فعَقَّبَت عليه – مُتَّهِمَةً – بأنه بَالَغَ في الثمن، لكنه ترك لها كل شيء، وهو يرحب بها قائلا: “المال وحده لا يجلب السعادة”. قبل أن تلج الشابة بوابة المطار ستهاتف صديقها “ستيفان” السويسري لتطلب منه عدم انتظارها في المطار مما يعني نهاية علاقتها به، وفي الأمر مراجعة للذات، وجواب مبهم على أسئلة الهوية الممزقة التي يطرحها الفيلم بعمق: كيف يمكن التخلص من الماضي؟ هل يمكن نسيانه؟ بأي معنى يمكن للفرد أن يكون مزدوج الثقافة، والهوية أيضا؟ هل تلك الازدواجية نعمة أم نقمة؟ ترى من السنونو إذا؟ الفتاة أم الشاب أم الوالد؟ العراق ككل أم الأكراد؟
يعبر الفيلم عن مصائر شخصيات يجمعها بلد تليد، تاريخه حافل بالمنجزات والمتناقضات والأحزان التي ما أن يتخلص من إحداها حتى ينغمس في أخرى جديدة.